مثل الاديب - فى ابسط فرض - كمثل الفلكى الجاثي من وراء منظاره برصد الكواكب والافلاك . وانما يظهر الفرق بينهما ان الفلكى رجل العمل المؤقت فى حدود ومسافات معينة لا يستطيع ان يتجاوزها الى ما وراءها ، فكل عمله ان يرصد الكواكب فقط ثم لا يحاول ان يذهب الى أبعد من ذلك من عوالم اخري ليس فى مكنة المراصد تقريبا . اما الاديب او الفنان فعمله فوق ذلك ، الاديب يقف أمام منظاره ، لا ليرصد شيئا معينا بل ليرصد كل شى هو يبحث عن كل شي في الحياة ! يبحث عن الفضيلة والرذيلة ، عن العظمة والحقارة ، عن السمو والانحطاط ، فعمله لا يتقيد بحدود ومسافات ، بل يخترق الحدود ويتجاوز المسافات ليصل الى اعمق الاعماق فى كل شى . فى حركة الحياة ، وفى النفس الانسانية التى هى منبع الحياة ، وفي مناظر الكون التى ابدعتها قدرة الله : والاديب بعد هذا ليس هو رجل العمل المؤقت بل هو رجل الحياة المستمرة التى تتعاقب امام انظارنا فى شتى مواكبها ودرجاتها ، وليس منظاره - بعد ذلك - الا ملكة ذهنية وقدرة نفسية ! فهو بهذين الشيئين يستطيع ان يرى ويتصور العالم من خلال ذهنه ونفسه ، او فى باطنهما بالذات ، اذ تتسع النفس احيانا فتشمل كل شئ ، ويسمو الذهن احيانا فيحيط بكل شئ.
وفي الذهن السامي ومضات سريعة فيها معني من معانى الاشراق والكهرباء معا ، يتصل كل منهما بالنفس الانسانية المتطلعة الى اثار الاديب ، فتنجذب نحو الحق بداعى الكهرباء وتسير فى طريقه بداعي الاشراق .
وفى النفس الرحبة التى تتسع لجميع مواقف وفصول الحياة ما يساعد على اداء المهمة الادبية بدقة وامانة ، اذ تكون الومضات صادرة عن احتكاك
قوي فى داخل النفس - يستجيب لنتائجه الذهن السامي بسرعة - ، وليست عن اعمال بهلوانية ، او شكليات تزجى حسب الطلب والامزجة والمناسبات فليس الاديب البلهوانى الا اكذوبة من اكاذيب الحياة ، الغرض منها تضليل الاذهان الكليلة التى لا تفقه معنى الفن ، ولا تحفزها دواعي السمو .
هذه كلمة موجزة اكتبها الان تمهيدا لما سيتبعها من كلمات تحت هذا العنوان الذي يشير الى الحياة باكملها في مقاييسها المتنوعة ، ودرجاتها من النقص او الكمال والى كل ذلك توجه مناظير الادباء والفنانين من كل صوب ، وعسى أن أوفق ,
