الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "المنهل"

مذكرات تفتيش معارف

Share

- الحلقة الثالثة -

قد اسمي بعض المسميات بلغة اليوم ، وقد اطلق عليها نفس الاسم الذي يطلقه رجال المعارف والتعليم اليوم ، وليس ذلك الا بقصد التقريب والايناس ، ذلك أن النفس طبعت على حب السهل المستحدث ، وكره الغريب المستوغر

بعد أن تعرفت الى جميع مدارس المنطقة تحت اشرافي ، ونظرت في كثير من أمورها وخبرت كثيرا من احوالها ، ذهلت لما وجدته من نقص ومتناقضات في كثير من الامور فمعظم ناظري المدارس من ذوي الثقافات البسيطة المحدودة التى تكتشفها لاول حديث معهم ، ونادرا ما تجد احدهم قد ألم بثقافة يحسد عليها ، ثم نقص الكفاءات والقدرات العملية عند المدرسين ، وانعدام المقاعد التي يجلس عليها الطلاب في كثير من المدارس مما يجعلهم يفترشون الارض ما يزيد على اربع ساعات متوالية ، الا من حمل قطعة خيش او خصفة تقيه البرودة والغبار ، ولا وجود لشيء أصبح من مستلزمات التعليم الحديث ، وكان قد بدأ يغزو هذا المجال ، وهو ما يسمونه اليوم ( بوسائل الايضاح ) وعدم غناء العدد الضئيل الموجود من السيورات في كل

مدرسة ، والتي لا تستقر في فصل معين حتى تكون ضيفة الشرف في فصل آخر ، زد على ذلك انها قديمة قد حال لونها ، واصبح كشعر رأس الرجل الذي يغزو مرحلة الشيخوخة ، الا ما يعيق هذا الغزو من وجود بعض الشعرات سوداء ، كذلك رايت التناقض العجيب في عدد المدرسين ، فمدرسة مترعة بهم ، ومدرسة يئن مدرسوها تحت وطاة الدروس الكثيرة الزائدة ، وزاد من انينهم ان الواحد منهم لا يعرف له نصابا معينا من الحصص ، ومن ثم لا يجد اي مكافأة من النظارة على الزائد ، وبالتالي فان مكتب المعارف لا يفكر في عمل شئ فى هذا الصدد ، واخيرا مباني المدارس المهلة خصوصا تلك المدارس التي تجثم في القرى النائية فهي لا تقى الحر ولا تمنع الزمهرير

قد يلاحظ القارئ العزيز بعض الغلو في حديثي السابق ، ولكن الواقع المر والظروف الصعبة التى كان يعيش فيها العلم ورجاله ومعاهده ، كانت تفوق ذلك .

لقد اعتاد كثير من الذين يكتبون المذكرات حول هذا الموضوع ان يتحذلقوا فيها بذكر المفاجآت والمباغتات المختلقة ،

وطريقة تفتيشهم المبتدعة في مذكراتهم تلك ضاريين بعرض الحائط كثيرا من المشاكل التي تعتبر معالجتها في مثل هذه المذكرات معالجة واجبة ، اما السبب في ذلك فعلمه عند الله ثم عندهم .

لذلك نويت ان أعد تقريرا ضافيا يلم بكل ما لاحظته مما دونته هنا وما لم ادونه ، والتقرير في حقيقة امره مطالبة بتعديل الامور وتصحيحها ، ولاقتطف منه ما دونته بشأن ناظري المدارس والمدرسين : " ان الناظر عندما يكون فقير العلم والمعرفة ، قليل الدراية والخبرة ، يشعر ولا شك بنقص في كثير من الامور ، ذلك بانه يرى التفوق الكبير في مجال العلم والثقافة بين مدرسيه . وعند ذلك تنقلب الاوضاع الى سيئ ، فلا المدرسون والذين في قرارة انفسهم عن مثل هذا الناظر ، ولا الناظر براض ان يلتزم حدود علمه ومعرفته فيعترف بعجزه ، ولا يتطاول الا فيما يعرف ومن هنا تبدا المشاكل بين افراد مثل هذه الهيئة التدريسية ، ومن هنا ايضا ينخرط الكل في حميم التهاون بالمسؤولية والاستخفاف بالامور

