الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

محاول لتقييم ما ورد في مقدمة ابن خلدون، عن الغناء والموسيقى والموشحات

Share

يشغل موضوع الموسيقى والغناء والموشحات حيزا هاما من مقدمة ابن خلدون اذ هي تعد من بين فصولها فصلا عن صناعة الغناء ) 1 ( وفصلا عن  الازجال والموشحات ( 2 ) عدا بعض النبذ المتفرقة هنا وهناك . ويبدو لى أن  ما كتبه ابن خلدون فى هذا الموضوع الحضارى يحتاج الى تقييم جديد ينزله منزلته من تاريخ الموسيقى والنقد والادب في الثقافة العربية  

فصل فى صناعة الغناء :

عرف ابن خلدون فى هذا الفصل صناعة الغناء ، وبحث عن السبب فى اللذة الناشئة عنه ، ثم استعرض المراحل الكبرى التى مر بها الغناء العربى وأخيرا نزل هذه الصناعة منزلتها من العمران البشرى

أما تعريفه لصناعة الغناء فقد أصبح بعد كلاسيكيا : " هي تلحين الاشعار الموزوعة بتقطيع الاصوات على نسب منتظمة معروفة " ) 3 ) . وهو يحيلنا بعد تعريفه هذا على علم الموسيقى كى نتبين أن الاصوات تتناسب ، وان اختلاف هذه النسب قد يخرجها من البساطة الى التركيب . هاتان فكرتان اساسيتان  ستترددان فيما بعد : أما الاولى وهى فكرة التناسب ، فسيحللها عندما يبحث  عن سر اللذة الناشئة عن الغناء ، وأما الثانية وهى فكرة البساطة والتركيب فستكون عمدته حين يستعرض تاريخ الغناء العربى

ها هو ابن خلدون يبين لنا بأسلوبه التعليمي اللذة الناشئة عن الغناء : " ولنبين لك السبب فى اللذة الناشئة عن الغناء . وذلك أن اللذة " هي ادراك الملائم وأما المرئيات والمسموعات فالملائم فيها تناسب " الاوضاع " ) ان جمالية ابن خلدون تعتمد كثيرا على الفلسفة المثالية ، فلسفة " اتحاد المبدا والكون " ) 5 ( ولكن واقعيته تمنعه من الضياع فى عالم الفلسفة . فها هو  يعود الى تقرير ما اشترطه أهل صناعه الموسيقى كى يتم هذا التناسب  " فأولا أن لا يخرج ( المغنى أو الموسيقار ( من الصوت الى مده ) ضده ؟ دفعة بل بتدريج ٠٠ وثانيا تناسبها ) أى الأصوات ( فى الأجزاء " ) 6 ( . لقد حرص ابن خلدون على التمييز بين نوعين من التناسب الموسيقى : تناسب بسيط لا يحتاج الى تعليم ولا صناعة ، انما " يكون الكثير من الناس مطبوعين  عليه . . وتسمى العامة هذه القابلية بالمضمار . " ) 7 ( وتناسب مركب " ليس كل الناس يستوى فى معرفته ، ولا كل الطبائع توافق صاحبها فى العمل به  اذا علم ( ) 8 ( وفى رأي ابن خلدون انه لم يكن للعرب فى جاهليتهم وبداوتهم  الا النوع الاول من التناسب الموسيقى ، ويتجلى فى شعرهم كما يتجلى فى  غنائهم البدوى بأنواعه البسيطة ، أما صناعة الغناء كما يقول هو - أو الغناء  المتقن كما يقول الاصبهانى وغيره من الشرقيين - فقد جاءتهم مع الترف اثر الفتوحات الاسلامية ، حين تقاطر المغنون من الفرس والروم على الحجاز وأحدثوا بها الصناعة . وهو يستعرض المراحل التى مر بها الغناء العربى فى ايجاز  بليغ ، متتبعا اياه منذ نشأته بالحجاز ، ووصوله الى الاندلس ( 9 ) مرورا

ببغداد ، ملاحظا فى النهاية انتقاله من الاندلس الى بلاد العدوة ) 10 ( .

