الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "المنهل"

محاورة دينية اجتماعية

Share

قال المنصوح: والله ما تعديت فى وصفهم مثقال ذرة ولكنى أريد أن تدلنى على طريق يجمع بين السعادة الدنيوية والسعادة الآخروية لأن نفوس من تربى وتخلق باخلاق هؤلاء لا ترجع عما الفته الا بامر قوى إما بترغيب وهوى يجذبها واما بترهيب وخوف يقمعها . فقال له صاحبه الناصح :والله لقد أدركت فى هذا الدين مطلوبك وفيه والله كل مرادك ومرغوبك فانه الدين الذى جمع بين سعادة الدنيا والآخرة وفيه اللذات القلبية والروحية والجسدية ولا تفقد من مطالب النفوس الحقيقية

شيئا إلا أدركته؛ ولا من أنواع المسرات شيئا إلا حصلته ففيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وسأوضح لك ذلك فاعلم أن أصول اللذات المطلوبة أولا،راحة القلوب وسكونها وطمأنينتها وفرحها وبهجتها وزوال همومها وغمومها ثانيا القناعة والطمأنينة بما أوتيه العبد من المطالب الجسدية،ثالثا استعمال ذلك على وجه يحصل به السرور والاغتباط فهذه الأمور الثلاثة من رزقها واستعملها على وجهها فقد نال   كل ما يتنافس فيه المتنافسون وأدرك كل ما تعلق به طمع الطامعين فان جميع اللذات ترجع الى ما ذكرنا فاما لذات القلوب وحصول سرورها وزوال كدرها فانما أصل ذلك بالايمان التام بما دعا الله عباده الى الايمان به من الايمان بتوحده بجميع نعوت الكمال وامتلاء القلب من تعظيمه واجلاله ومن التأله له وعبوديته والانابة اليه واخلاص العمل الظاهر والباطن لوجهه الأعلى،وما يتبع ذلك من النصح لعباد الله ومحبة الخير لهم وبذل المقدور من نفعهم والاحسان اليهم والاكثار من ذكرالله والاستغفار والتوبة فمن أوتى هذه الأمور فقد حصل لقلبه من الهداية والرحمة والنور والسرور وزوال الاكدار والهموم والغموم ما هو نموذج من نعيم الآخرة؛وأهل هذا الشأن لا يغبطون أرباب الدنيا والملوك على لذاتهم رياساتهم بل يرون ما أعطوه من هذه الامور يفوق ما أعطيه هؤلاء بأضعاف مضاعفة. وهذا النعيم القلبى لا يعرفه حق المعرفة الا من ذاقه وجربه فانه كما قيل :

من ذاق طعم نعيم القوم يدريه            ومن دراه غدا بالروح يشعريه

فهذا اشارة لطريق هذا النعيم القلبى الذى هو اصل كل نعيم ، واما الامر الثانى فان الله اعطى العباد القوة والصحة وما يتبع ذلك من مال واهل وولد وخول وغيرها ؛والناس بالنسبة لهذه الاشياء نوعان قسم صارت هذه النعم فى حقهم محنا ونقما، وقسم صارت فى حقهم نعما وخيرات ومنحا.أما اهل الدين الحقيقى فقد قابلوا هذه النعم وتلقوها على وجه الشكر لله والاغتباط بفضله وتناولوها على وجه الاستعانة بها على طاعة المنعم،وعلموا انها من اكبر الوسائل لهم الى رضى ربهم وخيره وثوابه اذا استعملوها فيما هيئت له وخلقت له وقد رضوا بها عن

