الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "المنهل"

ما خلا جيل من سخرية

Share

" اشعر بان هذا الانتاج الذي ينتجه الاستاذ فى مقالاته التى من هذا النوع هو من ادب الجبل الجديد ، ادب الفكرة العميقة الواسعة والتحليل الفلسفي الواقعي الجميل "

ما أظن احدا من الناس يعرف ان جيلا من الاجيال البشرية خلا من السخرية فى حياته الاجتماعية حتى لكان السخرية سنة من سنن الحياة التى لا يمكن للاحياء ان يتخلصوا منها . او يتخلصوا عنها بوجه من الوجوه . بالرغم مما بذل من المجهودات فى سبيل منعها او التخفيف من وطاتها بين الناس . فلا تكاد ترى الانسان فى مكان الا وجدت السخرية معه وكانه من المحتم ان يسخر الناس بعضهم من بعض . وما من مجتمع من المجتمعات البشرية الاوله فى ميادين السخرية جولات وله فيها اقاصيص وحكايات .

وما دام الناس لا تروقهم الحياة ما لم تكن مشوبة بالسخرية لنا ان نقول ليسخر من شاء بمن شاء او بعبارة اخرى ليسخر الناس بمن شاء ان يجعل نفسه موضع سخريتهم وممن لم يشأ لنفسه ذلك فماهم بضارين بها من احد سوى انفسهم وسبعفي الدهر على الساخرين ويضفى عليهم وعلى سخريتهم ثوبا من الفناء المطلق الذي لا ينبث يقول لا تهفو اليه الاسماع . ولا يثير لهم ذكرى تهوى اليها القلوب

وسوف لا يدع لهم سطرا يذكرون به في التاريخ . وسيبقي على الاجيال ذكر المسخور منهم والمستهزا بهم . والمضحوك عليهم سواء كانوا من الصنف الذين رضي لأن يكون محلا للسخرية أو ممن لم يرض لنفسه ذلك فسيحتمل الفريقان . سخرية الساخرين بصدور رحبة مادام الناس لا يعفونهم من سخريتهم ومادامت السخرية لا تقلل من قيمتهم فى نظر الحقيقة والتاريخ .

قد يرى البعض انى اغربت فى القول . او خانني القلم فاختلط على التعبير . والواقع انني لم ات بقول يمت إلى الغرابة فى شىء . ولم يختلط على القول . وسأحاول تبيان ما قدمت .

يتبادر إلى الذهن - مما قلت آنفا - انه إذا جاز ان يبقى على الاجيال ذكر من لم يرض لنفسه ان يكون محلا لسخرية الناس ولكن الناس لم يعفوه من السخرية فكيف يسوغ ان يبقى على الاجيال ذكر من رضي لنفسه ان يكون هدفا للسخرية ومحلا للهزء . بامتهانه للأعمال التى تدع الذين لا يميلون إلى السخرية بالناس يسخرون به ويتضاحكون عليه . اذ لا يرضى بذلك الا كل من حرم من الاحساس بماله من عزة وجرد من الشعور بما لنفسه من كرامة وبمالها عليه من حقوق . ومثل هذا جر الى نفسه الاستخفاف به فى حياته فكيف تطيب النفوس الى تخليد ذكراه بعد مماته . ولا يخلق بهذا الا ان يتناساه الناس لا ان يعتنوا به عناية تجعله فى مصاف الذين سموا بانفسهم فكانوا من الخالدين . وهذا صحيح الى حد ما . لولا ان من الذين شاءوا لانفسهم ان يضعوها موضع الهزؤ والسخرية لم تكن مشيئتهم تلك عن عبث بنفوسهم او استهانة بها ولكنهم يرمون من وراء ذلك إلى غرض من الاغراض النافعة فضحوا بكرامة انفسهم ليحتفظ مجتمعهم بكرامته بين المجتمعات . ولم يكن كل ما يأتونه من اعمال السخف لاضحاك الناس واستثارة كوامن الهزؤ فيهم الاعن رغبة ملحة قامت في نفوسهم هى بغية اصلاح المجتمع الذي يحيون فيه . وهذه الرغبة هى التى دفعتهم الى اتيان

