* الفصل الثاني *
مشاهير القوالين
من المناسب جدا لموضوعنا ان نشير الى بعض من الشعراء القوالين من الاعراب الهلاليين والسليميين الذين اشتهروا بالقريض الملحون فى مدة الدولة الحفصية بتونس ، وقد أورد ذكرهم عبداللة التجانى فى رحلته وابن خلدون فى تاريخه ومقدمته ، منهم :
1 - ) قائد بن جرير ( شيخ اولاد وشاح ، وقيل من المحاميد ، قال ابن خلدون : " كان من فرسان العرب المشاهير ، وله شعر متداول بينهم لهذا العهد : سمر الحي وفكاهة المجالس " وكان يعيش فى أيام ابى زكرياء الاول من بنى حفص .
2 - ) رحاب بن محمود بن طوق ( المرداسى ، من وجوه بنى سليم ، حاول القيام بثورة على الدولة الحفصية ، فاعتقله أبو زكرياء فى ) مقره ( من بلاد الزاب ، ثم اشخصه مع ولده الى المهدية واودعهما سجن المطبق بها إلى ان توفيا .
3 - ) سلطان بن مظفر بن يحيى ( الذوادى ، من رؤساء قبيلة رياح ، ثار ايضا على أبى زكرياء الاول فاعتقله بعد الظفر به فى مطبق المهدية ، وكان مظفر هذا متعلقا بابنة عم له ، فقال من كلمة فى محبسه يتشوق الى محبوبته ويتاوه لمفارقته لها ولقومه ، حسبما نقل ذلك ابن خلدون فى مقدمته ، ننتقى من ابيات قصيدته :
يقول وفي نوح الدجا بعد ذهبة .. حرام على أجفان عينى منامها
أيا من لقى حالف الوجد والأسى .. وروحا هيامى طال ما في سقامها
حجازية بدوية عربية .. عداوية ولها بعيدا مرامها
مولعة بالبدو لا تألف القرى .. سواعا بل الوعا يوالي خيامها
ومرباعها عشب الاراضى من الحيا .. لو أني من الحور الحلايا حسامها
تسوق بسوق العين مما تداركت .. عليها من السحب السوارى غمامها
وماذا بكت بالما وماذا تبلحطت .. عيون عذارى المزن عذبا جمامها
كان عروس البكر لاحت ثيابها .. عليها ومن نور الاقاحى حزامها
فلاة ودهنا واتساع ومنة .. ومرعى سوى ما في مراعي نعامها
ومشروبها من محض ألبان شولها .. عليهم ، ومن لحم الحوارى طعامها
فكافاتها بالود مني وليتني .. ظفرت بأيام مضت فى ركامها
ليالي أقواس الصبا في سواعدى .. إذا قمت لا تخطى من ايدى سهامها
وفرسي عديدا تحت سرجي مسافة .. زمان الصبا سرجا وبيدى لجامها
وكم من رداح أسهرتني ولم أرى .. من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
وكم غيرها من كاعب مرجحنة .. مطرزة الاجفان باهى وشامها
ونار بخطب الوجد توهج في الحشا .. وتوحج لا يطفا من ألما ضرامها
أيا من وعدتي الوعد هذا الى متى .. فنى العمر في دار عمانى ظلامها
ولكن رأيت الشمس تكسف ساعة .. ويغمى عليها ثم يبرى غمامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي .. ورمحي على كتفي وسيرى أمامها
الى منزل ) بالجعفرية ( للذى .. مقيم بها ما لذ عندى مقامها
وتلقى سراة من هلال بن عامر .. يزيل الصدا والغل عني سلامها
بهم تضرب الامثال شرقا ومغربا .. إذا قاتلوا قوما سريع انهزامها
عليهم ومن في حماهم تحية .. من الدهر ما غنى بقبه حمامها
فدع ذا ولا تأسف على سالف مضى .. ترى الدنيا ما دامت لا حد دوامها
ومنهم : 4 - ) خالد بن حمزة ( شيخ الكعوب من اولاد ابى الليل ، عاش اواسط القرن الثامن للهجرة ، ومن قوله كلمة فى معاتبة قومه :
يقول بلا جهل فتى الجود خالد .. مقالة قوال وقال صواب
مقالة حيران بذهن ولم يكن .. هريجا ولا فيما يقول ذهاب
بني كعب أدنى الاقربين لدمنا .. بنى عم منهم شايب وشباب
جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم .. مصافاة ود واتساع جناب
وحزنا حمى وطن ) بترشيش ( بعدما .. نفقنا عليها سبقا ورقاب
ومنها :
وعن فاتنات الطرف بيض غوانج .. ربوا خلف أستار وخلف حجاب
يتيه اذا تاهوا ويصبو إذا صبوا .. بحسن قوانين وصوت رباب
ويختمها بقوله :
أيا واكلين الخبز تبغوا ادامه .. غلطتوا أدمتوا فى السموم لباب
5 - ) شبل بن مكيانة بن مهلهل ( من رجالات القرن الثامن .