أما النقطة الاخيرة فى هذا الفصل فقد بين فيها مكانه صناعه الغناء من العمران ، وهي عنده صناعة كمالية لا وظيفة لها إلا وظيفة الفراغ والفرح ، ولذلك فهى آخر ما يحصل في العمران من الصنائع ، كما هى أول ما ينقطع منه عند اختلاله

لقد حظى هذا الفصل باعتناء كبير من طرف العرب ، والمستشرقين ) 11 ( على السواء . ولعل السبب الاول يرجع الى مظهره العام ، فهو فصل موسوعي ولكنه مركز ، تعليمي لكن لا تعسف فيه ، علمي لكن له رونق وديباجة

ولعله من الممكن حصر الفوائد التى وقع النص عليها أو التى نستفيدها من  السياق في أربعة ضروب من القيم : قيمة وثائقية ، قيمة منهجية ، قيمة   فكرية ، وأخيرا قيمة نقدية

1 - قيمة وثائقية

ان الفصل كله وثيقة هامة فى تاريخ الموسيقى العربية ، نجد فيه ما يمكن

أن نسميه جمالية مثالية ) 12 ( ، كما نجد تأريخا للغناء العربى ) 13 ( ، وبعض المصطلحات الموسيقية الهامة ) 14 ( ، وأسماء بعض الآلات وأوصافها ) 15 ( .

ثم ان لهذا الفصل قيمة اخبارية عن شخصية ابن خلدون نفسه ، وهو ما انتبه له غاستون بوتول حين استنتج من المامه  الدقيق بفنون زمانه انه كان خاضعا لتأثيرها ، وانه ربما امتلك مواهب فنية ) 6 ( . وبذلك نلمح جانبا من جوانب الازدواجيه فى شخصية ابن خلدون ، فهو فى نفس الوقت معجب بالفنون ومبغض لها ، وهو يتذوقها ولكنه يحكم عليها لا لها ، لانها فى نظره علامة تقدم المجتمع وهى فى نفس الوقت علامة انحطاطه أو بداية انحطاطه على  الاقل .

وأخيرا ، ان بقيت أشياء ناقصة فى هذه الوثيقة الثمينة فمنها ولا شك اغفال ابن خلدون أسماء المغنين الافارقة حتى عصره . أفيكونون نكرات كلهم ؟

2 - قيمة منهجية

يقوم هذا الفصل على منهجية واضحة اذ يوجد خيط منهجى يربط بين

مختلف الافكار ويحقق بذلك وحدة الفصل من الناحية المعنوية . هذا الخيط المنهجى هو تمييز ابن خلدون الدائم بين التناسب الموسيقى البسيط ، والتناسب الموسيقى المركب .

إن هذا المبدأ ذا الشقين : البساطة والتركيب - وقد استخرجه هنا بالرجوع الى علم الموسيقى - يطابق تمام المطابقة مبدأه العام ، ذلك الذى بني عليه فلسفته العمرانية كلها . أفليست هذه الفلسفة العمرانية تقوم على التمييز بين نوعين من العمران بسيط ومركب ؟

إذن فقد تم التطابق ، ولم يبق الا مقابلة كل شق فى أحد المبدأين بالشق الذي يناسبه فى المبدأ الآخر ، لان الحضارة تتفاوت بتفاوت العمران كما يقول ) 17 ولذلك فللبادية التناسب الموسيقى البسيط ، وللحضر التناسب الموسيقى المركب . انه منهج واضح ومنطقي ولكنه لم يعصمه من الخلط ، فقد خلط ككثير غيره بين الجاهلية والبداوة ( وقرر بذلك أن الغناء فى الجاهلية كان مجرد مناسبة بسيطة للنغمات ) 19 ( . واذا كنا نوافق ناصر الدين الاسد في نعته لهذا التعميم ) تعميم البداوة على الجاهلية ( بأنه " تعميم فضفاض " ) 20 ( فاننا نخالفه فى قوله انه " يستند الى فرض غائم " ) 21 ( ذلك أن الطابع البدوى فى رأينا قد غلب على الحياة العربية في الجاهلية أو على الأقل على الأدب الجاهلى ، ذلك الأدب الذي اعتمد عليه ناصر الدين الاسد لبيان نظريته ، والذي هو ادب مصبوغ أساسا بصبغة الانشاد البدوى لا صبغة الغناء الحضرى