ما اتو به . وما كانت هذه الرغبة لتقوم فيهم لولا ما آنسوه من آلام محضة حزت فى قلوبهم . من جراء ما يأتيه المجتمع من سخافات واعمال لا تليق ان تصدر من مجتمع يحترم نفسه فدفعهم ذلك الى التفكير في طريقة تبين للناس سخافاتهم فى اشنع صورها . ولم يصل بهم التفكير الا الى هذه الطريقة المزرية بهم - فى نظرنا - فرضوا ان يهدروا كرامة انفسهم ليتحذروا من القيود التى لا يتسنى لهم معها مجابهة الناس بالنقد اللاذع دون ان يستثيروا حفيظة احد عليهم الا إذا تحرروا منها . فاقدموا على ما اقدموا عليه وهم على علم تام بما سيصليهم به الناس من قهاقه السخرية ونظرات الاستخفاف . فكان قيامهم بتلك الاعمال لم يكن الا عن فلسفة اقتنعوا بها فيما بينهم وبين انفسهم بعد طول الدرس وتقليب اوجه الفكر .

نتفهم هذا مما نشاهده من هؤلاء الذين يقومون بتمثيل الادوار الهزلية فى " بلاد المراسح " فان هؤلاء الممثلين الهزليين لم يقصدوا من وراء تزييهم وتلونهم بالازياء والالوان التى تجعلهم فى حالة مزرية ومضحكة معا تحقير انفسهم وانما آرادوا بذلك وبما ياتونه من اقاويل وافاعيل تثير الضحك في نفوس المشاهدين تارة وتثير الأشمئزاز والتقذر تارة اخرى تهذيب النفوس وتقويم المعوج . اذا انهم يصورون ما يستهجن من الامور تصويرا لا يرتضيه احد لنفسه وكانهم يقولون بطريق غير مباشر للسخفاء الحقيقين الذين تابى عليهم عنجهيتهم ان يقروا السخف فيهم ما انتم الا اضحوكة للناس كما نحن لهم اضحوكة ولكنكم لا تشعرون وقد اضحكناكم على سخفكم المتمثل فينا ايها السخفاء فهل انتم منتهون افلا يكون من هذا مقصده فى الحياة وذلك مرماء من عمله جديرا بان يخلد فى الحياة كما يخلد غيره من المصلحين ؟

ونحن نرى كثيرا من الناس مشوا على الأرض وعمروها تم تركوها دون ان يكون لهم فيها اثر يعرفهم به من خلفوهم عليها من بعدهم . ولكن التاريخ لم

يكد ينسي احدا ممن كان موضع سخرية الناس وهزهم سوءا كان من الصنف . الذين رضوا لأنفسهم ان يسخر الناس بهم من امثال ابي العبر . وجحا . وبهلول وغيرهم من اشباههم فى كل أمة وفي كل جيل . أو من الصنف الذين ترفعوا بانفسهم وعقولهم ان ينزلوا بها إلى مستوى العامة وهاجموا ما تواطا عليه الناس . من أمور تضر بالانسانية وتعيقها عن الصعود إلى مستواها اللائق بها . فى جد وصراحة . وحزم وصرامة . فأثاروا بذلك غضب فريق من الناس عليهم وسخرية فريق اخر بهم واحفظوا اقواما واستعدوا عليهم اخرين . واولئك هم المصلحون . الذين لا يحملون للناس غير الحب ولا يعملون الا لينيروا سبيل الخير والفلاح ويمهدوا طريق الحق والقوة ليسلكها الناس اجمعين فقوبلوا بالسخرية وهم بالاحترام أولى وقوبلت أقوالهم بالاعراض والتجاهل وهي بالتدبر احرى .

وقديما انحى الساخرون على انفسهم باللائمة عند ما تبين لهم امعانهم فى . السخرية واهزوء بدون مبرر سوى التشبث والرضا بما هم فيه مما لا يتفق وسنن الحياة .

وسينحي الساخرون في كل مكان وكل زمان على انفسهم باللائمة إذا ما ثاب . اليهم رشادهم وسوف ينبذون كرها أو طواعية أعمال السخف والجهالة التى تتمثل ببشاعتها وشناعتها في اشخاص التفريق الاول وسيستبين لهم مبلغ تسامي الفريق . الثاني . فيودون اللحاق بهم والسير على سنتهم والمستقبل كفيل بتحقيق كل ذلك وان جهلوه - الآن - .

وان للتاريخ لما نحن فيه اشباه ونظائر فليتدبروه فان فيه عظة وذكرى لقوم يتبصرون .

وأخيرا : إذا لم يسع الناس الا ان يسخروا من هؤلاء وهؤلاء فليسخروا منهم فان ذلك ليس بضارهم ما دامت العاقبة لهم وتمجيد الأجيال وقفار عليهم وللساخرين العفاء وليس بهم فى ذلك خير عزاء

مكة المكرمة

اشترك في نشرتنا البريدية