بيد انه ، ولا غنى لنا عن التكرار ، لا يمكن القيام بأي عمل جدى اذا ما استمرت ، ولو بشكل محتشم متستر ، الهيمنة الثقافية او حتى نية الهيمنة الثقافية . ولا نجاة لنا بدون اعتراف متبادل بفوارقنا الثقافية
وخوفا من الظهور بمظهر من يمنع الصداقة من ان تتمتن اذ لا صداقة صحيحة دائمة الا برسوخها وانطلاقها من ارادة الجماهير الشعبية ، فانى لا أتردد مؤكدا بأن المصاعب ما تزال ماثلة مع الاسف ومعرقلة لقيام الحوار الغربى الشرقي . وان جهلا بين الغرب والشرق ما يزال موجودا لاسباب تاريخية يدركها الجامعيون وكبار المثقفين حق الادراك ، فهناك التباسات خطيرة لم تتم ازالتها بعد ، بحيث يبدو الحوار الذي يتشدق به بعضها سطحيا ، إن " البترودولارات " تدفع كثيرا نحو الحوار في بعض العواصم ولكن الوجدان منعدم فى كل ذلك والنية ليست لوجه الله دائما ..
ان العديد من " المهذبين " الذين يتنافسون فى الافصاح عن تفهم - حاء متاخرا ..- للعروبه والاسلام ، قصد استرجاع بكارتهم التاريخية يثيرون الحذر قبل أي شئ آخر ، وحتى ذوو العزائم الطيبة ، أعني المسؤولين السياسيين أو الثقافيين الصادقين يقف امامهم هذا " الحجاب ! التاريخى وهذا التكييف الثقافي اللذان صنعتهما القرون العديدة وراحا يفسدان تصور كل طرف للطرف الآخر . ان الاحكام المسبقة تحول دون الحكم الصحيح .
فلقد مضي عدد من المستشرقين والمؤرخين والموسوعين منذ قرون يصورون العرب والمسلمين فى صورة مشوهة ويعطون عنهم فكرة مبتورة مجحفة فأثروا بذلك فى كثير من الاجيال فى الغرب ، وجعلوا هذا الاحتقار مشروعا وأباحوا الاستعمار وحروب " التهدئة "وبرروا الاعمال التى اضطلع بها المبشرون
والمأجورون والمعمرون من أجل " اسعاد " الاهالي رغما عنهم ، ذلك ان صلف اليقين بتفوق الرجل الابيض مريح للضمير"..
وأكد : ان مهمتنا التربوية وان نضالنا من اجل ثقافة انسانية الاتجاه وان عملنا من احل اقرار الصداقة والسلام بين البشر لا تبلغ الهدف ما لم تتفق جميعا تحليل الاحداث والاحكام المسبقة والاوليات التى تميز العلاقات الحالية بين الشرق والغرب وما لم تكن لنا العزيمة الراسخة لتغيير الوضع باجتثاث اسبابه العميقة ، ومن حملة الاعمال الواجب القيام بها اضع فى المقام الاول مراجعة برامج التعليم ليس فى العالم الثالث فقط بل وبالخصوص فى الاقطار الغربية ، وخاصة برامج التاريخ الذي يتعين اعادة كتابته وينبغى ايضا مراجعة الموسوعات وازالة ما فيها من طعوم العنصرية والجهل وهذا عمل عظيم يتطلب طول النفس من أجل إرساء صداقة دائمة بين البشر على قواعد قوية ..
وهناك أيضا خطر أود الاشارة اليه وهو يتراءى لى من خلال عدد من الفصول يكتبها مثقفون واكفاء يعترفون اليوم بضرورة فتح حوار بين الشمال والجنوب ويؤمنون في صدق بتكامل الثقافات ولكن خضوعهم لضرب من التاريخ وكيفهم به جعلاهم بتصورون انه لا بد لهم أن ينسبوا الى كل حضارة سمة واختصاصا مميزا . وهكذا يميز " هنري دى لا باستيد " أربع حضارات عالميا كبرى ، وأشد من ذلك سوءا انه يعين لكل منها قيمة خاصة : الفكر لاروبا والكلمة للعالم العربي ، والرمز للصين واليابان ، والايقاع لافريقيا ( انظر جريدة " لوموند " - 7 نوفمبر 1975 ) ، الا ان كل هذا مغاير للحقيقه وخطير
فالناس متساوون ولهم نفس القدرة على اكتساب نفس القيم وعلى الانصهار فيها .
