الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

مجلة " الفكر " والشعر العربي

Share

1 - " الفكر" تفجر الشعر التونسي :

بزغت مجلة الفكر ببزوغ الاستقلال وكان همها اشعاع فكر مستقل له طابع تونسى ، تكون الاصالة فيه غير منفصلة عن التفتح ويكون اللون المحلى فيه  منصهرا مع بقية الالوان المحلية العربية ليكونوا جميعا قوس قزح يلف الساحة العربية من خليجها الى المحيط .

اخذ الشعر حقه من اهتمامات هذه المجلة فخصصت له خمس مساحتها تقريبا بصفة منتظمة ومنظمة رافعة عنه كل القيود . وقد وسعت هذه المساحة  جل الشعراء التونسيين وكانت منبرا مفتوحا لهم على مسافة عشرة أشهر من كل سنة ولربع قرن تتجمع عندها الاجيال وتفترق وتظهر الاسماء محتشمة فى " البريد " وبعد فترة تطول او تقصر تتجذر وتظهر على الغلاف الخارجي الامامى او تجتث . ويتداول على التحرير فيها الجد والابن والحفيد .

فسحت المجال لكل انماط الشعر الموزون ، والحر الجديد . وفي غير العمودى والحر والنثر الشعرى وحتى الكلمات المقفاة شريطة ان يكون كل ذلك محتفظا او متحفظا على مضمون فنى ومتشبعا باحساس وبجو ومتخذا لموقف واضح ومحدد - اذا امكن جديد - . ان ينطلق الشاعر بوعى كاف من مخطط لرؤية عن الكون والانسان نابعة من كيانه ومن احساسه مهما كانت هذه  الرؤية بسيطة ( لا سطحية ) . وان تكون هذه الرؤية متشبعة ومشحونة  بعاطفة حقيقية (كشكل ) . وقد تقلصت هذه المساحة بالنسبة لشعر  المناسبات الاجتماعية والسياسية الا الذى ارتبط بالوطنية ، لان مثل هذا  الانتاج التطوعي او بالتكليف تتسلط عليه العواطفية والتطرف الزخرفى والتكليفية الترسيمية وينتهى بانتهاء مناسبته .

من الاجحاف ان نقول : ان " الفكر " كانت دائما تواكب الطليعة ، بل انها هى التى توجد الطليعة ثم تواكبها وتطورها وتطوع لها القارىء الى ان تترسخ بينما غيرها لا تفتح المجال الا للراسخين فى الشعر لكي لا نقول

لمحترفيه . ونحن نعتقد ان اخطر دور لعبته " الفكر " يتمثل فى خلقها لما يسمى بالتربية الجمالية عند شعرائها وهذا يتمثل فى : 1- القدرة على التعبير الجمالى المستقل 2 - التذوق الاحساسي الجمالى الصافى 3 - الحكم والتقدير والقياس .  2 - " الفكر " توحد مضامين الشعر التونسي رغم تفرد الشعراء :

تركت مجلة الفكر وعلى الدوام لكل شاعر استقلاليته فى اختيار وسائطه الفنية للتعبير والتبليغ وفسحت المجال حتى لمن ارتد أو تمرد على وسائطه لكن  دون السماح بالسقوط فى الفوضى أو الالتباس أو الانسلاخ أو التذبذب أو  المسخ . لم تحدد - لا تلميحا ولا جهارا - مضامين أو اشكالا بعينها كما هو  بالنسبة لبقية المجلات ، بل بالعكس قاومت كل ما يفقد الشاعر ظله او يكون له عدة ظلال . وقاومت كل شاعر لا يلتزم بخصوصياته الابداعية الطبيعية التى تحتمها عليه سماته المزاجية الشخصية وقدراته العقلية واطره البيئة  والاجتماعية . لكن بالرغم من كل ذلك ورغم ممارسة الشاعر لاستقلاليته  وشعوره بذلك خلال عمليات التكوين الفني واتساع رقعة اختياراته لاشكاله ورغم الاختلافات المتعددة فى المفاهيم ، والتفردية فى الشكل والمضامين  - بالاخص البكر - مما يكسب بعض الاعمال خصائص لها من الطبيعة القوية ما يخول لها الافلات والتفرد ، نجد ان مجموع هذه الاعمال تتحرك في وحدة واحدة قصدتها الفكر - وهنا جهارا - لايجاد مدرسة شعرية تونسية تستجيب للواقع التونسي بحلوه ومره ، عازلة بدون رجعة كل عناصره الآبدة الجاثمة  لكنها غير منفصلة عن المسار الفحل للحركة الشعرية العربية .

ونحوصل ما بسطناه فنقول : انه بالرغم من ان تكوينات جمهرة شعراء الفكر متباينة المنطلق والمنطق الا انها جماعيا متينة الصلة ببعضها البعض أو قل متمحورة على بعضها البعض . وان كل الشعراء الذين عبروا او واصلوا المسيرة لم تنفصل مواقفهم موضوعا وهدفا وان اختلفت او حتى تباينت مضمونا وشكلا . وسندلل على ما سقناه بمثالين يخصان مضامين الشعر  العاطفى والوطني المنشورة بالمجلة على امتدادها .