6 - ) على بن عمر بن ابراهيم ( من رؤساء بنى عامر من زغبة ، كان حيا اواسط القرن الثامن عاصرا لابن خلدون , ومن قصيد له يعاتب بعض بني عمه المتطاولين لمزاحمته على الرئاسة :
محبرة كالدر في يد صانع .. إذا كان في سلك الحرير نظام
ألا يا ربوع كان بالامس عامر .. يحي وحله والقطين لمام
غيد تدانى للخطا في ملاعب .. دجى الليل فيهم ساهر ونيام
ونعم يشوق الناظرين التحامها .. لنا ما بدا من مهرق وكظام
واليوم ما فيها سوى البوم حولها .. ينوح على أطلال لها وخيام
وقفنا بها طورا طويلا نسألها .. بعين سخيفا والدموع سجام
ولا صح لي منها سوى وحش خاطرى .. وسقمى من اسباب عرفت أوهام
ومن بعد ذاتدى لمنصور بو علي .. سلام ومن السلام سلام
وقولوا له يا بو الوفا كلح رايكم .. دخلتم بحورا عامقات دهام
زواخر ما تنقاس بالعود انما .. لها سيلان على الفضا وإكام
ولا قستموا فيها قياسا يدلكم .. وليس البحور الطاميات تعام
الى آخر القصيدة وهى طويلة .
و لكل من هؤلاء الادباء قصائد ومقاطيع من نمط ) الاصمعيات ( التى اسلفنا الكلام عنها ، وقد اثبت البعض منها علامتنا ابن خلدون وصلت اليه برواية الصغير عن الكبير ، لكنها وردت في تاريخه بغير شكل لمفرداتها ، ولذا قد يصعب التلفظ بها كما كان ينطق بها أصحابها ، ومهما يكن ففى غضونها يوجد الباحث البصير كثيرا من العبارات المستعملة فى اللهجة التونسية الحالية مما يميزها عن غيرها .
وقد يلاحظ الواقف على هذا النوع من ) الاصمعيات ( انه لا تراعي فيه قواعد الاعراب ، ولا يلتزم فيه قائله النحو والصرف في المفردات ان اقتضى الوزن تأنيث المذكر او تذكير المؤنث ، أو قصر الممدود ، أو مخالفة القياس فى الجمع والمفرد ، بل يجر الفعل المضارع ان اتى فى قافية مجرورة ، و لا تعجب اذا وجدت الكلمة مشددة وهى ليست كذلك او بالعكس ، او وجدتها والكلام لا يتطلبها ، أو تطرق مسمعك ) لغة البراغيث ( - وما اكثرها ! - أو حصرت قاعدة الاسماء الستة كلها فى الواو رفعا ونصبا وجرا ، فلا تعجب فكل هذا فداء لسلامة البيت " .
والواقع ان اشعار الاعراب لم توضع فى الاصل لان تقرأ أو أن تتلى , وانما قيلت ليتغنى بها فحسب ، وطريقة التغنى بالشعر هى الطريقة العربية الصحيحة من زمان الجاهلية ، فان الشاعر منهم اذا نظم قصيدة لا يخطر بباله انها قيلت لان تكتب او ان تحفظ ، لكنه هو او ) صناجته ( ينشدها انشادا فى محفل من المحافل ليطرب سامعها او ليستثير شعوره . وفي هذا المعنى يقول الشيخ احمد الجاسر اديب نجد : " ان هذا النوع من الشعر لا يستلذه السامع عندنا الا بطريقة التغنى ، ولا نجد شاعرا فى نجد الا يتغنى بشعره "
نماذج مختارة :
ولننتقل من ماضى الايام الى الحاضر القريب منا ، ولنلتفت الى اقوال الادباء الشعبيين الذين عاشوا فى جنوب القطر التونسى وفيما جاوره من ارض طرابلس فى القرنين الفائتين ، وهم جميعا من اعراب هلال وسليم .