3 - قيمة فكرية

من المعروف أنه نشأت فى الثقافة العربية ثروة فكرية واسعة حول موضوع الغناء والموسيقى ) 22 ( o وهذه الثروة الفكرية هى أساسا مصب ثلاثة روافد وهي مواقف الفقهاء ، ثم الفكر الفلسفي وأخيرا آراء الصوفية .

أما الفقهاء فقد عالجوا المسألة من جهة تحليلها أو تحريمها ، وأما الفلاسفة فقد ميزوا بين علم الموسيقى وصناعة الغناء فمدحوا العلم وذموا الصناعة وأما الصوفية فقد حققوا الوفاق بين الشرع والموسيقى بتبنيهم للغناء وتطويرهم لمصطلح السماع . تلك هى التيارات الفكرية الرئيسية حول  هذا الموضوع . ثلاثة مواقف فكرية تصبح أربعة اذا أضفنا إليها الموقف الخلدوني وهذا أقل ما يستحق إذ هو موقف موضوعي وأصيل ( ويدخل في إطار فلسفة عمرانية شاملة ) 24 ( ونستطيع تلخيصه في الأفكار التالية :

- الغناء ظاهرة عمرانية . - لكل نوع من العمران نوع من الغناء - صناعة الغناء كمالية لا وظيفة لها إلا وظيفة الفراغ والفرح ) 25 ( - صناعة الغناء آخر ما يحصل في العمران من الصنائع - صناعة الغناء أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله

4 - قيمة نقدية

إن من يمعن النظر فى ما كتبه ابن خلدون عن الغناء يخرج بعدة ملاحظات ثمينة تهم النقد العربى

أ . بين الموسيقى والأدب

يرى ابن خلدون أن اختلال نظم الكلام ، الناتج عن تنافر الحروف أو تقارب مخارجها ، واختلال التناسب الموسيقى ، من باب واحد ويشتركان في القبح ) 26 ( كما يرى أن الناحية الموسيقية فى الشعر هى التى جعلت هذا الفن أحظى عند العرب وأشرف من بقية الفنون الأدبية ) 27 ( .

وفى رأيه إن الأوزان الشعرية والأوزان الموسيقية ترجع إلى أصل واحد ولكنها تتفاوت فى نسب البساطة والتركيب ) 28 (

ب . بين الغناء والأدب

تعرض ابن خلدون إلى بعض المظاهر التى تتجلى فيها العلاقة الوثيقة بين الغناء والأدب . فهذه أشعار توضع خصيصا لمصاحبة الرقص بالغناء ) 29 وهذه المدرسة الغنائية البغدادية تصبح ، هي ومجالسها ، موضوعا لا ينفد للحديث ) 30 ( . بل ها هو الغناء - فى المرحلة البغدادية - يصبح جزءا من أجزاء الأدب ف " كان الكتاب والفضلاء من خواص الدولة العباسية يأخذون  أنفسهم به ، حرصا على تحصيل أساليب الشعر وفنونه " ) 31 ( ولم لا ينطوى

الغناء تحت لواء الأدب ؟ أفليس هو تابعا للشعر بما أنه تلحينه ؟ ! ( .