أما بالنسبة للشعر العاطفى فرغم تعدد من كتبوا فيه فان قواسمه المشتركة  نبقى عفوية وغير متكلفة ، فالقصيد عند الكل يولد بسهولة فائقة ، دفقا، راشدا ، شكل غير مفتعل وان كان الاعتناء به اكثر من الاعتناء بالمضمون .  تغلب عليه الصيغة السردية وطابع الحزن والوحشة وفي بعض الاحيان الكآبة - كآبة الاحلام - لكن ابدا الانغلاق والتشاؤم والاختناق اى الطابع

المأسوى . صوره واضحة وبسيطة وقليلة لكن لا بهرج يثقلها ولا زخارف ذات الوان قاسية - وان كانت هذه الالوان رمادية فى اغلب الاحيان - وهذا الشعر  تغلب عليه الوجدانيات الذاتية . ولا نجد فكرة أما تسيطر عليه ولا محاور رئسية  فأغراضه قليلة - غربة روحية وغربة مكانية حضارية - لكن فيها من الالهام  الكثير . لا نعثر على الردىء المخل لكننا نادرا ما نعثر على الروائع . وهذا الشعر يخاطب العموم وقارؤه يتقلبه كسيال موسيقى حزين ولطيف الا كحزمة  من الموسيقى الصائحة الصاخبة الكثيفة التى تهز وتطحن .

هذا الشعر يشد القارىء بدون ان يبهره او يخدره ، يتسلل اليه كخيط ماء . . لا يجرفه كسيل منحدر . وبدون عناء يحس قارؤه بمذاق مر ومرير فى الآن الواحد للغربتين ، الروحية والمكانية الحضارية ، الكامنتين في اعمق اعماق الشاعر . وهذا الاحساس المزدوج او المتوازى لايزول ولا يخبو بل يظل مع القارىء فترة زمنية ينعشه ويملؤه طمانينة ووداعة .

وبالنسبة للشعر الوطني ورغم تفرق ايديلوجياته وكثرة تشيعاته وانتماءاته فانه كان دوما متأثرا بقضايا الامة العربية واعمق وعيا بهمومها واصلب تمسكا بطموحاتها المشروعة . وقد اعتبر ان دوره من الحتمى ان يكون ضمن اوضاع شعبه وبالتالى ليس له ان يتصور هدفا اقل من الطموح الانساني الذي بشد شعوب امته المستضعفة المتناصرة بعضها الى بعض لكى تحقق منزلتها الانسانية وتأصل كيانها . وكان ديدنه الاكبر هو التصدى - وبدراية - لمختلف انماط الصراع ضد الاستعمار الجديد الذى اقتلع شعبا آمنا وزرع مكانه اغرابا هجناء من الصهاينة . وقد تعاطف دوما مع اتجاهات التحرر الانساني بمناهضة كل الوان التسلط البغيض الذي تمارسه القوى العالمية المتمكنة وهو دوما في مساندة نضال الشعوب المقهورة المدحورة والعاملة لاسترداد ما تفتقده او قل ما فقدته من الكرامة وهو دوما يتغنى بالانتصارات الشرعية في اية رقعة من الارض تحققت . وهو دوما ضد شاسة العصر بمضارباته وتعفناته وحروبه المعلنة والمستترة وهو دوما يندد بالانسان آكل لحم الانسان .

من المثالين المذكورين نسستنتج : اولا بالنسبة للشعر العاطف رغم مشاربه المتعددة فانه يعطينا فكرة واحدة واقعية وواضحة عن الحب في بلادنا وبالتالى عن بلدنا تونس من تلقائية ووداعة ولطف وكآبة وبساطة وتفاؤل اى خصائص اللون الاخضر . وثانية بالنسبة للشعر الوطني فبالرغم من جبهاته المتعددة فان معركته واحدة وهي نفس المعركة التى يخوضها الشعر العربي المعاصر .  وهذا ما قصدته "الفكر " منذ البداية .

3 - " الفكر " ترتفع بالشعر التونسي الى آفاق ارحب : لقد رسمت "الفكر" ومنذ تأسست سبيلا عسيرا بواسطته انبثق الشعر التونسى - بعد ان اصبح مدرسة ذكرنا البعض من خصوصياتها - من الأطر  التونسية التى اصبحت ضيقة عليه الى آفاق ارحب وتمطط نحو كل زاوية - مهما كانت حادة - من زوايا مساحة الساحة العربية . وهذه أول محاولة من  نوعها لان المحاولات التى قدمتها - العالم الادبي ، والمباحث - كانت تكيفها الوطنية اكثر من القومية وترهب التفتح الذى معناه بالنسبة لها الاحتواء او  حتى الخيانة - وهى معذورة نظرا للمرحلة الحضارية التى كانت تضارعها - وهذه المدرسة الشعرية المستقلة التونسية هى وليدة مجلة " الفكر " . فشعراؤنا  كانوا ينطلقون من حيث ينتهى شعراء المشرق لكى ينعتوا بالاصالة من ناحية ولكى يتمكنوا من النشر فى المجلات العربية من ناحية ثانية واخيرا لانهم لا  يفرقون بين المنظور الوطني التونسى والمنظور القومى العربى الاسلامى ، فهم يعتقدون انهم مجرد امتداد لكل شعراء العربية الذين سبقوهم (وهذا عكس نظرة المجلات المذكورة وهنا يكمن التضارب لا الجدلية بين المجلات التونسية  والشعراء) وبفضل " الفكر" دخل شعراؤنا مرحلة التثوير والابتكار والتطوير فى المضمون وفي الشكل وكفوا عن استعارة تجارب الغير الجاهزة لكنها ملبوسة ولم يعودوا مجرد الظل والصدى والانعكاس .