وتتفرع اقوالهم الى انواع كثيرة من اصناف الشعر الملحون حسب الاغراض المقصودة بالذات ، فمن ذلك ) المخمس ( و ) المسدس ( الذين اشار اليهما ابن خلدون فى مقدمته كما بيناه فيما سلف ، ومنه ما يسمى ) بالقسيم ( و ) البرق - وجمعه بروق ( وهو في الغالب في وصف الطبيعة - ومنه : ) الموقف ( و ) الملزومة ( وهى تتركب من ملازم - وبه سميت - ولهم نوع يعرف ) بالزندالى ( وهو مخصوص للنسيب والغراميات - ونوع يسمى ) المحسوس ( وهو مقام على مدخل ويعرف ) بالركاب ( ثم من ) جريدة ( وهى أصل القصيد .
وأما ما ينعت ) بالعروبى ( المشتق اصل اسمه من ) الاعراب ( فهو مقطوع يتألف من بيتين أو ثلاث ، ويقابل فى التاريخ الشعرى ما كان يعرف ) بالصوت ( فى الغناء العربى القديم . وبالعروبى يبتدئ القوال والمغني من الاعراب , وقد قلدهم أهل الحواضر فى تلك الطريقة . ولا يفوتنا ان الاديب القوال اذا كان من علية القوم وكان مشهورا بين
عشيرته بالجاه والشجاعة وعلو الهمة ، فانه يتحاشى من انشاد شعره بنفسه في المجتمعات والمحافل بل كان يلقن كلامه الى بعض العبيد السود من توابعه فينشدونه دونه فى الافراح .
وهذه عادة عربية قديمة توارثوها جيلا عن جيل من أيام الجاهلية وما بعدها ، وقد نعتوا من ينشد بالنيابة عن غيره ) بالصناجة ( كما هو معروف فى الادب العربى الجاهلى والمخضرم .
وفيما يلى نعرض عليك - نماذج متنوعة مختارة من الانواع المتقدم ذكرها . فمن ) قسيم برق ( من كلام الاديب بلقاسم من عرب الجنوب :
برق ان تبسم بإذن ربي خفق .. تحت الحجب علم بنوره طاق
يشير ويومى فى السماء متفرق .. يسطع ويجمع غاب على الارماق
تبدل تنقل في الشعاع وشرق .. يغبي ويظهر فوق من الاشفاق
سبقت رياحهم في الاشجار تفلق .. تكونت عجاجة عاملة طواق
عمود اليابس منه طاح طرشق .. طاح الشجر وتحطمت الاوراق
كم من عروسة في الحجب تدرق .. صاحت وقالت آو نجعى ساق
طلعوا البنات وكلهم في الازرق .. ربي إلآهى تلطف يا خلاق
هذا سحابه من بعيد يوهق .. والبرق باقى بالضيا خفاق
والرعد صادى فى السماء ينقنق .. بكوش عجمي ما يدل أطراق
نحزيه مدفع على حصن مترشق .. وإلا صيودة بين زوج خناق
تحلف تلاحيق من الجعب تصدق .. في يوم خطرة في نهار نفاق
خلف حشيشة بالخضار مفتق .. دفلة وراڤمة ومعاهم السيماق
حنة ، وفص الشيخ عفاء المرتق .. نا رايت ولامه مرتع الفياق
الريم فالى في العفاء يتفتق .. لم الطيوره جات ليه فراق
فرق الحبارى كيف طار وصلفق .. جاته النعامة راتعة بالساق
جاته النواجع بالجحاف تدرق .. سبق خبيره فوق من حماق
ولى وبرم قال لهم بالحق .. هذا حشيش صنعة الخلاق
قشع خيم في الفجر وقت متوق .. صنع جحافه على ظهور نياق
صبح الصبح القوم جات دفايق .. من كل شيرة ناصبة الاوطاق
ولا لحظ مصبوغ العيون ذباله .. صوب على كبدى مثيل الباله
نزل هس قص القلب وتعاليقه
شفره مسمومه
تومي على الصمه تجي مقسومه .. نعانيه ونلاوى بلاه وشومه
ولا لحظ جاني دواء في ريقه
حديد منبل
ولا لحظ كاحلة العيون يذبل .. جرى لي كما فدان وقت يسبل
جبدت عليه النوء وأرضه رقيقه
حديد أن جرحني
ولا لحظ سود العيون شبحني .. من خزرته عدت نمشي محني
لو زادني نغدى رماد حريقة
ولولا خوف الاطالة لاوردنا من اقوال المتأخرين - بين عرب وحضر - الشئ الكثير على مختلف انواعه وأوزانه ، ومن ذلك كله يتبين للقارىء العلاقة المتينة التى تربط بين هذه الاقوال وبين اشعار اعراب القرون الماضية فى البلاد التونسية ، ويلاحظ ايضا ما في هذه الاقوال من المعاني المبتكرة والتشبيهات المبتدعة ، وكذا من الخيال المتسع ، الامر الذى امتازت به اللغة العربية - وما تفرع عنها من اللهجات - عن سواها من اللغات بالرغم من ان الناطقين بهذه الاشعار هم فى غالب الاوقات من الاميين ، ولله فى خلقه شؤون .