لكن الغناء تابع جموح . ذلك أن التلحين " يتعين له مقدار من الصوت لا يتم إلا به من اجل التناسب " ) 33 ( . مما يضطر الموسيقار إلى التغيير فى مادة التلحين سواء كان ذلك بالزيادة أو بالنقصان )  34 (

ج . أحد مقومات النظرية النقدية الخلدونية

نجد فى هذا الفصل مقوما من المقومات المكونة لما يمكن أن ندعوه نظرية نقدية خلدونية ، وبيان هذه النظرية سيكون واسطة العقد فى هذا المقال وهذا المقوم هو إيمان ابن خلدون بأن لكل عمران غناءه ولأهل كل بيئة  إحساسهم الموسيقى . وهو يطبق رأيه على الشعر الجاهلى فيرى فى تناسبه الموسيقى البسيط انعكاسا لبساطة الحياة البدوية . إن ابن خلدون لا يقف موقف التقديس من الشعر الجاهلى ، ولا يرى فيه الكمال المطلق . بل هو يري أن تناسبه البسيط ليس إلا قطرة من بحر من تناسب الأصوات ، ولكن الجاهليين " لم يشعروا بما سواه لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علما ولا عرفوا صناعة  وكانت البداوة أغلب نحلهم " ) 35 ( . لكأن فى هذا التقرير دعوة ضمنية الى  تجاوز هذه المرحلة البدوية البسيطة من تاريخ الشكل الشعرى العربى الى

مراحل اخرى اكثر ملاءمه لتغير البيئة ، وتعقد الحضارة ، وتكاثر الصنائع والعلوم ) 36 (

نظرية النسبية الأدبية

تلك هى النظرية النقدية الخلدونية التى نعنى . وهي تتناول أساسا فن  الشعر ، وتقوم على فكرتين أساسيتين :

1الشعر ظاهرة عمرانية . 2 لكل شعر بلاغته الممكن تذوقها أما أن الشعر ظاهرة عمرانية فتلك هي خلاصة هذه الملاحظات الثلاث : أ - إن الاحساس الموسيقى الذى يتجلى فى الشعر يتفاوت - كما رأينا - فى البساطة والتركيب بتفاوت البيئات فيهما ، وبالتالى فالذوق الشعرى من الناحية الموسيقية والشكلية يتغير بتغير البيئة

ب - إن لكل جيل من الأجيال ما يلائم طبعهم من الشعر ) 37 (

ج - إن الشعر ليس وقفا على لغة من اللغات بل هو موجود بالطبع فى أهل كل لسان ) 38 ( وأما أن لكل شعر بلاغته فذلك ما يحرص ابن خلدون على

إبرازه متصديا فى ذلك الى مناقشة " الكثير من المنتحلين للعلوم " ) 39 ( فى استنكارهم للفنون الشعرية العامية ، وادعائهم أن الذوق ينبو عنها لخلوها من الاعراب ) 40 ( وهو يرد عليهم معلنا في غير ما موضع انه علينا أولا - كي تتذوق ( 41 ) بلاغة شعر ما - أن نتمرس باللغة التى قيل فيها ، لتحصل لنا  ملكتها ) 42 ( .

قد يكون إيمان ابن خلدون بهذه النظرية هو الذي دعاه إلى تفهم الفنون الشعرية العامية وتذوقها وحفظ ما يروقه منها ) 43 ( كما قد يكون تذوقه لهذه الفنون الشعرية هو السبب فى تعبيره عن نظريته ودفاعه عنها . المهم هو أن  ابن خلدون كان واعيا بالازدواجية اللغوية والأدبية السائدة فى عصره : لم يحاول أن يتغافل عنها أو ينكرها فعل كثير من أدباء الفصحى وعلمائها ، بل واجهها بجرأة وموضوعية ( 44 (

الموشحات والأزجال والشعر العامي

إذا أطلت في بيان نظرية النسبية الأدبية لدى ابن خلدون فذلك لأنها الفكرة الأساسية التى يقوم عليها الفصل الأخير ) 45 ( من المقدمة . فلم يكن ابن خلدون فى هذا الفصل مجرد " مؤرخ " للفنون الشعرية المختلفة بل كان كذلك ناقدا ذا نظرية ، ولتدعيمها استشهد بعدة نماذج من تلك الفنون ، وبفضل هذه الخلفية النقدية يتميز ابن خلدون عن غيره من اللذين اكتفوا باحصائها أو