الله كل الرضى، فانهم علموا انها من عند الله الذى له الحكمة التامة فى جميع أقضيته واقداره، وله الرحمة الواسعة فى جميع تدابيره، وله النعمة السابغة فى كل عطاياه وهو أرحم بهم من الخلق أجمعين فحيث علموا العلم اليقينى صدورها ممن هذا شأنه قنعوا مما أعطوه منها؛ من قليل وكثير ، كل القناعة وسكنت قلوبهم عن التعالع والتطلب لما لم يقدر لهم .ومتى حصلت الطمأنينة والقناعة الرضى عن الله بما أعطى فقد حصلت الحياة الطيبة ،فاذا أدركت حق الادراك نعتهم هذا عرفت أن نعيم الدنيا فى الحقيقة هو نعيم القناعة برزق الله وطمأنينة القلوب بذكر الله وطاعته ، إن الواحد من هؤلاء لو لم يكن عنده من هذه الأمور وهى القوة والصحة والمال والاهل والولد وتوابع ذلك إلا الشيء القليل لكان فى راحة وسرور من جهتين: جهة القناعة وعدم تطلع النفس وتشوفها للأمور التى لم تحصل ؛ وجهة ما ترجوه من ثواب الله العاجل والآجل على هذه العبادة القلبية التى تزيد على كثير من العبادات البدنية، فان التعبد لله بمعرفة نعمه والاعتراف بها والرضى بها والرجاء لله أن يديمها ويتمها وأن يجعلها وسيلة الى نعم أخرى وأن يجعلها طريقا للسعادة الابدية لا ريب أن هذه الاحوال القلبية من أفضل الطاعات وأجل القربات ،فكم بين سرور هذا الذى تعبد بروح الدين وحصلت له الحياة الطيبة وبين من تلقى هذه النعم بالغفلة وعدم الاعتراف بنعمة المنعم وشقى بهمومها وغمومها، وكان إذا حصل له شيء من مطالب النفوس لم يرض به بل تشوف الى غيره وتطلع لسواه فهذا يتنقل من كدر الى كدر آخر ، لان قلبه قد تعلق تعلقا شديدا بمطالب الجسد فحيث جاءت على خلاف ما يؤمله ويريده قلق أشد القلق وهو لا يزال فى قلق مستمر لان المطالب النفسية متنوعة جدا فلو وافقه واحد لم يوافقه الآخر ولو أرضاه واحد كدره الآخر وربما اجتمع فى الشيء الواحد سرور من وجه، وحزن من وجه آخر ، فصفوه ممزوج بكدره ، وسروره مختلط بحزنه، فاين الحياة الطيبة لهذا?! وانما الحياة الطيبة لأرباب البصائر والحجى الذين يتلقونها كلها بالقبول والقناعة والرضى وأما الامر الثالث وهو جهة استعمال هذه النعم فصاحب الدين الصحيح يتناولها على وجه الشكر لله على نعمه والفرح

بفضله وينوى بها التقوى على ما خلق له من عبادة الله وطاعته وينفقها محتسبا بها رضى الله وفضله وخلفه العاجل والآجل ويعلم أنه إذا أنفق على نفسه وأهله أو ولده أو من يتصل به فانما نفقته صادفت محلها ووقعت موقعها فلم يتناقل كثرة النفقة فى هذا الطريق لانه يقول معتقدا : هذا أولى . ما بذلت فيه مللى وهذا الزم ما قمت به من الواجبات والفروض وهذا خير ما قمت به من المستحبات وهذا أعظم ما أرجو له الخلف من الله حيث يقول وهو الكريم الوفى : (( وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين )) ولا يزال نصب عينيه احتساب الاجر فى سعيه بكسبه وفى مصرفه أجناس ذلك وأنواعه وأفراده متفطنا لقوله(( على أنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله فى في امراتك)) فمن كان هذا وصفه فان لذاته الدنيوية هى اللذات الحقيقية السالمة من الاكدار معها يرجو من الثواب العاجل والآجل من الله ،ومن كانت هذه صفته سهل عليه الأخذ من حلها ووضعها فى محلها ويسرت له أموره غاية التيسير . وأما من استعمل هذه النعم على وجه الشره والغفلة ولم يفكر فى الاعتراف بفضل الله فى كل الأوقات وبنعم الله ولم يفرح بالنعم لأنها من فضل الله بل فرح بها فقط لموافقة غرضه النفسى ولا نوى بها الاستعانة على طاعة الله ولا احتسب فى نيلها وصرفها على المنفق عليهم الأجر والثواب فمن كان هذا وصفه فان الكدر والحزن له بالمرصاد فانه إذا فاتته بعض الشهوات النفسية حزز وان أدرك ما أدركه منها ولم يكن على ما فى خاطره من كل وجه حزن وان اراد منه ولده ومن يتصل به نفقة أو كسوة واجبة أو مستحبة حزن ولم تخرج منه إلا بشق الانفس وان خرجت منه خرج معها بضعة من سرور قلبه لانه يجب بقاء ماله ويحزن لنقصه على أى وجه كان وليس عنده من الاحتساب ما يهون عليه الامر ،هذا ان كان غير بخيل فان كان شحيح النفس مطبوعا على البخل فان حياته مع أولاده وأهله والمتصلين به حياة شقاء وعذاب واكدار متواصلة وأحزان مستمرة لا إيمان عنده يهون عليه النفقات ولا نفس سخية لا تستعصي عن نيل المكرمات فياله من عذاب حاضر وعذاب مستمر ، فاين هذا من ذاك الذى حصلت له الحياة الطيبة بأكملها .هذا كله بالنظر الى هذه الامور الثلاثة التى هى أصل اللذات عند العقلاء