التقبيل :
ولا يفوتنا أن نلقى نظرة خاطفة على انتشار الادب الشعبى العربى فى غير القارة الافريقية ، وكلنا يعلم أن لغة التخاطب لاهل جزيرة ) مالطة ( هى لهجة لا غبار على أصلها العربى ، وقد استعيرت من اللهجة الدارجة في القطر التونسى - وبخاصة من لغة اهل الساحل - اذ نزحت منه جالية العرب الافريقيين حينما انضوت هذه الجزيرة تحت لواء الدولة الاغلبية في منتصف القرن الثالث للهجرة ، وظلت العربية مستعملة فيها من ذلك الحين الى الوقت الحاضر ، وان دخلت عليها عوامل قاهرة ابعدتها شيئا ما عن الاصل المستقي منه ، وبالرغم من ذلك ما زالت ) المالطية ( لهجة عربية يكثر فيها التحريف
والتصحيف بلا شك لانقطاعها عن اخواتها العربية الاخرى ، ولاتصالها الديني القوى بالايطالية ) 1 (
ومهما يكن من أمر فانها على علاتها عربية المبنى والهيكل ، وقديما قال الشاعر :
كل امرىء راجع يوما لشيمته .. وأن تخلق أخلاقا الى حين
من أجل ذلك وددنا أن نوقف القارىء على بعض أقوال مالطة الشعبية ، وتسمى عندهم ) التقبيل ( حتى يكون على بينة من الصلة المتينة التى تربط بينها وبين الشعر التونسى الملحون . فمن ذلك قول بعضهم ) 2 ( :
ينا - حنينه - ساير نسافر .. ساير نسافر ماناحد كش ميعي
مور وهيا بالسلامة .. الله يزمك في المحبة تيعي
شرحه : ينا : بمعنى انا - وحنينه : بمعنى الحبيبة ، منادى محذوف منه
حرف النداء - سائر نسافر : أى عازم أسافر ، والنون في نسافر علامة للفرد المتكلم لا الجمع فانه : نسافروا كما هو فى التونسي - وناحدكش الحاء فيها مبدلة من الخاء ، والشين لازمة بعد النفي عندهم كما في التونسى - وميعى ، اصلها : معى - ومور : فعل أمر من مار يمور أى ذهب ، كما فى الفصحى - وهيا : اسم فعل بمعنى : أقبل ، وهو فصيح - ويزمك : اصله يضمك ، قلبت ضادها زايا - وتيعى : محرفة عن متاعى ، مثلما تستعمل فى اللهجة التونسية .
ومن قول مالطى آخر ، وهو معنى جميل . لكنه قبيح اللفظ والسبك :
المحبوب تا قلبي سافر .. ليلي ونهارى نبكيح
جعلت له بدموعي البحر .. وبالتنهيدات تا قلبى الريح
شرحه : تا : ادغام لمتاع ، وتكون بين المضاف والمضاف اليه - ونبكيح : الحاء مبدلة من الهاء - والبحر ، محركة وهو جائز على القياس فى الفصحى وهو كذا فى تونس .