إيراد بعض النماذج للتمثيل لها . غير أن هذه الميزة الخلدونية قد تتضاءل شيئا ما اذا علمنا أن ابن خلدون قد نقل ما كتبه عن تاريخ التوشيح والزجل نقلا حرفيا او يكاد عن نص فى كتاب " المقتطف من أزاهر الطرف " لابن سعيد المغربي ) 46 ( . لذلك فسنكتفى - فيما بقى من المقال - بإيراد بعض الملاحظات حول علاقة هذه الفنون الشعرية بفن الغناء من خلال ما ورد في هذا الفصل

1 الفنون الشعرية العامية ) 47 ( والغناء أ - النماذج البدوية ) 48 (

إن هذه الأشعار لا تختلف كثيرا عن الشعر الجاهلى ، ولكنها تبدو أحيانا صورة مشوهه له سواء كان ذلك من الناحية اللغوية أو الايقاعية ) 49 ( . واذا كان طابع الانشاد متغلبا على الشعر الجاهلى فمن الطبيعي أن يكون الأمر كذلك بالنسبة لهذا الشعر ؛ على أنه لا يمكن إغفال حظه من الغناء .

إن ابن خلدون يقول إنه قد يلحن تلحينا بسيطا ويغنى ) 50 (

وهذا شاعر بدوى يحدثنا عن الانشاد تارة وعن الغناء تارة اخرى وكأنهما نفس المصطلح ) 51 ( .

ولا شك أن القصص الشعرى المتعلق بالمسيرة الهلالية كان يتغنى به فى المحافل القبلية ، وربما صاحبت الغناء بعض الآلات الموسيقية البسيطة ) 52 (

ب - النماذج الحضرية ) 53 )

وهي تمثل الزجل  الأندلسي ، وعروض البلد المغربي  وبعض ما تفرع عنه من " أنواع " ) 54 ) ، والفنون العامية المشرقية .

ولا شك أن هذه الأشعار الحضرية أوثق صلة بالغناء من أشعار البدو . فمعظمها ذات أغراض غنائية كالغزل وما يتبعه من وصف مجلس الخمر  والطرب :

" طل الصباح قم يا نديمي نشربو   ونضحكو من بعد ما نطربو 55

وقد تطغى هذه الأغراض الغنائية على قصيد المدح الذي كثيرا ما يكون هو نفسه معدا للغناء ) 56 ( . ومن الواضح أن كثيرا من النماذج التى أوردها ابن خلدون إنما هى مطالع أغان شعبية شائعة ) 57 ( . على أننا نأسف لعدم إيراده نماذج من الأغاني التونسية الحضرية لعهده ) 58 ( . ونقف عندما  كتبه عن الزجل الأندلسي لنبدى ملاحظتين :

أولا : إن تاريخ الغناء فى الأندلس ذو أهمية عظمى لمن يريد معرفة أثر الغناء فى الأدب الأندلسي بصفة خاصة وفي الأدب العربى بصفة عامة .

ذلك ان تاريخ الغناء فى الأندلس يمثل - رغم تشعبه وتعقده - وحدة متكاملة ، فهو قد حقق بين الموسيقى المشرقية - وقد بلغت ذروتها مع زرياب - وبين الموسيقى الاسبانية - وقد تجلت آثارها في الفنين الغنائيين الزجل والموشح - تعايشا سلميا ) 59 ( كانت له آثار هامة فى الأدب الأندلسي والعربى ، تتجلى فى رضوخ الآدب فى النهاية - أسوة بالغناء - إلى مبدأ  التعايش السلمي . فها هو امام النظم والنثر فى الملة الاسلامية ) 60 ( أبو عبد الله بن الخطيب يضرب بسهم فى كل الفنون الأدبية الشائعة فى عصره  بما فى ذلك الأزجال والموشحات .

ثانيا : إن هذا التعايش السلمي كما كانت له جوانب إيجابية قد كانت له جوانب سلبية  . ذلك أن ذينك الفنين الغنائيين بحكم نشأتهما - الزجل والموشح - قد استقلا شيئا فشيئا عن الغناء وأصبحا فنين شعريين ، تقاس بهما مقدرة الشاعر ، وتظهر فيهما بلاغة الأديب ) 61 ( .

