لقد نعت الاخبار فى مستهل هذا العام الاديب الفرنسى " البار كاموس " (1 )واسهبت فى تقدير رزية الادب فيه واطنبت فى نعت منزلته والتنويه بخصاله ككاتب قصصى او مفكر فيلسوف او مؤلف مسرحي . وان مجدت الصحف فى عدة عواصم كباريس ولندن او رومة وصطو كهلم اديبا قد فاز أجدر فوز بجائزة " نوبل " العالمية وان لهجت أصوات المذياع من مدن مختلفة باسم الكاتب الفقيد فانما شخصية مؤلف " الغريب " فوق النعت والاطراء . فلقد عبر " البار كاموس " فى حياته لا بأدبه فحسب بل بسلوكه ايضا عن كنه الوجود وحقيقة الكيان وادى رسالة الجد والصدق وشهد شهادة ناصعة طاهرة ومرة قاسية عن مأساة الانسان وحيرته البشرية
وان ذكرنا بتونس " البار كاموس " كما ذكر فى اقطار اخرى وان اضفنا صوتنا العربى بمجلة " الفكر " الى اصوات اخرى فى لغات شتى مساهمة فى رثائه فلانه قد وقف فى حياته وفى ادبه مواقف برهن فيها عن تمثيله فى الادب العالمى لاشرف مذهب من مذاهبه واجل نزعة فيه ، نزعة " الانسانية " فى الادب
ثم اننا ولا بدلنا من رثائه ولا مفر عندنا من اللوعة عليه لا نقف الا وقوف من يؤدى امانة الاعجاب ويعبر عن الم الفقد وشعور الوفاء
وانما يذكى اللوعة عليه ويلذع الفؤاد لموته ان اغتاله الردى اغتيالا مرا وسحقه سحقا عنيفا فقصف شبابه قصفا عند تمامه واكتماله فى عهد النضج ويانع الانتاج وازدهار الخلق الادبى
وان شد المصاب لموت " كاموس " الاديب الفرنسى فانه لشديد ايضا على اهل العربية عامة وعلينا نحن الافارقة خاصة . فالاديب الفقيد قد فتح عينية فى وجه سماء هى سماؤ ناورنا الى افق هو افقنا ودرج فوق تراب هو ترابنا
( 1 ) يكتب اسمه هكذا " كاموس " ولكن لا ينطق بحرف " السين "
ثم نشأ نشأة بؤسنا فتالم فى حداثته ما هو من المنا وجاع ما هو من جوعنا ثم احتار وقلق فوجدنا نحن المغاربة - فى حيرته لونا من حيرتنا ولمسنا فى قلقه صدى من قلقنا . ثم وقف مواقف الشجاعة والثبات فى شدة العزله وضنكها ومروءة الوحدة وكرامتها فظل عزيزا عندنا لقرب الصلة به حبيبا لدينا لطهارة عنصره وصدق انسانيته .
وان اختلفت لغته عن لغتنا وتعارضت جنسيته المادية وجنسيتنا وان تباعد عنا تارة فى حكمه على الثورة عامة والثورة الجزائرية خاصة - وتقارب هنا تارة اخرى فى نضاله عن الحق وكفاحه فى سبيل العدل فمؤلف " الوباء " تجرع من علقمنا فاستجاب لصرختنا ورد صوته اباءنا ترديدا واشاد قلمه برفضنا حتى انزله بين المبادئ والجواهر وابرزه فى مكانة القيم الحية والمثل العالية .
فلطالما لمسنا فى كتبه - وقد خمدت اذاك نار الحرب وبقى منها الضيق والعسر ما لمسنا من هم النفس وشقائها فى وجودها ووعيها لجحيم كيانها ومحال )(1 ) مصيرها وقلقها فى ظلام العدم المطلق
ولكم لمحنا فى سلوكه من " محال " الحياة وتعذر الوجود وصراع للشر ومصارعة لليأس فعرفنا جده وفقهنا صمته وفهمنا " فاقته " وعذابه
واننا لأعجبنا به اعجابا لا جزاف فيه ولا مراء واننا لفضلناه على غيره من الادباء كسارتر ( 2 ) ومرو وجيد ومورياك فضلا عن " جيونو " و " موروا " أو " دوهامال " و " جونفوا " . ولم نفضله غيا او غرورا فمؤلف " العادلون " حقق بين سلوكه فى الحياة ومواقفه فيها وبين ادبه ما حقق من وحدة ولحم بين الوجود والادب ما لحم من لحمة حتى اصبح خلقه الادبى عصارة نفسه وشاهدا عن الانسان عن شقائه ولعنته ، عن طهره وبراءته .
ثم انه الاسلوب لانه الانسان ( 3) لا كذب فى قوله ولا بهتان ولا زخرف ولا تنميق ، فكر ثاقب ورأى سديد ، نغمات حية ونبرات صادقة ولفظ صاف في سلاسة الماء صلب في قوة الجوهر كالمنقوش نقشا او المنحوت نحتا .
ولقد حببه لنا ما سئمناه عند كثير من الادباء من السفاهة والافتراء فكم يقولون ما لا يفعلون او ينسون فى الغد ما ناصروا من القيم بالامس او يهتكون حرمة ما علموا البارحة من التعاليم الخالدة فيكذبون على رؤوس الاشهاد .
وانه ليزيدنا حسرة على اديب مثله ووحشة لصوت كصوته ما اضجرنا به بعض ادباء العربية بالامس واليوم هنا وهناك من تناقض بين حقيقتهم ومظهرهم بين فساد سريرتهم وطهارة ظاهرهم قبح فى الباطن وتجمل فى الزى شر فى عروقهم يسرى وخير به يتظاهرون وللقراء به يخدعون وعليهم يموهون وللادب يزيفون
اما " كاموس " فلتطمئن روحه فى راحة الخلود !
تعليق : نظرا لاهمية الآراء المصرح بها فى هذا المقال ونظرا لقيمة الكاتب فى الاوساط الجامعية بتونس تود المجلة لو تتعرف الى احساسيات قرائها بالاضافة الى هذه الآراء وبالاضافة الى التصريح بها . ( الفكر )