ومعنى البيتين المتقدمين يشبه قول الوزير الاندلسى لسان الدين بن الخطيب :
والبحر قد خفقت عليك ضلوعه .. والريح تبتلع الزفير وترسل
ومن قول بعض المالطيين ايضا
ينا اشتقت نجي فوق سدتك .. نجى شبيه تا العصفور
نطفي المصباح بجوانحي .. نعطيك بوسه ونرجع نمور
شرحه : ينا او ين : أنا - اشتقت : القاف تبدل عندهم دائما بهمزة كما ينطق بها اهل القاهرة - سدتك بمعنى : فراشك . وفى نماذج الاقوال السالفة حجة قوية على ما قدمناه من ان لغة مالطة الدارجة هى فرع من دوحة العربية ) وشيصة من تمرها ( كما يقول الشدياق - وليس من شك ان القارىء تنبه إلى أن المقاطيع الشعرية عندهم تتركب من بيتين ولا تزيد عنهما ، وهى مما يتغنى بها اهل الريف من الجزيرة , ويعرفون عندهم باسم ) الرحولة ( جمع ) رحلى ( يعني ساكن الرحل وهي القرية . وفى حالة الغناء يرفع القروى صوته ويمده طويلا على طريقة ما يعرف فى البلاد التونسية ) بالعروبى ( المشتق من اسم الاعراب ، وهذا النوع الاخير هو مثيل ما كان ينعت ) بالصوت ( فى الاغاني العربية القديمة .
واما اللهجة المالطية فانها تختلف عن أمها التونسية فى النطق ببعض الحروف الحلقية وغيرها وقد مرت بك أمثلة من ذلك فى شعرهم الملحون فمن ذلك انهم يلفظون القاف همزة ويشمون الالف فى نحو : قال وباع - وينطقون بالغين عينا اينما وقعت ، وبالخاء حاء فيقولون : الحبز بدل الخبز - وبالضاد دالا - وبالطاء تاء - وبالذال دالا او طاء : مثل النبيط فى لفظة النبيذ - فاما ) العين ( فلا يكادون ينطقون بها إذا وقعت آخر الكلمة فيقولون : تلا ، وقلا ، في طلع ، وقلع ، ويحذفونها اذا اتصل بها ضمير مثل : طليت وسميت في طلعت وسمعت ، وقس على ذلك . ومهما يكن من الامر ، فان بقاء هذه اللهجة فى مالطة لظاهرة عجيبة بل حجة قوية ومعجزة بالغة في حيوية اللغة العربية ورسوخها العميق فى قرارة نفوس من يتكلم بها من الاجيال ، الا ترى هذه الجزيرة المسيحية النحلة قد تعاقبت عليها - منذ ثمانية قرون - أمم ودول متعددة آخرهم الانكليز ودوا لو يحملون أهلها على التخاطب بلغتهم فلم يتهيأ لهم ، وبقى المالطيون محافظين على ما عندهم من العربية خلفا عن سلف ؟ و ) ان فى ذلك لذكرى لاولى الالباب ( .
اقوال اعراب برقة :
وقبل ان نعبر من المغرب الى العالم العربى الشرقى فلنقف هنيهة فى ارض جارتنا الليبية حيث تخيم بطون عديدة من ) بنى سليم ( ومن أهم فروعهم ) المحاميد ( بناحية طرابلس ، وهم يعيشون فى جوار قبيلة ) هوارة ( البربرية ، وفي ولاية بنغازى - وهي برقة - تقطن بقايا من ) بنى هلال ( - ومن أجل افخاذهم ) أولاد على ( - المتساكنين مع فريق من قبيلة ) لواتة ( البربرية . ومما يمتاز به اعراب ليبيا الحاليين هو محافظتهم على جملة اوضاع اجدادهم في التقاليد والعوائد وخصوصا فى اقوالهم التى لم تتحور الا نسبيا ، وذلك لقلة امتزاجهم بالعناصر الاجنبية مما جعلهم اقل تعرضا للزعزعة والتغير . فجماهير العرب بمملكة ليبيا لم تزل تتكلم بلهجة اسلافهم من هلال وسليم شأنهم في ذلك شأن الاعراب المخيمين بافريقية التونسية وبالجزائر والمغرب الاقصى . وقديما ادرك الرحال المغربي ) العبدرى ( ) 1 ( هذا المظهر فى كلام اعراب
ليبيا ، فاتى فى رحلته على بعض الافادات المهمة حين مروره باحيائهم ، ننقل منها هنا ما يتعلق بلهجة بنى هلال وبنى سليم المقيمين هناك ، قال : " وكلام عرب برقة من افصح كلام عربي سمعناه ، وعرب الحجاز أيضا فصحاء ، ولكن عرب برقة لم يكثر ورود الناس عليهم فلم يختلط كلامهم بغيرهم ، وهم الان على عربيتهم لم يفسد من كلامهم الا القليل ، ولا يخلون من الاعراب الا بما قدر له بالاضافة الى ما يعربون ، وقد سألت بدويا لقيته يسقى ابله فى ) الحصوى ( على ماء يقال له ) أبو شمال ( : - هل تورد عليه وذكرته بالواو فى موضع الخفض على عادة اهل المغرب ، فقال لم : نعم , تطؤن أبا الشمال ، واثبت النون فى الفعل ، ونصب المفعول - وليس فى المغرب عربى ولا حضرى يفعل ذلك " ومررت باطفال منهم يلعبون فقال لنا واحد منهم : - يا حجاج ، عندكم شئ تبيعونه ؟ " واثبت النون وسكن الهاء للوقف - ورأيت اعرابيا منهم وقد الحت علية امرأة تسأله من طعام يأكله ، فقال لها : " والله ما تذوقينه " فاتى بضمير المخاطبة على وجهه ، واثبت النون وسكن الهاء - وسمعت شخصا في الركب ينشد مكتري راحلة ، ويقول : من يكرى زاملة ؟ فسمعه بدويا اخر فقال له لا تقل من يكري . وقل : من يستكرى " .