ان الشعر والموسيقى والفلسفة والعلم ليست وقفا على شعب دون أخر والتاريخ هو الذي يكيف الناس ويشرح التأخر الفني او العلمي لدى هذا الشعب أو ذاك فالتأكيد بأن الفكر من خصائص الاوربيين وان الافارقه ليسوا موهوبين الا فى " التام تام TAM TAM " مجحف صادم ، وهذا الأوربى موريس بيبحار " الخبير في الايقاع والعارف . . للحكاية ، قد اتى بتكذيب دامغ لهذه التأكيدات التى لا تستند الى اصل .
يقول ببحار : " ليس الطفل الغربى بأقل استعدادا للرقص من طفل افريقي أو هندى ليس ثمة مواهب عرقية ، يقال مثلا : " ان الايقاع يجرى في دم الزنوح " . انها للحماقة الكبرى ، فالايقاع ثقافة تكتسب ، ولقد قمت
بتجربه فى هذا المجال خلال تربص مع جماعة من الهواة من بين الذكور والاناث من مختلف الحرف ولم يمارسوا الرقص بتاتا . وكان من بينهم زنجي من الكنغو ولكنه ولد فى بلجيكا وتلقى تربيته كبلجيكى متوسط ، ولقد ابدى هذا الزنجى خلوا من الايقاع لا يصدق ، اذ كان أقل المشاركين استعدادا للرقص مما آثار استغراب الجميع : ماذا جرى ؟ هل هو مصب بعاهة ؟ لم لا يرقص كبقية الزنوج ؟
وانها لفكرة عنصرية التى تذهب الى الاعتقاد والقول بأن الزنوج يمتازون بكذا والبيض بكذا .. هذا غير صحيح . وأنا مقتنع وأعلم جيد العلم بأن الاجناس كلها متساوية وليس هناك الا فوارق ثقافية . فالزنجى الذي يعيش فى وسط زنجي يسمع فور ميلاده " التام تام " وحين يبلغ الرابعة أو الخامس من العمر يجرى الايقاع فى عروقه أما إذا سمع موسيقى اذاعة بلجيكبا فانه ينشبة عندما يكون فى الخامسه أى طفل بلجيكى . وبنفس الطريقة اذا تربى طفل أبيض فى اطار ايقاعى فان الايقاع يصبح جزءا من كيانه
ان الاستعمار والعنصرية والامبريالية والايديلوجية ، بالخصوص ، ليست غريبة عن استلاب الشعوب التى تنعت بالمتخلفة وعن تجمد مثقفيها ، لكن الرجال هم الذين يصنعون التاريخ وهم الذين يحررون في آخر الامر أنفسهم ويحررون طاقات الخلق والابداع فيهم " .
فى الادراك والتذكر ، ذلك ان الانسان ينتقى المدركات ، ويختار ما يتعرض له من اعلام ويتذكر ما يريد ان يتذكره ، وفقا للعوامل النفسية ، والاستعدادات والاتجاهات والقيم . كما يلاحظون اثر الجماعة فى تكوين اطار التأثر من خلال النظام السياسي والاقتصادى والثقافى للجماعة . فالاستجابات التى تحدث نتيجه لمثير معين ، فى موقف اتصالى معين ، لا تحدث بطريقة آلية أو كيمائية ، كتأثير الضوء على السطح الحساس مثلا ، وانما تعتمد على محصلة العوامل الشخصية والقوى الثقافية التى يمثلها كل شخص في الموقف فكلما كان الاديب والملتقى يتفاهمان فى اطار دلالى واحد ، كان ذلك أقرب ما يكون الى احداث الاثر . ويعبر عن ذلك على النحو التالي :
فالمستقبل (أ/) يقع داخل الاطار الدلالى للمرسل ، فهو يفهم كل شئ ، والمستقبل ( ب / ) كاد ان يقع داخل الاطار الدلالى ، فهو يفهم اشياء ولكنه لا يفهم أشياء اخرى ، أما المستقبل ( ج / ) فانه لا يفهم شيئا مما يقوله المرسل ، لانه يقع خارج اطاره الدلالى تماما
فاذا أخذنا الموقف الاتصالى الذى حاول فيه محمد مزالي كمصدر للاتصال ان يؤثر في المستقبل ( ب / ) لاقناعه بالموضوع ( ج / ) فاننا نجد ان هذا لموقف ليس بسيطا كما يبدو . ويوضح لنا "كارترايب " و " هرارى " فى نظريتهما عن " الاتزان البنائى " (7) انه يقنع المرسل ( أ / ) المستقبل ( ب /) بوجهة النظر (ج / ) ، يجب ان تكون هناك علاقة متبادله بين(أ) و (ب) ، ومن المحتمل بالطبع ان تكون العلاقة بين (ب ) و (ج )علاقة موجبة أو سالبة .