وإذا كانا قد لقيا نفس النجاح فى مرحلتهما الغنائية ، فانهما لم يلقيا نفس المصير عندما أصبحا فنين شعريين صرفين . فبينما أصبحت الموشحات فنا  أرستقراطيا متكلفا ، بقيت الأزجال بفضل توخيها اللغة العامية والبساطة فى النظم أكثر شعبية وأوسع انتشارا ) 62 ( .

الفنون الشعرية الفصيحة والغناء

أورد ابن خلدون نماذج للدوبيت المشرقي وللموشحات الأندلسية والجزائرية والمشرقية ) نلاحظ هنا ايضا  اغفاله للمشاركة التونسية فى هذا الميدان ( .

وقد سبق أن قلت إن معظم النماذج التى أوردها ابن خلدون من الموشحات تنتمي إلى مرحلة متأخرة من حياة هذا الفن . فهى موشحات تنظم للانشاد كما هو الشأن بالنسبة للقصائد الفصيحة . ولا شك أن إنشاد الموشحات كان يلقي رواجا فى الأوساط الأدبية ، غير أن الموشح - كفن شعري - قد انفصل عن جمهوره الواسع ، وانضم الى الشعر الرسمى الأرستقراطى ، وبذلك دخل فى الاتجاه العام للشعر العربى فى عصور الانحطاط ) 63 ( .

إن المبدأ فى الموشح - ككل فن غنائى - أن يكون بسيطا لا متكلفا ، فروعته تتجلى فيه كفن مسموع قبل كل شئ ، ولكن استقلال الموشح عن الغناء  وانتصابه فنا شعريا صرفا لا يربطه بالغناء إلا ما يربط الشعر الفصيح به  قد جعلاه يحيد عن سبيله الأولى

وقد ورد في هذا الفصل خبر عظيم الدلالة إذ نستفيد منه أن بعض الوشاحين قد أحس بهذا التحول الخطير فى حياة الموشح ، وحاول الوقوف في وجه التيار الجارف . مفاد هذا الخبر أن يحيى الخزرجى قد دخل على الوشاح المرسى ابن حزمون " فأنشده موشحة لنفسه ، فقال له ابن حزمون : لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عاريا من التكلف " ) 64 ( .

ولكن هذه المحاولة التشبثية بمبدأ  البساطة وعدم التكلف كانت محاولة فاشلة . ذلك أن الموشح - كفن شعري - لم يكن ليستفيد شيئا من بساطته  هذه إلا أن يبدو نوعا من المسخ أمام الشعر التقليدى ذى القوالب المتينة من  الألفاظ والعبارات ) 65 ( .

فهل يكون تورط الموشح فى هذا الطريق المسدود دليلا على فشله إن الموشح - كفن غنائى - قد نجح فى خلق أجواء فنية موفقة ، وفي تلبية حاجة كبيرة فى الحساسية العربية إلى التعبير عن معانى الحب والجمال والذكرى بالكلمة المزخرفة واللحن الشفاف والنغم الحنون

أما بخصوص الموشح كفن شعري ، فانى لا أوافق البشير بن سلامة فى ما ذهب إليه من " أن الحرية المطلقة فى اختيار القوافى بالنسبة للموشح تؤدى حتما الى الفشل " ) 6 ( .

حقا ، إن استكمال العدة الفنية " كما يقول ابن سلامة أصعب فى الموشحة منه فى الشعر العمودى ) 67 ( ولكن بما انه وجدت موشحات استكملت عدتها الفنية ) 68 ( - مما جعلها تخضع لظاهرة المعارضة كما هو الشأن بالنسبة للقصائد الموفقة - فهذا دليل على أن من الأوزان ما يمكنه استكمال عدته الفنية مع أكثر من قافية واحدة ) 69 (

اشترك في نشرتنا البريدية