الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

ما قاله القدماء فى نقد الشعر ( * )، فى صناعة الشعر

Share

و فى الشعر ((I المسموع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه ولا حجة فى عربيته ولا أدب يستفاد ولا معنى يستخرج ولا مثل يضرب ولا مديح رائع و لا هجاء مقذع ولا فخر معجب ولا نسيب مستطرف . وقد تداوله قوم من كتاب الى كتاب لم يأخدوه عن اهل البادية ولم يعرضوه على العلماء وليس لاحد اذا اجمع اهل العلم والرواية الصحيحة على ابطال شئ منه ان يقبل من صحيفة و يروى عن صحفى .

وقد اختلفت العلماء فى بعض الشعر كما اختلفت فى بعض الاشياء إما ما اتفقوا عليه فليس لاحد ان يخرج منه .

وللشعر صناعة وثقافة يعرفها اهل العلم كسائر اصناف العلم والصناعات منها ما تثقفه العين ومنها ما تثقفه الاذن ومنها ما تثقفه اليد ومنها ما يثقفه اللسان .

من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراز ولا وسم ولا صفة ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف بهرجها وزائفها وستوقها ومفرغها ومنه البصر بغريب النخل والبصر بانواع المتاع وضروبه واختلاف بلاده مع تشابه لونه ومسه وذرعه حتى يضاف كل صنف الى بلده الذى خرج منه وكذلك بصر الرقيق فتوصف الجارية فيقال ناصعة اللون جيدة الشطب نقية الثغر حسنة العين والانف جيدة النهوض ظريفة اللسان واردة الشعر فتكون فى هذه الصفة بمائة دينار وبمائتى دينار وتكون اخرى بألف دينار واكثر لا يجد واصفها مزيدا على هذه الصفة وتوصف الدابة فيقال : خفيف العنان لين العظام شديد الحافر فتى السن نقى من العيوب فيكون بخمسين دينارا او نحوها وتكون اخرى بمائتى دينار وأكثر وتكون هذه صفتها .

ويقال للرجل والمرأة فى القراءة والغناء انه لندى الصوت والحلق طل الصوت طويل النفس مصيب اللحن ويوصف الآخر بهذه الصفة وبينهما بون بعيد يعرف ذلك العلماء عند المعاينة والاستماع له بلا صفة ينتهى اليها ولا علم يوقف عليه وان كثرة المدارسة لتعدى على العلم به فكذلك الشعر يعرفه اهل العلم به .

قال محمد : قال خلاد بن يزيد الباهلى لخلف بن حيان أبى محرز وكان خلاد

حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله باى شئ ترد هذه الاشعار التى تروى قال له هل فيها ما تعلم انت انه مصنوع لا خير فيه ؟ قال : نعم . قال : قال : افتعلم فى الناس من هو اعلم بالشعر منك ؟ قال : نعم . فلا تنكر ان يعلموا من ذلك اكثر مما تعلمه انت .

وقال قائل لخلف : إذا سمعت انا بالشعر استحسنه فما ابالى ما قلت فيه انت واصحابك قال له : إذا اخذت انت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف انه ردىء ، هل ينفعك استحسانك له ؟ .

عيار الشعر

علة حسن الشعر( *)  وعيار الشعر ان يورد على الفهم الثاقب فما قبله واصطفاه فهو واف وما مجه ونفاه فهو ناقص . والعلة فى قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذى يرد عليه ونفيه للقبيح منه واهتزازه لما يقبله وتكرهه لما ينفيه ، ان كل حاسة من حواس البدن انما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له اذا كان وروده عليها ورودا لطيفا باعتدال لا جور فيه بموافقة لا مضادة معها ؛ فالعين تألف المرآى الحسن وتقذى بالمرآى القبيح الكريه والانف يقبل المشم الطيب ويتآذى بالمنتن الخبيث والفم يلتذ بالمذاق الحلو ويمج البشع المر والاذن تتشوف للصوت الخفيض الساكن وتتأذى بالجهير الهائل واليد تنعم باللمس اللين الناعم وتتأذى بالخشن المؤذى والفهم يانس من الكلام بالعدل الصواب الحق والجائز المعروف المألوف ويتشوف اليه ويتجلى له ويستوحش من الكلام الجائز والخطأ الباطل والمحال المجهول المنكر وينفر منه ويصدأ له فاذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوما مصفى من كدر العى مقوما من اود الخطأ واللحن سالما من جور التأليف موزونا بميزان الصواب لفظا ومعنى وتركيبا اتسعت طرقه ولطفت موالجه فقبله الفهم وارتاح له وانس به واذا اورد عليه على ضده هذه الصفة وكان باطلا محالا مجهولا انسدت طرقه ونفاه واستوحش عند حسه به وصدىء له وتآذى به كتأذى سائر الحواس بما يخالفها على ما شرحناه .