" ان مركب النقص عند هذا الناظر يدفع به الى التعويض عن هذا النقص باظهار السلطة واشهارها في وجه مرؤوسيه ، فيظهر عجزه ويستبين ضعفه لكل من رزق البصر وعقل الامور

لذلك احب ان اقترح ما يلي :

- ان لا يعين أي ناظر الا بعد ان يكون قد تلقى تعليما كافيا ، لا يقل بحال عن زميله المدرس ، لا بل يجب ان يفوقه

بان يكون متخرجا من معهد يعده لهذا الغرض .

٢ - ان تحدد مسؤولية كل موظف في الهيئة التدريسية تحديدا دقيقا ، ليعرف كل واجباته وحقوقه ، وعندئذ يمكن لنظارة المعارف او مكتبها في كل مقاطعة ان يأخذ بيد من حديد كل من تسول له نفسه اللعب بالانظمة والقوانين

٢ - ان تفتتح دورات تدريبية في العطل المدرسية لكل من الناظر الذي يعيش في ازمة الثقافة السطحية ، والمدرس الذي يعاني نقصا في القيام بعمله على خير وجه . كنت اظن - كما يظن كل مبتدئ في أي عمل جديد - ان مهمة كتابة التقارير واعدادها شئ سهل لا يكلف الا جلسة هادئة وقليلا من الحبر والورق الاصفر الذي لم يكن غيره تحت يدي ، وحقيقة الامر انني كنت أجهل العواقب والنتائج التي تترتب على الخروج على الناس بشيء جديد . ذلك انه بعد ان انهيت ذلك التقرير حملته بكل فخر واعتزاز بأني عملت شيئا سأشكر عليه - الى مكتب مدير المعارف ، لقد أحببت ان أسلمه له يدا بيد للاهمية التي كنت اراها لهذا التقرير

وقال لي المدير :

- لماذا لم تبعث به الى قسم التفتيش . - لقد احببت ان اسلمه لك لانه تقرير هام . وارجو ان يجد العناية اللازمة بالاسراع في رفعه الى مقام وكيل النظارة لقد بدأ الرجل - وهو يهز رأسه متشحا بابتسامة ماكرة - غير مصدق لحديثي :

لذلك عدل من وضع نظارته على ارنبة انفه المشخرة كجبل صنين المكلل بالثلوج ، تكسو جانبيه الوهاد والنتوءات ، ثم رفع رأسه الاصلع وقال :

- ما دام الامر كذلك ، فاني احب الاطلاع عليه قبل اجراء اللازم وسأراك غدا .

وفي اليوم التالي ما كدت ادلف الى مكتبي حتى جاءني من يخبرني بان المدير في حاجة لرؤيتي ، فلملمت اطراف اثوابي ، وقصدت مكتبه ، وانا اتوقع انه سيثير الارض ، وان ثورته ستكون في عنفوان بركان ( فيزوف ) الجبار ان لم تكن اشد ، ولكن ظهر لي وانا اهم بالجلوس . . بعد أن صافحته - على احد المقاعد - ان المدير يقوم بمهمة شاقة في ضبط اعصابه والظهور بمظهر الهادىء . وقال :

- لا يمكنني يا استاذ حمدي بأي حال ان اوافق على رفع هذا التقرير الى مقام النظارة ، وحاول قطع خط الرجعة على حين قال :

- لذلك اريد منك ان تحاول اعادة كتابة تقرير جديد على ضوء المنهاج او الخطة التي يعد بها بقية المفتشين تقاريرهم .

