قصة
- إن الحياة الحق ، هى أن تطرق الحياة باب قلبك على الدوام . - منطق الحياة هو أن لا منطق فيها . - القلم الذى لا يستقى خمرته من مهزلة الانسان ، هو قلم لا يستحق الخلود .
العالم يتضور تحت أقدام من حديد . . . الرؤوس لبست مظلة المطامنة المثقوبة . . قلب موسى يتضور تحت سياط نارية . . ضباب كثيف يحف بالقافلة . . حنين موسى يتزايد كلما خطا خطوة الى الامام . . نفسه منطاد ينتفخ . . . يتضخم يحوى العالم . . . لعبة تافهة فى يد الغيب . . . طموح الفكر يرتطم بصخور الواقع . . . الهاموش الحقير ابتلع فيلا . . . فى الدرب الطويل ، فوانيس مضيئة تبدد حجب الاستسلام . . . آفاق رحيبة أضيق من عين ابليس . . . شهرزاد تغمر فى وضح النهار . . . تبتسم . . . تسقط فى الطريق . . وحل وطين ملآ الشوارع . . ثياب موسى البيضاء تدنست بالطين . . الصابون انقطع من المدينة ، وطين شوارع أورشليم لا ينظفه (( الجافال )) . . غربان تنعق وتحفر بمخالبها هوة عميقة لتقع فيها القافلة . . .
شاب قبيح يغازل حسناء . . . عملاق قوى قد تربع على صدر رجل هزيل . بعد أن غرز خنجره فى صدره واستلها مكشرا عن أنيابه . . ومد شفاهه ووضعها على ثقب الخنجر ، كان الاول يمتص ويتلمظ ويتلذذ ، وكان الطريح يصيح ويستغيث ، لكن المارة ينظرون ويضحكون . . .
مسرحية هزلية قام بها والد موسى ، كما قام بها جده الاول . . كان ابناء والده ممثلين فى هذه المسرحية ، وكانوا كلهم يحبذون التمثيل . . . حتى أمه عندما رآها ذات يوم تغازل والده تحت التفاحة ، عرفها تجيد التمثيل ،
لانها تمقت والده مقتا ، وقد أنزلت نقمتها اللعنة على والده ، فطرده الصدر الاعظم من بيته الجميل . . لذلك وجد نفسه فى رقعة ضيقة ، يسير فى طريق منعرج كثير الصخور ، . . وكان الجمع الغفير يسير أمامه ، وفجأة رأى قسما كبيرا من الجمع قد انقلب عضلة سوداء تشبه القلب ، أو قلبا بشبه الفحم . . . ورأى القسم الآخر من الجمع قد وقف وجها لوجه أمام أفعوان كبير فاتحا فاه ليبتلع من يريد المرور . . كان الافعوان يكشر عن انيابه ضحكا لكل خائف يهاب سطوته ، ويضرب ذيله على الارض حنقا ، أمام كل متحد شجاع . . . الثعبان ينظر بعينين تطل منهما الانانية . . . يريد أن يحمل القافلة على ظهره ، علها تنصهر فى كيانه ، فيسبب ذلك تضخم جثته فى علبة التاريخ . . . ولكن عن لموسى أن يخلق من ذاته قوة تحرس ذاته ، لان الافعوان نشر سمه فى الدروب ، فشوه بذلك وجه الارض . . .
الافعوان تضخم وتضخم حتى خيل الى موسى أن جثته قد ملأت ما بين الارض والسماء ، ومد رأسه الى القمر ، فكان ذلك ايذانا بقيام الزلزال . . . لذلك بدأ كل شبر من الرقعة الصغيرة يتململ . . . يهم بالانفجار . . . حتى الجذوع التى عششت فيها الجرذان ، قد بدأت تكشر عن انيابها تمثيلا يشبه الضحك ، أو ضحكا يشبه الخوف . . . بسمات قامت بصراع مع الرضا على الواقع . . واقع يسير حثيثا كما يلتهم الافعوان الرقعة الصغيرة . . . والجمع الغفير فى تنازع دائم . . . جنون أحدثته (( ناموسة نمرود )) عندما اخترقت خياشمهم واستقرت فى الادمغة .
نفوس صدئة بال فيها الماضى . . . وآذان صماء لا تسمع نداء (( الواجب )) لانها مثقوبة بابرة الغوغاء الحادة . . . غيمة من الوهم يرقص فيها الجمع . . . ليس هناك جديد بالنسبة لموسى ، الماضى والحاضر على مستوى واحد ، أما المستقبل فى الميزان . . . زهد فى الدنيا وتشبث بمظلة المطامنة التى يتوج بها الغيب رؤوس رعاياه . . . ترفع كاذب وغرور مقيت . . . فلاسفة يتجادلون فى الحب . . . خيوط عنكبوت واهية ، يريدون أن يجروا بها جرا مركبة التقدم . . . سمع موسى شاعرا يحاور الفلاسفة فى الحب والعشاق ، فانتصب يؤبن العالم من أعلى الطور . . . خيالات تهفو الى المريخ بالقوة ، وأجسام تنام فى الطين بالفعل . . . حرمان يطحن النفوس ويحوشها . . . وعيون تلمع سفالة كعينى قطنا عندما يضاجع قطته فوق التبن . . ارادة الحياة قد ابتلعها الخمول ، ومضغها بأضراسه الصفراء النتنة . . ثلة من الشيوخ تسبح وتبسمل والطوفان قد عم شوارع أور شليم .