وعلة كل حسن مقبول الاعتدال كما ان علة كل قبيح منفى الاضطراب والنفس تسكن الى كل ما وافق هواها ، وتقلق مما يخالفه ولها احوال تتصرف بها فاذا ورد عليها فى حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزت له وحدثت لها اريحية وطرب فاذا ورد عليها ما يخالفها قلقت واستوحشت .

وللشعر الموزون ايقاع يطرب الفهم لصوابه وما يرد عليه من حسن تركيبه واعتدال اجزائه فاذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفط فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تم قبوله له واشتماله عليه وان نقص جزء من اجزائه التى يعمل بها وهى : اعتدال الوزن وصواب المعنى وحسن الالفاظ كان انكار الفهم اياه على قدر نقصان اجزائه .

النقد الفلسفى للشعر

" العلم بالشعر ((I ينقسم أقساما ، فقسم ينسب الى علم عروضه ووزنه ، وقسم ينسب الى علم قوافيه ومقاطعه ، وقسم ينسب الى علم غريبه ولغته ، وقسم ينسب الى علم معانيه والمقصود به ، وقسم ينسب الى علم جيده ورديئه ، وقد عنى الناس بوضع الكتب فى القسم الأول وما يليه الى الرابع عناية تامة ، فاستقصوا أمر العروض والوزن وأمر القوافى والمقاطع وأمر الغريب والنحو ، وتكلموا فى المعانى الدال عليها الشعر وما الذى يريد بها الشاعر ، ولم أجد أحدا وضع فى نقد الشعر وتخليص جيده من رديئة كتابا ، وكان الكلام عندى فى هذا القسم أولى بالشعر من سائر الاقسام المعدودة . . . فان الناس يخبطون فيه منذ تفقهوا فى العلوم فقليلا ما يصيبون ، ولما وجدت الأمر على ذلك وتبينت أن الكلام فى هذا الامر أخص بالشعر من سائر الأسباب الآخر ، وأن الناس قد قصروا فى وضع كتاب فيه رأيت أن أتكلم فى ذلك بما يبلغه الوسع " . .

فى اللفظ والمعنى

اللفظ جسم (2 ) ، وروحه المعنى ، وارتباطه به كارتباط الروح بالجسم : يضعف بضعفه ، ويقوى بقوته ، فاذا سلم المعنى واختل بعض اللفظ كان نقصا للشعر وهجنة عليه . كما يعرض لبعض الاجسام من العرج والشلل والعور وما أشبه ذلك ، من غير أن تذهب الروح ، وكذلك ان ضعف المعنى واختل بعضه كان للفظ من ذلك أوفر حظ ، كالذى يعرض للاجسام من المرض بمرض الارواح ، ولا تجد معنى يختل الا من جهة اللفظ ، وجرية فيه على غير الواجب ، قياسا على ما قدمت من أدواء الجسوم والارواح ، فان اختل المعنى كله وفسد بقى اللفظ مواتا لا فائدة فيه ، وان كان حسن الطلاوة فى السمع ، كما أن الميت لم ينقص من شخصه شئ فى رأى العين ، الا أنه لا ينتفع به ولا يفيد فائدة ، وكذلك ان اختل اللفظ جملة وتلاشى لم يصح له معنى ، لانا لا نجد روحا فى غير جسم البتة .

( 1 ) من كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر المتوفى سنة 337 ه . ( 2 )العمدة لابن رشيق القيروانى المتوفى سنة 463 - الجزء الأول - ص 031 و 041 - طبعة القاهرة 1934 .

اشترك في نشرتنا البريدية