صدر منذ أيام قليلة عن الدار التونسية للنشر مجموعة قصص للكاتب عز الدين المدني بعنوان " خرافات " ، وهي قصص متفاوتة الطول نشرت في جرائد ومجلات مختلفة كالفكر وقصص والعمل إلا قصة رأس الغول
لقد عودنا عز الدين المدنى فى قصصه بغزارة المادة وتنوعها وباختلاف طرق معالجته للمواضيع وتحليل النفسيات . مما يجعلنا نخشى استحالة وضع عنوان عام لكل هذه القصص فيلجأ الكاتب الى مثل ما يلجأ اليه الكثيرون من القصاصين ويختار عنوانا من بين عناوين مجموعة أقاصيصه ويضيفه على الكتاب كله . ولكن عز الدين المدنى وجد اللفظة التى تجمع بين انتاجه هذا وأبرزها لا فى العنوان فقط بل فى فاتحة كتابه عند ما كتب : " الخرافة : الحديث الباطل مطلقا ) القاموس ( " ولعله خشى أن تكون كلمة خرافات غير كافية لتأكيد قصده من اختيارها أو لعله أراد تواضعا منه - وهي صفة غالية عليه - أن ينبه القارىء الى انه لن يجد وراء هذه القصص شيئا آخر غير المتعة التى يشعر بها كل فرد عند الاستماع الى خرافة من الخرافات
على كل فأنا لن أغتر بهذا العنوان وسأحاول ايجاد معنى لعنوانه ووحدة بين أقاصيصه تتعدى الخرافة بمفهومها التقليدى وتتجاوز الباطل والزيف لتقترن بالواقع فى أشد حالاته وتمتزج بالحياة فى أجلى مظاهرها
ولعل هذا مجرد ادعاء ومحاولة فاشلة لدفع هذه القصص على أن تنطق بما ليس فيها وتفصح عما لم يكن فى طاقتها أن تفصح عنه . ولكن أليس أحكم الآثار الادبية فنا وأتقنها نسيجا وأروعها جمالا هي تلك التى توحى اليك بما ليس فيها أو بما ليس فى ظاهرها فتسمح لك بأن تستنتج وتؤول وتضرب فى الخيال ما شاءت لك القريحة ؟ أليس أبلغ القصص وأوقعها فى النفس هي التى تدفعك الى ان تجد لها معني هو معناك ، وان توجد لها وحدة تنسجها انت
بيديك وتضفرها ضفيرة ضفيرة حتى تستوى قطعة واحدة هى صلة فنك بفن الكاتب أو نظرتك اليه !
فما هى إذن هذه الوحدة التى يمكن ان تجدها بين قصة " فتوح اليمن أو رأس الغول " وهي قصة شعبية معروفة ، وبين " أحاديث " فى أسلوبها العربي المتين وتهويماتها الفلسفية السريالية أو أبعد منها ، وبين قصة " مدينة النحاس " البوليسية فى ثوب من ثياب " ألف ليلة وليلة " وبين قصص " اختلاس " و " مفترق الطرق " و " سقيا يا مطر " الوجودية الظاهر الواقعية الباطن
هذا الشتات فى المحتوى والاسلوب كيف يمكن ان تجد له وحدة وبأية طريقة من الطرق ستصل الى عجنه عجنا حتى يكون كائنا سويا ؟
سأترك الحديث عن الاسلوب والعبارة والاطار فيما بعد وأهتم بالاشخاص الذين يعمرون هذه القصص ويحبون فيها . اذ هم يقفون أمامنا فى كل قصة أحياء بأتم معنى الكلمة بدمهم ولحمهم وعواطفهم وتيههم وخواتمهم إن كانت القصة وينسجم مع توقعهم الى خاتمة ملائمة لميولهم كما جرت العادة يغضبهم السيطرة على أنفسهم وعلى ما حولهم من بشر وأشياء .
