- 2 -
جوانب اجتماعية وقومية :
ان الآثار التى بين أيدينا مما كان الشاعر بوشربية قد خلفه لنا ، لا تمكننا من التعمق فى دراسة شخصيته والكشف عن جوانبها المختلفة . فهو لم ينشر جميع شعره فى ديوان أو فى مجالات النشر الأخرى ، وكل ما وصل الينا أو أغلبه مقصور على ما نشر له فى مؤلف الاستاذ زين العابدين السنوسى عن الادب التونسى فى القرن الرابع عشر .
ومع ذلك فاننا نستطيع من خلال تأملنا هذه الآثار أن نحكم على الشاعر وانه كان من رواد الشعر الاجتماعى والقومى ، وان كانت النزعة الاجتماعية هى الغالبة عليه .
ويؤكد هذا ما ذهب اليه الاستاذ محمد الفاضل بن عاشور حيث يقول فى معرض حديثه عن شعره :
" ان شعره كان اجتماعيا باعتبار الموضوع لا باعتبار الاسلوب لانه يتجه بالنظر الى المجتمع وأدوائه وعيوبه فيتبرم به ويألم له ويشكو منه ويثور عليه ، فلا يتلاقى مع اتجاهات الناس بل ينفرهم ويقسو عليهم ويزمجر فى وجوههم . فهو فى روحه وأسلوبه حكمى وجدانى وان كان موضوعه اجتماعيا الا ان تعلقه بالفكرة الاصلاحية والروح القومية هو الذى أساغ بعض قصائده للجمهور فى هذا الطور لا سيما حماسيته التى يثور بها فى وجه الظلم والجهل والتأخر " .
لقد أوضح الاستاذ الفاضل أن النزعة الاجتماعية هى التى كانت تلون آثار الشاعر وان كانت فى أحايين كثيرة تتداخل مع النزعة القومية حتى لا يمكن الفصل بينها ، ولا غرابة في ذلك ، فطبيعة الحياة التى كان الشعب يعيشها والتى كان الشاعر يلاحظها ويتفاعل معها ، يتداخل فيها الغرضان . وكمثل
على ذلك يمكن أن نتأمل هذه الأبيات من قصيدة ( السياسة ) ففيها يدعو الشاعر الى الوحدة القومية والى الانكباب على طلب العلم وهى دعوة يمكن وصلها بالقضية القومية كما يمكن ربطها بالوجه الاجتماعى . وقد جاء فيها قوله :
ألا قبح الله السياسة انها بتونس لا تجدى وبالنفس تذهب
وكيف يسوغ اليوم درس غموضها ولا وحدة فينا ولا من يرغب
نريد نهوضا للمعالى ودونها شدائد يذكو وقدها فتلهب
فلا نيل للمغزى ولا فوز بالمنى ولا ظفر ، ما دمنا من الموت نهرب
ترومون أن نعطى حقوقا ، ونحن فى بحور الكرى غرقى وفى الجهل نرسب
فلا علم يعلى فى سما المجد قدحنا يعضد مرمانا فنحيا وندأب
جبلنا على حب الوظائف لا نعى لأمتنا قولا غوانا التنصب
فيا ليتنا كنا اضطجعنا كعهدنا ولم نطلب الدستور ثم نؤنب
وما ذاك عن عجز دهانا وانما شغفنا بتفريق نأى عنه مأرب
هكذا يبدو الواقعان الاجتماعى والقومى متداخلين مترابطين ولو عاش الشاعر ظروفا غير التى عاشها - وأعنى بها ظروف الاحتلال - لكان حديثه عن محاربة الجهل والتمسك بالعلم والسعى اليه من المواضيع الاجتماعية ، وكذلك لكان حديثه عن التفكك القومى ودعوته الى الوحدة . أما وقد قال ما قال فى فترة الاحتلال ولغرض تحرير بلاده وشعبه فالحديث يصبح ذا وجهين .