واصبحت الفكر هي مرجعهم الاول . ولرسم هذا السبيل حفرت "الفكر" بأظافر دامية ارضا جردداء سوداء صلدة واقتلت حجارتها الواحدة بعد الاخرى باصرار وعناد . وهذه الحجارة كانت متمثلة :

1- في القطيعة التربية والتاريخية والاقتصادية التى رصها او رصفها الاستعمار عشرات العشريات حتى ان احدهم وهو الملقب بعميد الادب العربى كان يقول بافريقيا الشمالية الفرنسية ، وحتى ان اغلبهم كان لا يشك فى اننا نتخاطب بالفرنسية حتى فى منازلنا (*) .

2 - فى النظرة الفوقية المفتعلة المتجاهلة وبكلمة أدق المتعالية التى كان يرمق بها المشرق العربى امتداده المغرب العربى معتبرا اياه المستهلك الطفيلى  العقيم وهذه النعرة القبلية الضيقة المزروعة على امتداد المشرق العربى جعلته

يبادر أولا وبالذات بالتعريف بشعرائه وبالرفع من شأنهم متجاهلا غيرهم وفي احسن الظروف يكون متقمصا ازاءهم دور الحاضنة او الوصى .

3 - فى ردم الشابى للشعر التونسي الذي انصفته " الفكر " منه بتسليط الاضواء على تافههه وعظيمه وفرقعة فوقعته وجعل شعرائنا يستفيقون ثم  يتفوقون على انفسهم ، فجرتهم فتفجروا . واكسبتهم الثقة بالنفس لا الغرور  لان الاول يرفع والثانى يحط ووزعت انتاجهم الذى تراكمت عليه اتربة  الرفوف على الخواص والعوام .

4- "الفكر" توجد المتعة الشعرية الجمالية عند قرائها : من المعلوم ان الفن لا يمكن الاحساس به بدون حدوث المتعة الجمالية على اعتبار ان الفنون تتعامل مع المشاعر والاحاسيس وتتولد عنها تأثيرات وجدانية وحسية . ومن المعلوم ان الفن يصقل ملكة الاحاسيس بالجمال وينميها  ويطورها ويرتفع بها وبصاحبها الى درجة عليا تمكنه من تفجير الاشراقة  الباطنية وهى امتلاك معرفة ذاتية وموضوعية معا بالمعنى الصوفي توجد عند الانسان اعلاء فى انسانيته ينطق بها سلوكه بالايجاب والقبول تجاه نفسه  والكون . معنى ذلك انها تكيف عالمه الباطنى وتسير به الى نعومة فى دقة الادراك وتفاعل باقل الاشياء وابسط الاحداث كل ذلك فى رقة متناهية . فاذا  بعثت عند القارىء هذه السمات وبالتالى اصبح يتفاعل مع الاثر الشعرى فجدير به ان يساهم فى الترفيع من عمق وغزارة التجربة الشعرية ، ويصبح  يشارك الشاعر فى عمليات الخلق والابداع ويكون دافعا مباشرا فى ايجاد  النموذج الشعرى الذى يطفو فوق الاعتبارات الشخصية أو الاهواء الفردية أو  الانتماءات الطبقية والقبلية والعصبية . ويكون بحق عنصرا من عناصر التطور  المتجدد الدائم .

وقد عملت "الفكر" جاهدة على ايجاد وتربية هذه المتعة الجمالية عند قرائها . قبلها كان احذق قراء الشعر التونسي يمتلك ما يسمى بالنظرة الجمالية وهي الاعجاب " القشرى " - لا الاحساس - بالمعلقات وروائع متأخرى الشعراء على مستوى البناء الشكلى من نحو وصرف وعروض وقافية وعلى مستوى المضمون من بلاغة انشاء ومدى اقترابهما من النموذج الامثل ثم حفظها وترديدها والاستشهاد بها والمساجلة بها والنسج على منوالها ان امكن ذلك .

وبقية القراء يعتبرون ان الشعر ترف ذهنى عويص تقوله نخبة وتفهمه  اخرى . اما بقية العامة فهي تخلط الشعر بالغناء والرقص والقصص واقتصرت عنايتها على الشعر العامى واصحابه .

اشترك في نشرتنا البريدية