" وذكر لى بعض اصحابنا ممن حج معنا ان شخصا شرب من بئر فقال : فى هذا الماء رائحة الحبل " وحرك الباء على لغة أهل المغرب يعني الرشاء المستسقى به فسمعه اعرابى فقال له : - ومن اين جاءت رائحة الحبل الى الماء ، فاشار المغربى الى الرشاء ، فقال له الاعرابى : - قل الحبل ، ولا تقل : الحبل .
ثم قال : " واما نادر الفاظ اللغة وما جرت عادة أهل المغرب بتفسيره , فهم حتى الآن يتحاورون به على سجيتهم ، فمن ذلك أن شخصا منهم وقف على بموضع نزولى من محلة الركب ، وكانت الترعة بعيدة ، فقال لى : - يا سيدى تدعنى أظهر ؟ يعنى اخرج وسالت شخصا منهم على الطريق فقال لى : - إذا ظهرتم من الغابة فخذوا صواب كذا " يعني اذا خرجتم منها " - وسمعت صبيا منهم ينادى فى الركب : - ياحجاج ، من يشترى الصفيف ؟ - فلم يفهم عنه اكثر الناس ، فقلت له : " اللحم معك " ؟ فقال : نعم ! وابرز لحم ظبى مقدد - قال العبدرى : وهذا ذكره الامام مالك - رضي الله عنه - " فى الموطأ " وتهمم بتفسيره فقال باثر الحديث : " والصفيف القديد " وسألت شخصا عن ماء هل هو معين ؟ فقال لى : هو ما عد ) 1 ( وهذا اللفظ فسره ابو عبيد فى غريبه ) 2(
ثم قال العبدرى : " وما يتكلمون به من الغريب أكثر من أن يحصى ، وبالله تعالى التوفيق " اه ومما نقلناه من رحلة العبدرى وما سنذكر من اقوالهم فيما بعد يتضح لك ان لهجة هؤلاء الاعراب لم تتغير وانها لحد الآن قريبة جدا من امها الفصحى .
ونكتفى هنا بايراد بعض اشعار اهل برقة الشعبية التى قيلت فى هذا العصر المتأخر لا سيما بعد احتلال الايطاليين لوطنهم ، واثارت هذه الكارثة فى نفوس فرسانهم وقواليهم الشعور بالغلبة والقهر ، فجاشت قرائحهم بقصائد حماسية .
مثل قول احدهم فى مطلع نشيده :
يا وطننا ما حال دائم ديمه .. الايام لا بد لهن من تبريمه
وقول شاعر اخر من قصيدة طويلة يصف حاله فى معتقل الايطاليين ) بالعجيله ( :
ما بي مرض غير دار العجيله .... وحبس الجبيله
وبعد القبا من بلاد الوصيله ) 1 ( .