وضمن معالجة الشاعر للمشاكل الاجتماعية ، كان تصويره للوجود الجاهل وكان اهتمامه بالدعوة الى العلم وذلك ما يظهر فى اكثر من قصيدة . وفى قصيدته ( فيا أمة ) لا يكتفى بالدعوة المجردة بل يتجاوزها الى المقارنة به الواقع التونسى فى تأخره وجموده وموته ، وبين الواقع الغربى فى تقدمه واكتشافاته واختراعاته . وها هو يقول مجسما المفارقات بين هذين الوجودين :
سكنا مغارات الجبال ، وغيرنا تملك بالأجواء والبر والبحر
وهموا بأن يحيوا الموات ويجعلوا من البحر هتانا بأمرهم يسرى
وخاضوا عباب المهلكات وشيدوا صروح حياة بين قاصمة العمر
ودكوا شماريخ الجبال وأخرجوا من الترب لألاء من التبر والنضر
وقد عطلوا سير الرياح ، وصبروا قواها بأمر العلم عداءة تجرى
ونحن بقينا باسطين أكفنا الى الله أن يستبدل العسر باليسر
وان يدفع الأعداء عنا تكرما ونحن عكوف فى الزوايا على النكر
واذا كان الشاعر هنا يبدو غير راض عن الوجود الدينى فى عصره - كما يتضح ذلك من البيتين الأخيرين - فليس ذلك لأنه كان ناقما على الدين فى جوهره ، بل لأنه كان ساخطا على ما علق به من بدع وافتراءات عبر العصور . وحتى نتأكد من ذلك نتأمل خاتمة القصيدة وفيها تهجم على الشعب لتحلله من مبادئ الدين وتعلقه بالمظاهر المزيفة الكاذبة التى ألحقت به :
فيا أمة ضلت بأقوال بهل وبدعة زنديق وجثم على القبر
وحادت عن الدين القويم بما روت رواة الأحاديث الملفقة الكثر
لأنت على الاسلام أشام أمة تغلب مغواها عن الوعد والزجر
ومثل هذه الدعوة الى السعى للحصول على العلم البناء ومثل هذا الحماس لرفعة الاسلام نلمسها فى قصيدته ( أحلام ) التى تساءل فيها بصيغة التمنى عن الوجود الاسلامى ، ومتى تكون له منعته ومتى تكون له أسلحته الحديثة ومتى يكون له جنده وساسته الذين يحققون له النصر ومتى يكون له العلم وتزدهر فيه الصناعة . قصيدته هذه هى التى جمع فيها بين الدعوة الى العلم الفنى وبين الدعوة الى التمسك بالدين القويم كما جاءت به التعاليم الاسلامية المنزلة لا الموضوعة وهى التى يقول فيها :
متى أرى لبنى الاسلام منعتهم طال انتظارى لما أملت أعواما
متى أرى مدفعا يرغو ومسلحة تدوى وأسطول حرب بالقوى عاما
متى أرى فى فجاج الأفق طائرة تحوم حول العدى ان طيرهم حاما
متى أرى لهم جندا تنظمه أسد تقدمه للحرب أقداما
متى أرى العلم مبثوثا بمعلمهم ويرتقى الأدب الموهود أعلاما
متى أرى سوقنا تزهو بما صنعت معامل أودعت فى الصنع أحكاما
متى أرى الشرق والاسلام مرتقيا والغرب والروم فى الوهدان نواما
متى متى يا بنى الأوطان نهضتكم حتى أحقق ما قد خلت أحلاما
ومن مظاهر تحمس الشاعر لأصول الدين ما جاء فى قصيدته ( كلام الاله وقول البشر ) التى ندد فيها بسلوك بعض الناس ممن تخلوا عن كلام الله وتمسكوا بالقوانين الوضعية البشرية والتى يقول فيها :
نبذنا الكتاب وأحكامه وما فيه من باهرات العبر
وقمنا نسطر أسطورة تسمت قوانين ذات أثر
وان عنفونا لما قد نبذنا وما فى اتباعنا نهج الغرر
أجبنا بأن الكتاب قديم وليس يساير عصرا زهر
رأينا لدين النبىء علاء بهدى الكتاب وما قد أمر
فأنتم أرونا بقانونكم غلاء يضاهى رقيا غير
فيا للجهالة يمحي كلام الاله ويبقى كلام البشر
هذه بعض القصائد التى عالج فيها الشاعر مظاهر التفكك القومى ومشاكل الجهل وصور التضليل باسم الدين ومحنة الدين الحق بين أبنائه وكل ذلك يتصل اتصالا وثيقا بالجانب الاجتماعى فاذا انتقلنا منها الى الآثار التى تبرز فيها النزعة القومية بصورة أعمق وجدنا من أهمها تلك التى عالج فيها ظاهرة الخيانة ، وتهجم فيها على المارقين الخونة الذين كانوا قد مهدوا لمحنة الاحتلال أولا ثم عملوا على تركيزه ثانيا .
