أيها الحفل الكريم ،
قديما قال الفيلسوف الفرنسى رينيه ديكارت : ((أنا أفكر ، فأنا اذن موجود)) وهو ما يعنى بمفهوم المخالفة أن من لا يفكر قد نفى وجوده وألغى من الدنيا كيانه فالفكر هو دليل الوجود ، بل هو أول دليل عليه واكبر مصداق له ، وعندما انكر ديكارت كل شئ ، ونفى كينونة كل شئ ، لم يسعه الا ان يعترف بالفكر : الفكر الذى ينكر ، والفكر الذى يثبت ، والفكر الذى يبدع ، والفكر الذى ينشئ ويعمر والفكر الذى قامت بفضله الحضارات وازدهرت ، والفكر الذى من آثاره استبحار العمران واتساع مجالات المعارف ، وكشف المعميات والمغمضات والاسرار الدفينة . ولولا الفكر ، أى لولا العقل ، لتطاولت عصور الظلام والهمجيات ، ولبقى الانسان سادرا فيها من أول الازل الى منتهى الابد .
وكأنما آثر الاديب العالم محمد مزالى منشئ مجلة (( الفكر )) ان يطلق على دوريته هذا الاسم من قبيل التوجه الى المنبع الاصيل لكل مظاهر التفكير والرياضة العقلية . فالفكر هو الجامعة الكبرى التى فى دوحتها الباذخة تترعرع الآداب والعلوم ، وتزدهر الفلسفات والرياضيات وسائر المعارف الانسانية والتطبيقية وهو بذلك قد جمع فأوعى ، وأحاط فألم ، وركب البحر فاستقل السواقى ، وقصد المنبع فاذا الروافد جميعا رهن يديه .
فالفكر يتسع لجميع مغامرات الافكار ، وتجارب العقول ، وبواعث الالهام ، ومورثات الابداع ، ورياضات الذهن : شعرا ونثرا ودراسة وتحليلا وقصة وخاطرة ، وما شئت من أوعية العلوم والمعارف فى دنياها الرحيبة .
والتاريخ المجيد الذى قطعت منه مجلة (( الفكر )) ثلاثة عقود ، شاهد على انها سارت برعاية ربانيها محمد مزالى والبشير بن سلامة ترفع رايات المعرفة عالية ، وتخلص الولاء لرسالة الفكر الصادقة ، وتفتح الساحة أمام الاعلام والشداة ، وتوطئ منابرها لكل صاحب رسالة وموهبة ورأى وضمير ، وتحقيق الالفة الوثقى بين أبناء الضاد فى جميع أمصارهم ، وتتمثل قول الشاعر محمود أبى الوفا ((وطنى هو الفصحى)) ، وتؤمن بأن الادباء جميعا أبناء خؤولة وعمومة فى دنيا مائجة بالعروبة الصحيحة . وأول العروبة لسان وفكر وضاد .
يقول محرر (( الفكر )) فى صدارة عدد من أعدادها المبكرة : (( ان الواجب والوفاء لأسمى معانى الفكر يقتضيان من رجل الفكر أن يعمل عملا كاملا صادقا بالفكر واللسان والجوارح من أجل تجسيم ما يراه الحق والخير والجمال والعدالة وكل القيم التى هى حلم البشر )) .
فكم هى عظيمة أهداف مجلة (( الفكر )) ومآربها اذ تتطلع الى تحقيق المثاليات التى هى حلم البشر من حق وخير وجمال وعدالة وقيم جامعات شامخات .
وان متابعتى الحثيثة لاعداد (( الفكر )) من سنتها الاولى ، لتؤكد لى ما اكدتا لجمهرة القارئين من أنها مجلة اعتصمت بخوالد القيم ، وتوفعت عن عوارض المآرب ، واستنت لها دستورا متعالى المقاصد ، وظلت طوال عمرها - الممدود باذن الله عقودا وعقودا طويلة مقبلة - حفيظة على نقاء عروبتها وصفاء صفحتها وهو هو ديدن العلماء الاصلاء الآخذين النفس بأصرم المناهج وأقومها . والتاريخ المسطور لمجلة (( الفكر )) خليق بأن يضعها فى منزلة كريمة بين أمجد المجلات الثقافية التى عرفها عالمنا العربى .
