قذفه القطار على الرصيف . . وجد نفسه يمسك حقيبة سفره الجلدية تحت رذاذ غريب الوقع . . رذاذ يبعث رهبة ملفعة بالحنين . . إمتلأت أعماقه خليط غير متجانس من الخسة والرغبة فى الاكتشاف . . شعر بتيار عنيف يجره الى التجربة . . ولأول مرة بعد هذه الدقائق المشلولة يداهمه سؤال حقيقي : لماذا نزلت هنا بالذات ، فى هذه المحطة التى لا أعلم عنها شيئا ؟ . رفع عينيه ليرى القطار يغيب فى جوف الظلام . . تنبعث منه أضواء كامدة . عحبا . . لم يدرك الا الآن أن القطار الذي كان يحمله بين أحشائه يسير بكل هذا الصمت . . بكل هذا الخرس . . يلتهم الدروب والمنعطفات بدون ضجة . يوزع المسافرين والغرباء على جميع المحطات فى تواريخ مختلفة دون صخب يذكر . .
اجتاحته رغبة عنيفة تدعوه للجلوس . . . تحسس الرصيف فوجده مبللا . . فتح شفتيه علامة الاستياء . . استولى عليه احساس مبهم . . مضمخ بالحيرة اي اتجاه يسلك ؟ . . أى درب يمكن أن يبدأ منه الرحلة . . كل الطرق متشابهة . . بل هي درب واحد ضخم يطن فيه الظلام . . هل يبقى مسمرا فى مكانه ؟ . . حرك حقيبته كأنه غير راض على قراره هذا . . الى أين يمضي اذن ؟ الظلام يبعث الرهبة فى كل خلية من جسمه . . الظلام ؟ ! . . ارتعشت أوصاله حتى النخاع . . من يدرى . . قد لا توجد مدينة هنا . . حتى ولا قرية بائسة . . حقيرة . . ليس هنا مصابح كهربائية . . لعله اخطأ المكان . . قد يكون ذلك صحيحا . . وقد يكون غير صحيح . . من يدرى ؟ . . لكن . ليس هناك بشر واحد يوقظ فيه الاحساس بوجوده . . هل نزل وحده من القطار ؟ . . أشعل عود ثقاب . . انها بداية التجربة . . نقطة التحسس . دقق النظر في ساعته المعصمية . . اكتشف باستغراب أن عقربيها جامدتان . . رفع الساعة الى أذنه اليسرى . . انها متخشبة . . ميتة . . عقرباها هامدتان فوق بعضهما تشيران الى اللاشئ . . الى الفراغ . . الى الساعة الصفر . الى الدقيقة الصفر . .
رمي بالعود المتفحم فأحدث وشوشة خفيفة فوق الرصيف المبتل . . ثم هجع الى الأبد . . زرر معطفه باحكام . . شد على حقيبته بقسوة . . القى نظرة
ضبابية خاطفة مسح بها المكان المجهول . . عاوده الشعور بأنه ربما ليست هذه هى المحطة المقصودة ؟ . . وضع الحقيبة من جديد . . أسندها الى ساقه . أشعل عود ثقاب آخر . . انحني ليحميه من بصاق هذا الرذاذ المملوء بالاسرار . . أدخل يده اليمنى فى جيبه يبحث عن التذكرة . . انها ولا ريب تشير الى المكان الذي يقصده . . لقد نسى الاسم بالضبط . . انه يبدأ . . انتظر . . يبدأ ب . . يبدأ . . أووه . . يا للذاكرة اللعينة . . لقد نسى وانتهى الأمر . . لكن . . لا بد من التحقق قبل الغوص فى أعماق مجهولة . . بحث فى جيوب سرواله . . سترته . . كل الجيوب . . أشعل عود ثقاب آخر . . تبا . . لا بد أنه فقدها داخل القطار . . لكن . . نعم . . آه انه بدأ يشك . . هل أعادها له قاطع التذاكر بعدما ثقبها بكلابتيه ؟ طبعا أعادها . . ماذا سيفعل بها ؟ لا . . لم يعدها . . أعادها . .لم أخذت أنامل الخوف والغموض تتلمس جسمه . . بدأت تعبث بكيانه . . تعصف بروحه . . اجتاحه شعور حانق . . كم هو مغفل . . كيف يسمح لنفسه بالنزول من القطار في هذه المحطة بعينها دون أن يكون فى وعيه ولو قليل علم بها ؟ ! لكن . . كيف نزل ؟ ليس يدرى على وجه التدقيق . . كان نائما على مقعده داخل احد احدى العربات . . فجأة وجد نفسه يفتح عينيه . . يتثاءب من كثرة النوم . . غمره فى تلك اللحظة شعور بأن جميع المحطات متشابهة الى حد الانطباق . داهمه احساس بسخف استمرار الرحلة المبهمة . . أخيرا اندفع دون وعى خارج العربة ليقف هنا حائرا فوق هذا الرصيف المبتل الذى تنبعث منه رائحة زخمة كرائحة كلب مهمل تحت المطر . . أمام كتلة مكثفة من الظلام المشبع بالأسرار المقفلة . . تجاه مدينة خرافية . . وهمية ترقد ساكنة فى اللاشئ . . أمسك حقيبته من جديد فى عزم ثابت . . لا بد أن يبدأ توا . . هل يبقى هكذا دون ان يفعل أى شئ ؟ ! سار خطوتين الى الأمام . . خاضت رجلاه في الوحل . أصبح من العسير التقدم . . تراجع الى الخلف ساخطا فى سره على هذا السواد الأكمه . . بدأت لسعات البرد تلهب لحمه . . إعتصرته رعشة ألم . . أشعل عود ثقاب . . لا شئ ! رصيف . . هذا ما في الأمر . . انطفأ عود الثقاب . . اسودت الرؤية من جديد . . غير اتجاهه . . لا بد أن يصل الى المدينة . أو القرية . . بأي ثمن . . انه يملك قليلا من المال يكفى لتأجير غرفة متواضعة فى فندق وسخ . . حرك رجله اليسرى تأهبا للسير . . اصطدمت رجله بشىء متصلب . . فقد توازنه . . سقط على وجهه . . سمع دوى الحقيبة وهى - تنفلت من يده وتسقط على الرصيف . . بقى جامدا . . ألم حاد يفري أنفه . وجهه ملوث بمياه الرذاذ القذرة . . ارتكز على كلتا يديه . . قام وهو
يلعن بصوت مرتفع . . يلعن كل شئ . . حتى نفسه . . ليلعن من شاء . . ومتى شاء . . ليست هناك أذن مرهفة في الطرف الآخر من هذا الظلام البارد يمكن أن تعطي للعناته قيمة . . ولو قيمة وسخة . . أشعل عود ثقاب اخر . التفت يمينا . . شمالا . . بحلق فى الدائرة الضيقة المضاءة . . تقدم . اتجه يسرة . . دار حول نفسه . . أين الحقيبة ؟ سحقا . . بصق كل لعابه . . سحقا . . أين ذهبت ؟ لقد سمع دويها الهائل يمزق الصمت وهي تسقط غير بعيد عنه . . من أخذها . . أهكذا تسلب منا الأشياء . . ابتعد من مكانه اكثر اوغل فى الابتعاد . . أعواد الثقاب تشتعل لحظة . . تنطفئ أخرى . . تشتعل تنطفئ . . أين الحقيبة ؟ ! . . أحس بألم حاد فى صدغيه . . تصلب فكاه فوق بعضهما . . حلقه سبخة جافة . . مطارق صخرية تدق جدران جمجمته أخذ يلهث . . أين اختفت ؟ . . اللعينة . . هذا آخر شئ كان ينتظر حدوثه . . ان الحقيبة تحمل ماضيه كله فى جوفها البارد . . جميع أوراقه الرسمية . . وغير الرسمية . . بطاقة الولادة . . بطاقة الهوية . . بطاقة الجنسية . . صورة تذكارية لامه وهي تعاني ألم المخاض قبل أن تلده ببضع ثوان . . أى فندق سيقبله بدون أن يستظهر بأوراقه الرسمية . . ركبه اليأس . . قبض على مخارج شرايينه . . أحس بركبتيه تخوران . . تعجزان عن حمل الجزء العلوي من جسمه . . أغلقت أبواب أعماقه . . أظلمت نوافذ الادراك دونه . سمح لأصابع يديه أن تتشابك مع بعضها فى ود ومحبة . . فى ارتباك وحيرة ولكنه صمم على اكتشاف المدينة التائهة . .