ومرة أخرى نعود الى قصيدته ( السادة الظالمون ) وفيها تنديد بالخيانة العظمى التى كان الحاكمون قد ارتكبوها ، وألقوا بالشعب والوطن فى أتون نتائجها :
ما حاربتنا الأعادى لنيل ما كان فينا
وانما حاربتنا سراتنا الخائنونا.. الخ
هذه صورة لواقع المأساة التى انصهر بها المجتمع التونسى قبيل فترة الاحتلال وبعدها ، وفيها اشارة صريحة الى أن النكبة بالاستعمار سببها اغراق الحاكمين فى الانقياد الى شهواتهم وأهوائهم .
انهم هم الذين مهدوا الى الاحتلال بفرض الضرائب وبذر الشر ومحاربة كل حركة اصلاحية بل وباعدام الداعين اليها فكانوا بذلك هدامين لمجتمعهم ، بائعين لمواطنيهم خائنين لضمائرهم ودينهم ووطنهم .
وإذا كان الشاعر قد اكتفى هذه القصيدة بابراز خيانتهم فانه فى قصيدته ( سوف ) تجاوز هذا الحد الى التهديد بالثورة والقضاء عليهم . يقول :
ما على الحاكمين فينا ملام ان ملكنا ، والكل عنا نيام
وعليهم أن يلهجوا بمناهم وينالوا بذلنا ما يرام
حسبهم ملبس موشى وأكل مستطاب ومجلس ومدام
وعبيد ومزهر وجوار وهدايا تجبى لهم وحطام
وكفانا من المعيشة فقر وتباب وذلة وانقسام
سوف نقضى على الألى ظلمونا بالذى قد قضوا وتجزى الطغام
وفى قصيدة له أخرى بعنوان ( علمنا ) يتهجم على بعض رجال الدين الذين أخضعوا مبادئه لأهوائهم وأغراضهم فرفلوا فى النعيم مقابل تقديمهم الشعب على مذبح مطامعهم . وهو فى ذلك يصل بين أيديهم القذرة وبين يد الخيانة فى مصافحة ملعونة يباركها التباب ويرجمها الوفاء . وها هو يقول فى بعضها :
اذا شاء ربك أغواء قوم وتدميرهم واعتلاء الطغام
يصر علمهم شر داء ( كذا ) وأربابه من شرار الأنام
وذاك جزاء بما قدمته أياد تخون الوفا والذمام
فتبا لها فلقد أرهقتنا وجرت علينا البلايا الجسام
وما علماؤنا الا كرات بأيدى الولاة الطغاة اللئام
يلقفها المال والجاه أنى يكن مطمع فهناك المقام
يحلون ما حرم الله جهرا وما حلل الله فهو الحرام
فتاو تحل وأخرى تحرم والكل يسعى وراء الحطام
وهناك وجه آخر يتصل بمعالجة الشاعر للقضية القومية لا يمثل الخيانة العارية وان كان غير بعيد الاتصال بها ، ويتمثل فى محاربته للاستخذاء والتذلل والركون الى المستعمر والرضى بما يفرضه المستبدون من أحكام . يقول فى قصيدته ( تونس ) بروحه الساخرة المتهكمة :
تقابل جور المستبد بحلمنا ونلقاه بالتهليل مهما تفاقما
ونحثو اليه ركعا سجدا إذا رمانا بسوء واستحل المحارما
نهادية بالارواح والمال زلفة ونبنى له فى كل أرض معالما
ويستمر الشاعر فى استعراض مظاهر الذل والخنوع ليتوجه بعد ذلك الى نونس فيرثيها ويندب حظها فى أسلوب ساخر مفعم بالمرارة اذ يقول :
فيا تونس ما فى بنيك مغامر ينازل قوم المستبدين
ولا في نواديهم دهاة سياسة ولا مصلح يستقبل الموت باسما
ولا شاعر يستنفر الشعب قلبه ولا عالم يهدى الى الدين حازما
حنانيك ما في القوم من متيقظ فنامى فليس الشعب شعبا مقاوما