وقد اختارت مجلة (( الفكر )) فترة عصيبة من فترات التاريخ الادبى المعاصر للصدور وكان حريا بمنشئها - لو لا روح التحدى - أن يطوى أوراقه وأقلامه نزولا على أحكام الواقع الأدبى المرير الذى اصطلحوا على تسميته بمحنة الادب . كنا فى ذلك الوقت نرى مصارع المجلات الادبية العريقة الواحدة بعد الاخرى ، وكأن بينها سباقا على النهاية ، ونأسى للمآل الذى تردى اليه الادب فى ديارنا ونتطير من أى مشروع لاصدار مجلة أدبية جديدة ، ولكن هذه المثبطات جميعا لم تفت فى عضد منشئ ((الفكر)) بل زادته تحديا واستهانة بالمصاعب، ففى عام 1948 حجب طه حسين مجلته (( الكاتب المصرى )) بعد أن عاشت ثلاث سنين قصارا ، وفى عام 1952 ودعت مجلة (( المقتطف )) لفارس نمر ويعقوب صروف
عمرا رخيا أربى على خمسة وسبعين عاما ، وفى عام 1953 تعاقبت على الاحتجات أربع مجلات هى (( الرسالة )) لأحمد حسن الزيات بعدما عاشت عقدين من الزمان و (( الثقافة )) لأحمد أمين بعد أن صدرت أربعة عشر عاما ومجلة (( الكتاب )) لعادل الغضبان بعدما انتظمت فى الصدور ثمانى سنين ، ومجلة (( علم النفس )) للدكتورين يوسف مراد ومصطفى زيور بعد أن عاشت ثمانى سنين ، فاذا كانت هذه المجلات تتساقط الواحدة فى اثر الأخرى فى المشرق العربى ، وكأنما تنذر المجتمع الادبى العربى بالمخاطر المحيقة باصدار المجلات الادبية ، فكيف يفكر مغامر فى اصدار مجلة أدبية فى المغرب العربى وأمامه عبرة العبر وقارعة القوارع ؟ ومع ذلك راح منشئ المجلة التى نحتفل اليوم بعيدها الثلاثين يستنجد بالامل وتحدوه روح التحدى ، ويقتحم العقبات ، ومن المؤكد أنها لم تغب عن باصرته وبصيرته ، ومن كانت له رسالة ، آده ألا يؤديها ، ومن كان له ايمان أكربه أن يتزعزع أو يتخاذل ، ومن نذر نفسه لمطالب الفكر ، فليخض التجربة مهما حفلت بالكبوات والمصاعب ، وليثبت للمتطيرين أن راية الفكر لابد أن تعلو وتعلو ، فان انطوت فى المشرق ، فهى منشورة خفاقة فى المغرب ، وان داهمتها صروف الدهر هناك ، تشامخت على موردات الحتوف هنا .
فمجلة (( الفكر )) ولدت لتعيش ، وعاشت لتؤدى رسالة الفكر ، وهى ماضية فى حمل الامانة الفكرية فى ديارات العرب جميعا تدعو - كما قال محررها فى صدارة عدد من أعداد سنتها الثامنة - الى جمع التراث ونشره وتشجيع المواهب والانكباب على نقل عيون أدبنا الى اللغات الاجنبية فتثرى بذلك آداب الانسانية وتكون عنصرا من عناصر الحياة فيها ..
وبعبارة أخرى ، لقد حرصت مجلة (( الفكر )) منذ صدورها على أن تعيش فى محيطها العربى ، أصولها ممتدة فى التراث ، وجذوعها غير منفصلة عن الواقع ، وفروعها متطلعة الى آفاق بعيدة . وهى الى ذلك تعيش فى دنيا من الحضارات السامقة ترتبط بها وتتحاور معها ولا توصد تلقاءها الابواب .