طوح بعلبة الثقاب الخاوية بعيدا فى الظلام . . أحس وكأنه فقد نور عينيه . . لم يبق له من دليل غير حدسه المرهق فى العتمة . . رؤاه الكامنة تحت ركام نفسه المهشمة . . كيف . . ألن يمر شخص من هنا ؟ ألا يمكن أن أشم رائحة بشرية في طريقي الداجية نحو المدينة التى تنبت جذورها فى أعمق أعماق التاريخ الكوني ؟ ! قفز في مكانه رعبا . . سرت فى دمه المثلج شحنة كهربائية لاذعة . . أحس أن شيئا باردا . . جليديا أكثر من اللازم يلمس يده اليمني . . يحاول أن يتعلق بها . . تحسس الجسم المريب بحذر . . أحس أن سيالاته العصبية تخز دماغه بأقباس من نار . . أيمكن أن يحدث هذا ؟ انها الحقيبة فعلا . . انها هي . . حقيبة سفره الجلدية . . شعر بأجزاء نفسه المشتتة تعود لتلتحم من جديد في جسم روحي آزلى . . أحس بثقته المفقودة منذ اللحظة التى وقف فيها على الرصيف لاول مرة تعود اليه ثانية لم يجد الوقت ليسأل نفسه . . كيف يتسنى لحقيبة جامدة أن تسير فى الفضاء وحدها . . بل على الارض ؟ " أو " من يمكن أن يكون هذا الشخص اللامدرك الذى حركها ؟ " .
إبتسم من جديد . . ولدت فى أعماقه فرحة أبدية . . أزهرت فى نفسه الخربة ورود الأمان الخالد . . آه . . آآآه . . لا بد من أن أسرع الآن الى المدينة . . لن استطيع انتظار الفجر . . سوف أهرول الآن ثم ألقى بنفسي داخل غرفة فندق . . أو تحت الاسوار . . أو بين الخرائب . . ثم أطبق جفنى . . أنام طويلا . . طويلا . . طوي أمسك الحقيبة بقوة . . قهفه شيطان الشك فى رأسه من جديد . . الحقيبة ! يا الهي . . مالها خفيفة . كورقة جافة . . لعلى واهم ؟ . . لا . . انها ليست حقيبتى . . هذه خفيفة جدا . . أحس وكأن جسمه يغوص فى بحيرة ثلجية آسنة . . فى مستنقع خريفي زخم . . أمسك الحقيبة بكلتا يديه . . حاول أن يفتحها . . لكنها لا تزال مغلقة كما عهدها قبل بداية الرحلة بثوان . . تحسس صفحتها العلوية انها هي . . حروف اسمه الاولى المعدنية ما زالت مثبتة عليها . . ادخل يده اليمنى فى كل جيوبه . . أين المفتاح ؟ أين هو ؟ هل سرقه مفتش التذاكر ابتسم رغما عنه . . لكن كيف ؟ .
استسلم مكرها . . لا بد من خلعها عنوة . . وضع الحقيبة على الرصيف حاول ان يفتحها بالقوة . . بكل جهده . . لا فائدة . . عبث فى عبث . لقد أصبحت كتلة صلبة . . لن يستطيع فتحها الى الابد . . لقد ختمت بختم الملك سليمان . . لكن هل الأوراق لا تزال هناك ؟ . . زحفت جيوش الشك تعمر كل واجهات تفكيره . . تحجب عنه أية رؤية . . بدأ ذهنه المشلول يعمل ببلادة مطلقة . . لم يعد يهمه كيف يفكر . . ولا فى ماذا يجب أن يفكر سوف ينسى كل شئ عن نفسه وعن هدفه شيئا فشيئا . . لقد بدأ عقله بتحول الى صحراء مقفرة . . بلا علامات . . جرداء . . بلا أبعاد . . بلا دلائل صحراء بحرية . . أو بحر صحراوى . . ماذا عن غايته . . عن مراميه . عن الدافع الذى حثه الى خوض رحلته هذه نحو الاراضى المجهولة . . نحو أرض الدجى . . كل شئ فى الحقيبة المتحجرة .
وقف مترنحا . . نظر بعينيه الضبابيتين . . برؤاه الغائمة الكسيحة . امسك حقيبته التى كتب عليه أن لا يعرف ما بداخلها . . ولكنه مع ذلك لم يستطيع أن يتخلى عنها ولا أن يتملص من عبثها . . رفع ياقة معطفه حتى أذنيه وهو يبتسم إبتسامة عريضة جمجمية . . وانزلق فى الحلكة الداكنة يتخبط بحثا عن المدينة التائهة فى الظلام . . الغائصة فى اللاموجود . بعيدا . . هناك . . بعيدا . . بعيدا . . خلف الظلام المتكثف حتى اللانهاية