هذه بعض القبسات من آثار الشاعر الاجتماعية القومية أرى أن أختمها ببعض ما جاء فى قصيدته التى قالها فى العيد الثانى لانشاء الجامعة العربية ( يوم العروبة ) وقد استهلها بالافصاح عن نفوره من شعر الزلفى والمطامع ثم تخلص من ذلك الى رسم المكائد التى تحاول بعض الشعوب ايقاع الأمة العربية فيها لعبر بعد ذلك عن ايمانه بمستقبل العرب الزاهى وعزة الاسلام فيقول :
آمنت أن بلاد العرب سوف ترى حزم الرشيد وعزمات ابن مروان
ووحدة الضاد تلتف العروش بها وصولة الدين فى عز وسلطان
وألفة نتمشى فى مناكبها تقص الخلاف بايلاف لتيجان
هناك ينبعث الاسلام ثانية فى الأرض ، يهدى لارشاد واحسان
يحيى المساواة ( حقا ) والعدالة فى صدق تنزه عن زور وبهتان
ملامح فنية :
لقد نظرنا فى آثار الشاعر بوشربية التى عالج فيها بعض قضايا الوجود الاجتماعى أو التى جلى فيها بعض الجوانب القومية ، ولا أعتقد أن الاغراض هى التى تهمنا الآن فقد أخذنا عنها أهمها أما بقيتها فثانوية . والمهم الآن هو أن نبحث فى الاتجاه الفنى الذي كان الشاعر قد سلكه .
فى رأيى - وحسب الآثار التى بين يدى - يمكن لى القول بأن فى نفثات الشاعر لمسات من الروح الرومانسية ولكنها ليست عميقة .. وقد لا أستطيع أن أحدد علة هذه السطحية على وجه التحديد ولكنى مع ذلك يمكننى القول بأن تلبس الشاعر بالاساليب التقليدية عن طريق دراسته الزيتونية من ناحية ، وعدم تبلور النزعة الرومانسية فى تونس من ناحية اخرى هو الذى وقف دون تعمقه فى التعبير الرومانسى . ولعل مما يؤكد على تأثره الاضطرارى بالاسلوب لتقليدى نتيجة ارتباطه بالمناهج والمواد الزيتونية قوله فى حديث له مع الاستاذ زين العابدين السنوسى :
" لا يمكنني أن أخرج من جلد ثقافتى السنية التى تجلد بها عقلى من أثر مطالعة ومدارسة ( الصغرى ) و ( الكبرى ) . تلبست بأرواح تلك الكتب الصفراء حتى بعد أن كفرت بصاحبها فى صغراه وكبراه ، فأنا إلى اليوم أجدنى حبيس ما أدمنت قراءته فى كتبهم من قال وقيل ... "
ولكن ثقافة الشاعر لم تكن مستمدة من الكتب الصفراء - حسب تسميته لها - فحسب . بل كانت أيضا قد أخذت حظها من الادب الفرنسى الذى كان الشاعر شغوفا بمطالعته من منبعه الاصلى وبلغته أيضا ، مما كان يؤهله لان يتحرر من الاساليب التقليدية ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يتحرر تماما من طاحونة التقليد . فهل هنالك سبب آخر كان يساعد على شده الى هذه الطاحونة ؟
لعل الاجابة عن هذا السؤال يمكن أن نلمسها من خلال ما صارح به الشاعر صديقه السنوسى حيث قال له :
" أنا اليوم ... أبحث عن الحق من وراء الأقاويل ولا أتبين شيئا مما يحف بى فى هذه الحياة " .
فالذى يمكن أن نستشفه من وراء هذا القول هو أن الشاعر كان يعانى تجربة الحيرة .. لعلها الحيرة فى اختيار المنهج الذي يسلكه فى أدبه ، ولعلها الحيرة فى معرفة الحق بمفهومه العام ، وهى حيرة لم تكشف له عن شئ من حقيقة الحياة التى كان الشعر عنصرا من عناصرها .