واذ نقلب اعداد (( الفكر )) ، منذ نشأتها نراها قدر فتحت صدرها لأدباء العرب جميعا باعتبارها منبرا عربيا يرتقيه كل مؤمن بلسان العصر ورسالة الأدب ومطالب الفكر أيا كانت الهوية الاقليمة التى يحملها ، فهى مجلتنا جميعا فى المشرق والمغرب وفى الجنوب والشمال ، وهى لساننا الفصيح لدى المستشرقين وجامعات الغرب ، وهى سجل أمين لتطور الادب والفكر لا فى تونس العزيزة وحدها ، بل فيها وفى ديارات العرب أينما وليت وجهك . فان كان للمجلة
وحى متعال تستوحيه ، فهو الوحى العربى الصحيح الذى كان الحبيب بورقيبة من أوائل الداعين اليه الصادقين فى النضال من أجله ، مما عرفناه وخبرناه وتزودنا منه عندما كان يقود معارك الاستقلال من القاهرة .
وفى مناسبة العيد الثلاثينى لمجلة (( الفكر )) الرصينة الشريفة ، يطيب لنا معاشر الادباء ونحن نجزل لها التهنئات القلبيات بهذه السانحة السعيدة ، أن نسوق لها أمنياتنا كحملة أقلام خضرمتهم الايام .
فالأدب الذى نريده ، والفكر الذى نبتغيه انما يصبوان الى التوجيه والارشاد لا الى المتابعة والمسايرة والمجاراة ، والاديب الحق هو الذى يعرف مكانته فى الجماعة رائدا ومشيرا ، فلا يرتضى ذلة ، ولا يقنع بمنزلة تجحد فضلة وتحشره بين الذيول ، وما أعظم المتنبى القائل :
وما الدهر الا من رواة قصائدى إذا قلت شعرا ، كان لى الدهر منشدا
فهنا هنا كبرياء الفكر والادب ، كبرياء العلم لا كبرياء الجهل ، كبرياء الخلود المكتوب للادب ، ولا كبرياء العنجهيات الفوارغ التى تذروها أهون الرياح وما اصدق الشاعر القروى الذى خاطب المتنبى قائلا :
عيال على ذكراك ذكرى ملوكه وأسماؤهم فيه على اسمك ضيفان
خلدت فخلدت الزمان وهكذا تموت وتحيا بالنوابغ أزمان
فبالنوابغ تحيا الازمان ، وبخلود الشعراء يخلد الزمان ، وكل الاسماء عالة على اسم شاعر قومه وضيفان عليه .
فالأدب الذى نريده ، مكانه فى صدارة القوم ، والمهمة التى يضطلع بها الأديب لها من القداسة والجلال ما يجعله يدرك خطورتها ويقدر تبعاتها ويعرف أنه انما يهدى الى طريق الفضائل والقيم والمكارم الباقيات ، وأنه يتخذ من ضميره مرشده وعاصمه فى آن ، فالادب الذى نبتغيه هو أدب رسالات ، أدب حضارات , أدب مفاخر مشمخرات ، أدب ينقلنا من وهدة الى قمة ، ومن مجد الى ما هو أمجد ، ومن علو الى مرتقيات أعلى منه وأبعد سموقا .
ولن يستطيع الادب أن ينهض بمقتضيات هذه الأمانة العظيمة الا اذا كان الادب نفسه عظيما فى ريادته ، عظيما فى قيادته ، عظيما فى أصوله الثابتة فى أرض الضاد ، وفروعه الضاربة فى أعنة السماء .
فالادب الذى نريده ، هو أدب أعلياء لا أدنياء ، أدب علم وعرفان لا أدب أبواق وطبول ، أدب يضاف الى رصيد الامة العربية لا أدبا يجوز على جميع أرصدتها .
نريد أدبا بانيا لا أدبا هادما ، أدبا يبنى الاخلاق ، ويؤثل القيم ، ويؤصل المناقب العربية العريقة ، ويخلق الحياة الفكرية خلقا جديدا ، وليس أدبا ما يرفع المعاول على التراث العربى الخالد ، وليس أدبا ما يحفر القبور لعباقرة الضاد على امتداد التاريخ .
والحمد لله أن مجلة (( الفكر )) قد فطنت الى هذه الآفاق البعيدة وساهمت أكرم اسهام فى السعى الحثيث لبلوغها .
بارك الله الفكر الذى تمثله مجلة (( الفكر )) ، وبارك الله ربانيها العظيمين محمد مزالى والبشير بن سلامة ، وبارك الله أرض تونس الخضراء التى أنبتت هذه الدوحة اليانعة ، وبارك الله حبيبكم وحبيبنا الرئيس العظيم بورقيبة .