ومنها :
ما بى مرض غير فقد الرجال ..... وفنيت المال
وحبسة نساوينا والعيال
ومنها :
والفارس اللي كان يمنع المال ...... نهار الجفيله
طايع لهم كيف طوع الحليلة
طايع لهم كيف طوع الوليه .... ان كانت خطيه ) 2 (
ترمي الطاعة صباح وعشيه
ما بى مرض غير خدمة بناتي .... وجلة هناتي
وفقدت اللي من تريسي مواتي ) 3 (
وغيية غزير النصي بوعتاتي .. العايز مثيله ) 1 (
ومنها يندد بسيادة بعض الاراذل :
الراعي معقل جمال القناطر ... فحولة كحيله
ومطلق قعادين فوق الخويله ) 2 (
ومن قول أديب ليبى آخر :
حياة الهونه غريق دمع لولا النار تحمى دونه
انحرق لولا دمع عيونه .. مجروح عارق طول عمرى كله ) 3 (
وقول الاخر :
يا قهرتي منها حياة الذله .. حكم الاجانب والعوز والقله
ومن قصيد لاديب يصف حملته مع قبيلته للانتقام من اعداء :
قابلهم ذراع الحيراه .... جراد عماريحه طاير ) 4 (
اللي فاقد غالي كيبان .... حذاهم خذا ليله ساهد
زقيق عويله والنسوان .... قطا جاشايل
هفاسم ايام قبايل ) ٥ (
فهذه الأمثلة المختارة تدل على أن لهجة ليبية بصفة عامة هي عربية خالصة وبصفه خاصة هى هلالية لا غبار عليها ، وان اعتراها ما اعترى سائر اللهجات العربية من تحوير الاسلوب ، واهمال للاعراب . ويلاحظ ان هذه اللهجة تمتد إلى جهة الفيوم والبهنسة من ارض مصر وبينهما يقيم قسم كبير من بطون بنى سليم وغيرهم .
النبطى :
وبمناسبة الكلام على طريقة الانشاد عند قبائل جزيرة العرب ، نذكر ان صديقنا المغفور له ) عبدالوهاب عزام ( كان انشدني - منذ سنوات مضت - شيئا من القصائد الشعبية من نوع ) النبطى ( المشابه للاصمعيات ، وهو الشائع الان بين عرب الحجاز ونجد وبادية الشام ) 1 (
فمن ذلك قصيدة للاديب ) محسن الهزانى ( نسبه الى هزان بطن من عرب عنزة وهو من رجال القرن الثالث عشر :
غنى النفس معروف بترك المطامع .. وليس لمن لا يجمع الله جامع
ومنها
خليلى قم لى فى دجى الليل بعدما .. جفا النوم عيني والبرايا هواجع
ومن قصيدة نبطية ) للشريف بركات ( ، كان حيا فى القرن العاشر للهجرة .
عفا الله عن عين للاغضا محاربه .. وجسم دنيف زايد الهم شاعبه
يقول فيها :
اذا نبحتنا من قريب كلابه .. ودبت من البغضا علينا عقاربه
نجينا بأكوار المطايا ويممت .. بنا صوب حزم صارخات ثعالبه
بيوم من الجوزاء يستوقد الحصا .. تلوذ باعضاد المطايا جخادبه
ومن نظم ) محمد العوني ( وكان من كبار ادباء ) القصيم ( مات فى سجن الملك عبد العزيز آل سعود فى منتصف القرن الحالى للهجرة . قوله من قصيدة حماسية
خلوج تجذب القلب بأعلى عوالها .. تكسر بعبرات ، تحطم سلالها ) 2 (
تهيض مفجوع الضماير بحسها .. الى طوحت صوت تزايد هجالها ) 3 (
ويقول فيها مخاطبا لقومه
لا تتبعون الهون والعجز والعسى .. او ربما أوليت يتعب سؤالها
ترى مركب الأخطار هو ومصعد العلى .. ولا يدرك العليا غيور شكالها
ومن شعره :
تقولون دنيانا علينا تغيرت .. تغيرتو أنتم ما تغير مرورها
الايام هي الايام ما زاد عدها .. هذى لياليها وهذى شهورها
لا شك غيركم هماليج مبغض .. وذل حشا لباتكم فى صدورها
ما تأنفون العار والذل والردى .. انعو نساكم يوم ضاعت بزورها
لا شك أن القارىء الكريم تنبه الى المشابهة القوية الموجودة بين الاقوال السالفة وبين ما نعرف من أشعار اعرابنا الهلاليين ، ولا غرابة البتة في ذلك فان كلا من عرب الجزيرة وعرب شمال افريقية اسرة واحدة ، وان فرق بين عناصرها الزمان وبعد المكان ، الا ان طريقة التعبير عن العواطف والخيال لم تزل عند الفريقين متقاربة كل القرب فى الاوضاع والتمثيل .