ولما سالته لماذا لا يوافق على رفع هذا التقرير اجاب بانه ليس فيه شئ مما يصنعه المفتش عادة ! وأحسست ان ذلك يمسني من قريب أو بعيد فقلت بحدة :

- وما الذي يعمله المفتش عادة ؟ ٠٠ ثم لماذا تخسر النظارة المرتبات الكثيرة لتعيين مفتشين ، أتظن انه ليس لهم الا ان

يوجهوا لا ان يوجهوا غيرهم ويدلوا على أخطاء مرؤوسيهم ، أليس واجب مفتش المعارف ان يسير بركب العلم نحو النور والعرفان ؟

- ولكن ليس بهذه الطريقة ، ان هذا التقرير يقيم الدنيا ويقعدها في النظارة ، عندما يصلها ، وسيعده المسؤولون خرقا لاساليب كتابة التقارير

- ومن قال هذا يا استاذ ؟ ! ثم انه لا يهمني ما يحدث ، على ان اؤدي واجبي في حدود ما يمليه ضميرى على ، ثم واخيرا انا لا اتمكن من كتابة تقرير اخر ، لإنني اخالف من يحتوي على اكثر من هذا . . وخرجت

لقد بقي هذا التقرير طيلة اسبوع كامل يقرع ابواب اقسام الادارة ليستكمل اسباب نسكه ، ومع ذلك فقد وصلتني بعض الاخبار من الموظف المسؤول عن كتابة واصدار الخطابات الى نظارة المعارف ، ان التقرير " هذب " و " شذب " كما اوصى مدير المعارف .

مهما يكن فلقد كان هذا التقرير الذي ما زلت اروى قصته على كثير من معارف السبب في حدوث أول صدام علني بيني وبين مدير المعارف ، وظهر لي ان المدير تعاونه الزمرة التى تلتف حوله من النفعيين قد فكر في كرجل خطير على أمن ونظام وتقاليد مكتبه ، واصبح الكل يتحاشى الحديث أمامي ، واذا ما دخلت قسما من الاقسام انقطع الحديث ، وسبح الموجودون في صمت مطبق كأنه صمت الابدية ، وعيونهم تتحين الفرص للانقضاض على

لقد وجدني المدير على غير شاكلته

وجدني رجلا لا ألف ولا ادور بل اسير الى هدفي في خط مستقيم رائدي في ذلك الحق والمنطق والواجب ، فحاول ان يبث شكواه - وهو يعلم انه لا يستطيع غيرها - لكل زائر المكتبه ، لقد كان يعلم حق العلم المكانة التى يحتلها صهري كمدير للشؤون الادارية في النظارة ، بل لعله فكر في أن صهري يعد العدة ليجعلني خلفا له في ادارة مكتب معارف هذه الجهة !

حدث ذات مرة ان زار الادارة مسؤول من قسم التفتيش الفني - كما يسمونه اليوم - في النظارة ، فطلب مقابلتى بعد ليلة قضاها في بيت المدير ، وكان مما قاله لي في هذا الصدد :

- استاذ حمدي . . انت جديد على هذه

المهنة ، ويمكنك الاسترشاد باراء السيد مدير المعارف ، فهو رجل عركته التجارب فجعلته ملما بأدق الامور ، قادرا على حل أي مشكلة تواجهه . تذكر اني عندما تعينت لاول مرة في نفس عملك في ادارة المعارف بجهة ( ٠٠٠٠ ) وكان معروف افندي - صهري - يومذاك مديرا لها ، لم اكن لاقطع حبلا دون استشارته ، لقد وجدته عونا لي على أمور كثيرة

وهنا قلت : حتى ولو كان في هذا العون طمس للحقائق واخاء لطبيعة الأمور -

وهنا حاول اللف والدوران ، وارتسمت على شفتيه ابتسامة غامضة كابتسامة جاسوس يعرف الحقائق ولكن لا سبيل عنده الى ذكرها .

( الدمام )

اشترك في نشرتنا البريدية