الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "المنهل"

محاورة دينية اجتماعية

Share

ومما يتعلق به سرور الحياة ، ونعيمها ، أو همها وغمها ، معاشرة الخلق على اختلاف طبقاتهم ، فمن عاشرهم بما يدعو اليه الدين استراح ، ومن عاشرهم بحسب ما تدعو اليه الأغراض النفسية ، فلابد ان يكون عيشه كدرا ، وحياته منغصة . وتوضيح ذلك ان الناس ثلاثة اصناف : رئيس ، ومرؤوس ، ونظير ، أما من له رياسة حكم ، او ثروة ، وله اتباع وحاشية فله معهم حالان : حالة فيما يفعله معهم وحالة فيما يصيبه من اتباعه من خير وشر ، وموافق للطبع ومخالف له ،فان هو حكم الدين والشرع ، فى الحالتين استراح ، وله اجر من الله ؛ إذ استعمل العدل معهم ، واستعمل النصح والاحسان ، وقابل المسيئ منهم بالعفو ، وشكرهم على فعل المعروف والخير . مبتغيا بذلك وجه الله ، وأيضا فانه ذا تأمل فيما فعله من خير اطمأنت نفسه وانشرح صدره ، فأين هذا من الرئيس الذى لايبالى بعلم الناس فى دمائهم وأموالهم واعراضهم ، ولايبالى بسلوك طرق العدل والانصاف وليس له صبر على اية اذية تصيبه من رعيته ? فهو مع اتباعه فى نكد مستمر ، ورعيته قد ملئت قلوبهم من مقته وبغضه ، يتربصون به الدوائر والفرص ، حتى اذا وقع فى أقل شئ أعانو عليه اعدى اعدائهم ، فهو معهم غير مطمئن على حياته ولا على نعمته ، لا يدرى متى تفجؤه البلايا ، ليلا او نهارا ! ... هذه حالة الرئيس على وجه الاجمال .. واما حالة المرؤوس فان اطاع الدين فى وظيفته ؛ واطاع حاكمه او سيده ، او والده ، واستعمل الآداب الشرعية فى معاملته ، والاخلاق المرضية ، فهو مع طاعته لله ولرسوله قد استراح واراح ، وطابت عنه نفس رئيسه ، وامن عقوبته ؛ وأمل احسانه وبره ومحبته ، واما من تعدى لموره وعصى متبرعه

والتوى ؛ فانه لا يزال متوقعا لانواع المضار ، يمشي خائفا وجلا لا يقر له قرار ، ولا يستريح له خاطر ، .. واما حالة النظير المساوى فان جمهور من تعاشرهم من الخلق اذا خالقتهم بالخلق الحسن ، اطمأنت نفسك ، وزالت عنك الهموم ، لأنك تكتسب بذلك مودتهم ، وتخمد عداوتهم ؛ مع ما ترجوه من عظيم ثواب الله على هذه العشرة التى هى من افضل العبادات ، فان العبد يبلغ بحسن خلقه ، درجة الصائم القائم .. وحسن الخلق له خاصية فى فرح النفس ، لا يعرف ذلك حق معرفته الا المجربون .. فأين حال هذا ممن عاشر الناس باسوأ الأخلاق ؛ فخيره ممنوع ، وشره غير مأمون ، وليس له اقل صبر على ما يناله من المكدرات ، فهذا قد تنغصت عليه حياته ، وحضرته همومه وحسراته ، فهو فى عناء حاضر، ويخشى من الشقاء الآجل .. واما معاشرته مع أهله واولاده ومن يتصل به ، فانه يتأكد عليه القيام بالحقوق اللازمة تامة لا نقص فيها ولا تبرم ، فمن عامل هؤلاء بما امر الله ورسوله ، راجيا بقيامه به ثواب ربه ورضاه ، عاش معهم عيشة راضية ، ومن كان معهم فى نكد وسوء خلق مع الصغير والكبير ، يخرج من بيته غضبان ويدخل على اهله وولده متكدرا ملآن ؛ فاى حياة لمن كانت هذه حاله ? وما الذى يرجوه حيث ضيع ما فيه فرحه ومسراته ? . واما عشرته مع معامليه ،  فان استعمل معهم النصح والصدق وكان سمحا اذا اباع ؛ سمحا اذا اشترى ، سمحا اذا قضى ؛ سمحا اذا اقتضى - حصلت له الرحمة ، وفاز بالشرف والاعتبار ، واكتسب مودة معامليه ودواء معاملتهم ؛ ولا يخفى ما فى ذلك من طيب الحياة ؛ وسرور النفس ؛ وما فى ضدها من سوء الحال وسقوط الشرف ، وتنغص الحياة ، والفارق بين الرجلين هو الدين ، فصاحب الدين منبسط النفس ، مطمئن القلب .. فقد تبين لك ان السعادة واللذة الحقيقية بجميع انواعها تابعة للدين .. واعلم يا اخى أن الدين نوعان : احدهما أعمال واحوال واخلاق دينية ودينوية ، وكما ذكرنا انه لا سبيل الى حصول الحياة الطيبة الا بالدين .. والثانى : علوم ومعارف نافعة ، وهى علوم الشرع والدين ، وما يعين عليها ويتوسل اليها به ، فالاشتغال بها من اجل العبادات ؛ وحصول ثمرتها من اكمل اللذات ، ولا يشبهه شيء من اللذات الدنيوية ، واعتبر ذلك بحال الراغبين