فهذا الفداوى فى قصة " رأس الغول " عوض ان يرضى مستمعيه فى آخر القصة وينسجم مع توقعهم الى خاتمة ملائمة لميولهم كما جرت العادة يغضبهم ويفجر نقمتهم عليه فيؤذونه أشد الاذاية ويعبئون به وبغلامه وبقرده ودفه
وهؤلاء لؤى والصامت وسهيل ومعن فى " احاديث " يجوسون مدنا غريبة ويلتقون بأشخاص زائفين وينطقون بحقائق زائفة
وهذا رئيس مصالح الاستعلامات السرية فى قصة " مدينة النحاس " يطلب المحال فى مدينة خيالية وتعترضه أحداث مهولة ووقائع محزنة تجعله لا يصل الى نتيجة من جوسه خلال شوارعها ومنعرجاتها
وهذا " ع " فى قصة اختلاس يسير بين شوارع مدينته ولا يجد ما يربط بينه وبينها فكل شىء غريب عنده وكل شئ يدعو الى الاستغراب
وهذا بطل قصة " فى مفترق الطرق " يشع فى قلبه شوق فيخرج الى شوارع المدينة ويجوبها وفى قلبه تحترق الحسرة والاسى ونفسه لا تجد شبعا مما ترى وتسمع . وهؤلاء أبطال قصة " سقي يا مطر " فى تيههم وعجزهم عن عض
واقعهم : الرحل السمين يتناول " البوخة " حتى يغيب عن الوجود ويرى البشر والاشياء كما يصوره له السكر . ومريض " الفدة " يغلبه المرض وياخذ بحسمه حتى تنقلب الاشاء عنده انقلابا ويغيب عن الوجود . وهدا الصياد يطلب المجال في مدينة غريبة عنه
الذي يجمع بين هؤلاء انما هى مأساة الانسان فى أنبل صورها . مأساته وهو عاجز عن أن يسيطر على العالم لانه لم يقدر على أن يسيطر على نفسه خرج من سحن نفسه فترك الأعنة للخيال يقوده حيثما اتفق وكيفما شاء فتنفلق الاحاسيس وتتفجر الافكار فى سيل لا يصده صاد حتى أنك تشعر بأن هذه الابطال كلها تنطق بجميع الحواس فى تهوية صوفيه حادة . وخرج من سجن المنزل الى الشارع حيث الحياة والناس واذا هو يفطن الى عجزه والى غربته واذا هو يصيح " الحياة فى واد وهو فى واد "
هذه الإبطال الزائفة كلها تتلاشى جميعها فى اخر الامر ولا خاتمة . هى زائفة في نظر الكاتب كزيف الخرافة لانها لم تعرف ، لظروف حفت بها ، كيف نتفاعل مع الحياة وتؤثر فيها . ودليل على ذلك هو هذه الاعلانات وهذه المقتطفات من خطب المسؤولين التى تصور تونس الجديدة فى عزمها على قهر الفقر والجهل والخنوع والميوعة ، إذ كيف يمكن تفسير هذه القطع المقحمة فى قصة " سقيا يا مطر ، إذا لم تكن حجة على هؤلاء الاشخاص الذين يعيشون فى واد والامة والوطن فى واد . وكيف يمكن تفسير اهمال الكاتب لخواتمهم الا اذا فهمنا انهم في نظره لا شئ وانهم لا يستحقون تتبع حياتهم الى النهاية بل المهم هو معرفة تيههم وضربهم في الخيال وعجزهم على مسايرة الركب و " فقدان انفسهم " رغم شعورهم الحاد وثراء أنفسهم وكبر قلوبهم وغزارة تفكيرهم الى حد " المرض " .
بهذا يمكن أن نجد وحدة بين هذه القصص كلها ويمكن أن نفهم لكلمة " خرافات " معني اذ هي تشر الى زيف هؤلاء الابطال وباطلهم أمام واقع الحياة .
وبعد هذا هل أنا فى حاجة الى الوقوف عند إطار هذه القصص وهو مختلف اختلافا شديدا اذ لا يهم الكاتب أن يجوس بطله فى شارع من شوارع مدينة تونس أو أن يجوب منعرجات مدينة النحاس لان المهم عنده هو نظرة بطله وموقفه وسلوكه فى هذه العوالم ؟
وهل احتاج الى الحديث عن اللغة وهى متباينة تتراوح بين العربية المتينة الرمزية وبين العربية البسيطة القريبة من الدارجة
وهل يمكن النظر فى الاسلوب وهو يختلف بين القصة والقصة ؟ .
فان بودى أن أجد فى أواخر هذه القصص تواريخ تأليفها لان ذلك يجعلني عتقد أن عز الدين المدني تطور بأسلوبه من عربية أبى حيان التوحيدى الى عربية تكاد تكون خالية من الاسلوب اذا اعتبرنا أن " احاديث " هي أقدم القصص عمرا و " سقيا يا مطر " و " رأس الغول " أحدثها سنا .
على كل فانى أعتقد أن عز الدين المدني عرف كيف يصور هذا الصراع الذى يحياه الكثيرون من أبناء تونس بين القديم والجديد وتوفق الى اشعارنا بهذه المأساة التى تتخبط فيها الكثير من الانفس الكبيرة أمام هذا الخلق اليومي المستمر الذى يخوضه المجتمع التونسي
كما أعتقد أن عز الدين المدني وصل الى مفترق طرق فى اللغة والاسلوب اختار فيه نوعا جديدا من الاساليب والعبارة أكاد أقول هو أسلوبه وعبارته