اذن حيرة الشاعر اضطربت بين التقليد وبين الابداع ، وقد تعرفنا على عوامل التقليد فماذا عن انتهاج المسلك الرومانسي فى الدوافع اليه وفى مظاهره ؟
ان المحن التى كانت قد مرت بالشاعر والتى كانت قد أفعمت قلبه بالمرارة وغلفته بطبقة كثيفة من التشاؤم هى التى أثارت فى نفسه الشعور بالغربة وعمقت فى روحه الاحساس بالضياع وهى التى ساعدت - الى جانب مدخراته من الادب الفرنسى - على دفعه الى الوجود الطبيعى يبثه شكواه ويستلهم منه أنيسا فى وحدته الغريبة .
وها هو فى قصيدته ( الى كم أناجى ) يعبر عن تلك الغربة وعن ارتياحه الى معالم الطبيعة شأن الشعراء الرومانسيين فيقول :
كم أناجى بدور الدياجى وأنفث شجوى مع النافثات
وأنشد شعرى بفرط انزعاج كطير ينوح على الذابلات
أجوب القيافى مساء صباح ولا مؤنس غير قلب كسير
ولا شرب لى غير دمع أباح لى السير فى القر أو فى الهجير
كذلك أفنى حياتى نواح وكم ناح قلبى جم غفير
أقيم بروض به العندليب يؤانسنى بغريد مهيج
فيملى على النفس لحنا يذيب حشاى فأملى عليه النشيج
كلانا حزين كلانا أديب يجود نهاه بشعر بهيج
عجبت ، وأعجب من ذا حياتى أتشبهنى فى ضناى الطيور
وتحنو على لدى المفجعات وتقسو على قلوب تجور
فما لك يا موت لست بآت أتترك ماء علانى يغور ؟
هكذا تبدو مأساة الشاعر وقد عمقت احساسه بالغربة ، فهو يتوجه الى الموت سائلا أن يمنحه الراحة والخلاص بعد أن عجزت الطبيعة بجميع عناصرها عن تخفيف ما به .
انها الرومانسية التى وجهته الى الطبيعة ، وهي التى جعلته يتلمس الخلاص عن طريق الموت .
وفى الحقيقة ، ان الشاعر كان قد عبر عن حنينه الى الموت فى أكثر من قصيدة وها هو فى خاتمة قصيدته ( شعري أنيسى ) يكشف عن ذلك الحنين اذ يقول :
يا وحشة القلب لا أبغي بك بدلا لان فيك الذى لى فيه أشجان
فيك المضاضة ، فيك الحزن أجمعه هما خديناى لا أنس وتحنان
وأنت يا نفس فلتحيى حياة أسى اذ لم يقدر لك لحد وأكفان
وانت يا شعر فانهب مهجة ضرجت حتى ينادى قضت روح وجثمان
ولعل حنين الشاعر الى الموت هو الذى جعله يسبق الزمن فيسجل وفاته ويطلب من خله أن يفى بعهده فيزور قبره وينثر عليه الباقات الزهرية ويوحى الى الطير كى تشدوه بعض ألحانها . نلمس ذلك فى قصيدته ( بعد وفاتى ) التى جاء فيها :
وفاء بعهدى خلى المفدى فانى وفيت بما فى العهود
وزر قبر خل تصبك دهرا عسى أن يكون بذاك سعيد
ونثر على الرمس باقة ورد فانى به لمشوق عميد
وأوح الى الطير تشدو بشعر جعلتك فيه مناى الشرود
فاني به دائما أتغنى وانى به فى ثراى هجود
هذه خواطر عن شاعرنا وأستاذنا محمد بوشربية لا أعتقد أنها تفيه حقه ، ولكنها - فيما أرى - تساهم فى خدمته ميتا كما ساهم فى خدمة بلاده أيام محنتها . وعسى أن تنشر آثاره فتتوسع الدراسة وتعمق ، وتكون له الباقة الوردية التى عبر عن شوقه اليها ودعا خله الى نثرها على رمسه .