فى العلم نجد اكثر اوقاتهم مصروفة فى تحصيل العلم ، فيمضى الوقت الطويل ، وصاحبه مستغرق فيه يتمنى امتداد الزمن ؛ وهذا عنوان اللذة ، فان المشتاق يقصر عنده الوقت الطويل ، ومن ضاق صدره بشيء يطول عليه الوقت القصير ، وذلك ان صاحب العلم فى كل وقت مستفيد علوما يزداد بها ايمانه ، وتكمل بها اخلاقه ، والمتصفح للكتب النافعة ، لا يزال يعرض على ذهنه عقول الاولين والآخرين ، ومعارفهم واحوالهم الحميدة ، وضدها ، ففي ذلك معتبر لاولى الالباب . . فكم من قصة تمر عليك فى الكتب تكتسب بها عقلا جديدا ، وتسليك عند المصائب ، بما جرى على الفضلاء ، وكيف تلقوها بالرضا والتسليم ؛ واغتنموا الاجر من العليم الحكيم ؛ والعلم يعرفك طرقا تدرك بها المطالب ، وتدفع بها المكاره والمضار ، والعقل عقلان عقل غريزي وهو ما وضعه الله فى الانسان من قوة الذهن فى أمور الدين والدنيا ، وعقل مكتسب ، اذا انصم الى العقل الغريزي ازداد صاحبه حزما وبصيرة . فكما ان العقل الغريزي ينمو بنمو الانسان حتى يبلغ أشده ، فكذلك العقل المكتسب له مادتان للنمو : مادة الاجتماع بالعقلاء والاستفادة من عقولهم وتجاربهم ، تارة بالاقتداء ، وتارة بمشاورتهم ومباحثتهم ، فكم ترقى الرجل بهذه الحال الى مراقى الفلاح ، ولهذا كان انزواء الرجل عن الناس يفوته خيرا كثيرا ، ونفعا جليلا ، مع يحدثه الاعتزال من الخيالات وسوء الظن بالناس ، والاعجاب بالنفس الذى يعبر عن نقص الرجل، وربما ضر البدن ، فان مخالطة الناس تفتح أبوابا من المصالح، وتسليك ، وتقوى قلبك ، وفى ضعف القلب ضرر على العقل ، وضرر على الدين ، وضرر على الاخلاق وضرر على الصحة .

وينبغى للانسان ان يعامل الناس ، بحسب احوالهم ، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يحسن خلقه مع الصغير والكبير ، قال تعالى : ( خذ العفو ) أي خذ ما صفا لك من اخلاق الخلق ، ودع عنك ما تعسر منها .. فيجالس ابناء الدنيا بالادب والمرؤة ، والأكابر بالتوقير ، والاخوان والاصحاب بالانبساط ، والفقراء بالرحمة والتواضع ، واهل العلم والدين بما يليق بفضلهم .. فصاحب هذا الخلق الجليل تراه مبتهج النفس

فى حياة طيبة . وأما المادة الثانية للعقل المكتسب فهى الاشتغال بالعلوم النافعة ، فتستفيد بكل قضية رأيا جديدا ، وعقلا سديدا ؛ ولا يزال المشتغل بالعلم يترقى فى العلم والعقل والادب والعلم يعرفك بالله ، وكيف الطريق اليه ، يعرفك كيف تتوسل بالامور المباحة الى ان تجعلها عبادة تقربك الى الله . والعلم يقوم مقام الرياسات والاموال . فمن ادرك العلم فقد أدرك كل شيء ومن فاته العلم فاته كل شيء . وكل هذا فى العلوم النافعة . واما كتب الخرافات والمجون فانها تحلل الاخلاق وتفسد الافكار والقلوب ، بحثها على الاقتداء باهل الشر ، وهى تعمل فى الايمان والقلوب عمل النار فى الهشيم ...

فلما تلا النصيح لصاحبه هذه المواضيع ؛ وبرهن عليها ، قال له المنصوح : والله لقد انجلى عنى ما أجد فى أول موضوع تلوته علي ، وانزاح عنى الباطل فى شرحك الاول . وان مجلسك يا خى ونصيحتك بهذه الطريقة النافعة تعدل عندى الدنيا وما عليها ، فاحمد الله اولا حيث قيضك لى ، واشكرك شكرا كثيرا حيث وفيت بحق الصحبة ، ولم تصنع ما يصنعه اهل العقول الضيقة الذين اذا رأوا من أصحابهم ما يسوؤهم قطعوا عنهم حبل الوداد فى الحال ، وأعانوا الشيطان عليهم ، فازداد بذلك الشر عليهم ، وضاع بينهم التفاهم . وانى لا انسى جميل معروفك حيث رأيتنى سادرا فى المهامه مغرورا بنفسى ، معجبا برأبي ، فاريتنى بعينى ما أنا فيه ، وأوقفتنى بحكمتك على لهلاك الذى وقعت فيه ، فالآن استغفر الله مما مضى واتوب اليه ، واسأله الاعانة على سلوك مرضاته ، وافزع اليه ان يختم بالصالحات اعمالى ، واحمد الله اولا وآخرا . وظاهرا وباطنا ، فانه مولى النعم ، دافع النقم ، غزير الجود والكرم .                  [ تمت المحاورة ]

اشترك في نشرتنا البريدية