قد اتضح لنا أن صاحب الايمان الصحيح هو الذى فاز باللذات الحقيقية وسلم من المكدرات .. ثم إذا عطفنا النظر الى الطوارئ البشرية التى لابد لكل عبد منها وهى المصيبات التى تعترى العباد من الأمراض المتنوعة وموت الاحبة وفقد الأموال ونقصها ووقوع المكاره بمن تحب وزوال المحاب وغيرها من أنواع المصائب دقيقها وجليلها رأيت المؤمن حقا قد تلقاها بقوة وصبر واحتساب وقد قام لها بارتقاب الاجر والثواب وعلم أنها تقدير العزيز العليم . وانها أقضيته صدرت من الرب الرحيم ؛ فهان عليه أمرها وخفت عليه وطأتها فانه إذا فكر فيما فيها من الآلام الشاقة قابلها بما تتضمنه من تكفير السيئات وتكثير الحسنات ورفعة الدرجات والتخلق بأخلاق الكرام والقوة والشجاعة واذا انهكت بدنه وماله رآها مصلحة لقلبه وروحه فان صلاح القلوب بالشكر لله على نعمائه والصبر على بلائه وانتظار الفرج من الله إذا ألمت الملمات واللجوء الى الله عند جميع المزعجات والمقلقات فاقل الاحوال عند هذا المؤمن أن تتقابل عنده المصائب والمحاب والأفراح والاتراح ؛ وقد تصل الحال بخواص المؤمنين الى أن أفراحهم ومسراتهم عند المصيبات تزيد على ما يحصل فيها من الحزن والكدر الذى جبلت عليه النفوس ، فأين هذه الحال من حال من تلقى المصيبات التى لا بد للخلق منها بقلب منزعج مرعوب وخشعت نفسه المهينة لما فيها من الشدائد والكروب فبقيت الحسرات تنتاب قلبه وروحه وزادت مصائب قلبه على مصائب بدنه ليس عنده من الصبر وارتقاب الثواب ما يخفف عنه الاحزان ولا من الايمان ما يهون عنه الأشجان تعتريه المصائب فلا تجد عنده ما يخففها فتعمل عملها فى قلبه وروحه وبدنه وأحواله كلها ..القلب ملئ من الهم والغم والألم والخوف السابق واللاحق قد ملأ نفسه فانحل لذلك لبه وانحطم وقد ضعف توكله على الله غاية الضعف حتى صار قلبه يتعلق بمن يرجو نفعه من المخلوقين ? فيالها من مصائب دنيوية اتصلت بالمصائب الدينية والخلقية وتراكم بعضها فوق بعض حتى صار عنده أعظم من الجبال الرواسى فو الله لو علم أهل البلاء والمصائب بما فى الايمان والروح والتسلية والحياة الطيبة لسارعوا اليه ولو فى هذه الحال التى هم فيها مضطرون الى ما يخفف عنهم آلامها ولا يجدونه إلا فى الايمان الصحيح الحقيقى وما يدعو اليه .

اشترك في نشرتنا البريدية