الحميني :
ثم انظر - يا رعاك الله - الى ما هو ابعد من ذلك ، واعتبر تقارب مذاهب الادب الشعبى عند الامم العربية المعاصرة الاخرى ، فان الشعر الملحون المسمى ) بالحمينى ( المنتشر الان بين عرب اليمن وحضرموت ما يقيم الحجة على أن اللغة العربية - قديما وحديثا - لم تزل خاضعة - بالرغم من تباين اللهجات - الى نظام واحد ، وخيال واحد ، وسجية في الاقوال تربط بينها وبين الفصحى قربا او بعدا حسب الظروف ، والاوطان والعصور . وها نحن اولا ننقل اليك من كتاب ) مختارات من الادب العامي الحضرمي ( ما يدل على صحة ما اسلفنا ) 1 ( فمن قصيد للاديب الحضرمي ) الربيع بن سليم الدويخي ( يصف حربا جرت بين بعض قبائل حضرموت فى خلال القرن الماضى :
بروق الظفر والنصر في الأفق نمنمت .. وثجت على الغنا خواصب مزونها ) 2 (
ورعد الهنا قاصف يزوع الشوامخ ... وزلزل ديار الظلم واهدم حصونها
وسالت سيولا هايلا تملى الفضا ... محت اثرة الظلمة وخابت ظنونها
وصارت ديار الظلم عبره لمن يرى ... كأن لم يكن فيها عرب يسكنونها
خلت خاويه تبكي على من سكن بها ... ويستوحش الفض الغضب من سكونها
وضلا غراب البين ينعي على أهلها ... وباتت طيور البوم تندب فنونها
فلو طفت فى تلك المنازل ودورها ... وشفت البنا العالي ومحكم زبونها
لارتعدت منك الفرايص وأظلمت ... عليك الدنا مما ترى من خروبها
ومنها :
فمالى أرى ) الموزع ( خرب أصل ساسه .. واجتثت الشجره ويبست غصونها
ولكنهم بالظلم والجور والهوى .. رموا في مهاويها وهم يحذرونها
ولما عتوا واستعظموا رفع شأنهم .. وهلكوا رعاياهم ولم يرحمونها
أتتهم مصايب شتتت جمع شملهم .. جزا ذلك الافعال لي يفعلونها ) 1 (
ومنها :
وظلت وحوش الارض ترعي لحومهم .. وبقيت علايم لحمهم في سنونها
وفرت بهم في الجو مثل الحوايم .. وهدمت مراتبهم وهم ينظرونها
ومنها :
وتحقيق نصر الله يأتيه من يشا .. فكم ذلة قد عزها بعد هونها
ولله تدبير العوالم كما يرى .. ودنيا الندم يا ناس لا تأمنونها
ومنها قول الاديب ) حسن الكاف ( الحضرمي ، فى ضرب آخر من النظم الشعبى :
بني مغراه قلبي في العشقه معذب
وكبدى محرقه وسطها نيران تلهب
ودمعي دم فوق الوجن والخد قد صب
وراسي بعد ما يبلغ العشرين شيب
وجسمي مثل خيط الوتر والصوت شحب
جفا نومي عيوني زعل منها ، وجنب
كما الملدوغ أبيت على فراشى اتقلب
سمير الشهب لي غاب كوكب بان كوكب
بليته في المحبة يعين الله من حب
ومنها وهى طويلة :
بطول الهجر قطع عرا كبدى وعذب
فلا لي نوم يحلو ولا مطعم ومشرب
حياتي حين يرضى ، وموتى حين يغضب
ومن قول بعضهم فى الحكمة :
يقول بو عامر ؛ عديم الشور من لا يستشير
الشور للحاذق ولا هو عار من شاور صغير
يقول بو عامر : خيار العلم قولت ما دريت
ان قلت شي ما قلت ، وإن حد حكالي ما حكيت
يقول بو عامر : نشدتونا ولا عندى صفات
ما انقطع رزقه سوا من جدوا اكفانه ومات
ومجمل القول فى لهجة عرب الجنوب - يعنى اليمن وحضرموت - انها من اقرب اللهجات الى الفصحى فى الوقت الحاضر ، لما حافظت عليه من التراكيب الصحيحة ، ولما يتخللها من المفردات الفصيحة ، كما يستفاد من شعر شعرائها العامي ) الحميني ( ، وربما يجوز تعليل ذلك بقلة اختلاط سكان تلك الجهات بغيرهم من الاجيال العربية التى لها اتصال مباشر ومستمر بوسائل المدنية العصرية .
وانا لو أردنا تتبع أقوال الاعراب فى الغرب والشرق لاثبات المجانسة التى تربط بينها ومشابهتها بعضها ببعض ، وتناسق أوضاعها وموضوعاتها لادى بنا الكلام الى التطويل الممل ، ولخرجنا عن الغرض الذى قصدنا , فلنكتف بما اوردنا منها على سبيل المثال ، وبالله التوفيق .