موسى يخاف من الارض التى فتحت فاها لتنتقم منه ابتلاعا . . . كان
قلب موسى يتفتت لما رأى شابا يغازل عاهرة أمام المارة . . . توقف الاثنان ونزعا ثيابهما وشرعا فى مسرحية غرامية . . . كانا يمارسان الحب فى الطريق العام . . . وقف طابور السيارات عن الزحف . . . لم يتجاسر ولو سائق واحد على التقدم ، حماية لنفسه من شآبيب الشمس . . . بدأ السائقون ينزعون ثيابهم . . . حرقتهم الشمس ، فوضع كل واحد يده على ظهره . كانت (( ناموسة نمرود )) تتحرك فى الظهور ، فتسبب فى الجمع المتفرج ما يشبه نوبات الجفون . . . شرع الجمع يرقص رقصات بهلوانية تافهة . . . فى حلقات دائرية تذكرك بحلقات المآتم . . . بينما بدأ الرعد يقصف فى الغرب ، وتساقط الثلج كورا من الشمال على رؤوس الراقصين ، فأدماها ، . . . الكل لاه غارق فى الرقص . . . لم ينتبهوا الى رؤوسهم التى أدمتها أحجار الشمال . . . لعلهم عميان لم يشاهدوا الثلج الذى أذابته شمس الشرق , فجرى جداول صغيرة مختلطا بدمائهم . . . اشتد صخب الراقصين ، ولم يتقدم واحد منهم ليخلص الشاب النحيل من يد العاهرة البدينة . . . لكن رجلا اشقر حمل نفسه على الصياح بقوة فرجع الجمع الى سياراتهم ، التى جمدت محركاتها بثلج الغرب المتساقط على الطريق . . . أما ثياب الراقصين الموضوعة على حافة الطريق فقد حرقها الرجل الأشقر وهو يقهقه انتصارا . . .
سار سائقو السيارات فى الطريق العام ، وكونوا طابورا بشريا طويلا ، كانوا يسيرون عرايا الاجسام فى حضن الصمت . . . وكانوا يختلجون هزيمة ، وعيونهم تنظر استسلاما ، كان الرجل الاشقر يشجعهم على المسير بعين ، ويغمز بالعين الاخرى ، ضاحكا خبثا ، ومتحدثا دهاء . . . لم يرأف بحالهم وهم يتضورون تحت سياط البرد . . . قلب تولستوى اندثر فى التراب ، مد عروقه ذات ليلة شتائية الى قلب طاغور ، فاتفقا على أن العالم سينفجر ذات يوم . . . ولقد روى موسى عن جدته أنها قالت له ذات مرة : ان ما يجمعه النمل فى سنة يأكله الجمل فى لحظة . . . وقال له جده فى احدى الليالى عندما كان يغامز حريمه : عندما يصير اللسان حبلا ، تختنق به الرقبة ، وينفخ الشيطان النفس حتى تصير كالمنطاد ، وتتسع دائرة الذهن بما يشبه المعرفة - عندئذ ، سيدفع منزلنا الجميل فى الهاوية . . .
وسمع أمه فى ساعة من ساعات غفلته تتحدث عن الديماغوجية ، كانت أم موسى تعشقها وتحبها ، فلقنتها درسا لابنائها ، لذلك تحول المنزل الجميل الى حلبة صراع ، كان الصراع يتواصل أحيانا حتى فى الليل . . . لم يقم والد موسى بدور البوليس ، بل كان ينظر من عليائه الى أبنائه ، نافخا عنهم اوداجه متلذذا بما قاله (( كانط )) عن الحرية . . . وكان فى ذلك كلها يتمتع بمشهد صراعهم . فعرفوا أن هذا الوالد يسخر منهم ، وان الحياة الموضوعية التى
يبحث عنها هذا الحكم المعتوه ، لا سبيل اليها ، لانها تزيد بعدا ببرودته ووقوفه موقفا سلبيا . . .
الصراع يشتد بين الاخوة على اللاشئ ! . . العش الساكن الهادئ ينقلب جحيما . . . كل شبر من المنزل الجميل يهم بالانفجار . . . فوهة اللاشئ تتلمظ تربصا . . .
السيوف الحادة من الاسفل ، والمقصلة الثقيلة من الاعلى . . . والمنزل الحالم على شفة المنحدر . . .
تونس فى 69/10/29