وسنتخذ كتاباته فى مجلة " الفكر " مثالا فى هذا التحليل ، فالاستاذ مزالي الكاتب ( أ) يتوجه إلى الانسان التونسي والعربى بعامة ( ب) كمستقبل مستهدف مؤملا ان يتواصل الحوار مع المثقفين ( حول شؤون هذه البلاد المصيرية وحول آفاق الفكر في تونس ، ومستقبل الثقافة والادب والعلاقة
الجدلية التى يجب ان تساهم فى تمتين صلة الرحم بين الاجيال ، على أساس التقدير الفكرى المتبادل ( اولا ) أن تشدها جميعا ( ثانيا ) الى الوطن المتطور المتجدد ، باعتباره العروة الوثقى التى هى سر اصاله الامم ، والاطار الطبيعى الضرورى الذى من دونه يكون الانتاج الفكرى ضائعا " تلك هى " وجهة النظر ( ج ) التى يستهدف الكاتب " المرسل " توصيلها الى " المستقبل بهدف الاتفاق على الاختيارات المصيرية مع ذوى " العقول النيرة والثقافة المتينة والوطنية الصادقة " وفى ضوء هذا الفهم الاتصالى الفكرى يواصل الحوار حول جملة من القضايا الادبية الاخرى التى هى " بمثابة الفرع من الاصل ، ويتم الاتصال بلغة واحدة حول الالتزام والحرية وحقيقة الشعر وانواعه ورسالة القصة ومضامينها ، ودور المسرح واتجاهاته المختلفة ، وأهمية النقد وبعيد اثره فى النهضة الادبية ، ومنزلة الكاتب ووظيفة المثقف ، وعلاقة التعليم والتربية بمستقبل الثقافة ، والجدل فى اللغة
وتشير النتائج الاعلامية التى وصل اليها الباحثون في جامعة يل YALE الى ان أهم مكونات تصديق المصدر تتلخص فى ثلاثة اشياء هي : النية ، والخبرة ، والثقة . وهي الصفات التى يتمتع بها مزالي في ابداعه الادبي بعامة
وفى تقديرنا ان " حديث الفعل " يمثل الصدق فى القول والاخلاص فى العمل السمات الأساسية لشخصية مزالى ، والكتاب الذي يحمل هذا العنوان " حديث الفعل " صدر عن مؤسسة نشريات الجنوب ببلجيكا وباللغة الفرنسية ضمن سلسلة " المسالك " وهو كتاب من الحجم المتوسط به 281 صفحة وقد جاء على صيغة حوار اجرته السيدة فزافيار ايلوس مع سيادة الوزير الاول :
وقد تركز الحوار على الابواب التالية :
1 ) بذور الامل .
2 ) مرآة سقراط.
3 ) الاعمال والايام .
4 ( الهامات أولمب.
5 ) عيون ارفوس
6 ) اسوار المدينة
7 ) بذور العقل .
. . . الخ..
ففي الفصل الاول كان الحوار مرتبطا بطفولة الاستاذ ومسلكه الاولى مع الكلمة ومع الفعل وتدريجيا اتبع المسار الحوارى منهج السيرة الذاتية المطعمة بالنظرة الحاصفة والصادقة فالاستاذ محمد مزالي درس وتعلم وانتهج المذهب البورقيبي منذ الصغر فجاء في شخصيته ورؤيته للحياة والكون مثالا للاديب الملتزم بخط واضح وجلى هو أساس مثل المجاهد الاكبر الذي كرس حياته لتونس وازدهارها . وقد اتبع الاستاذ محمد مزالي المقولة المشهورة والتي نجدها فى جريدة " العمل " التى أسسها صاحب الفضل على تونسنا اليوم فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة هذه المقولة هى : الصدق فى القول والاخلاص فى العمل..
وقد أكد الاستاذ محمد مزالي على هذه المقولة واعطاها مفهومها من خلال تجربته الحياتية والنضالبة
ان كتاب " حديث الفعل " هو خلاصة تجربة وسيرة ذاتية لا تقتصر على حياة الاستاذ المفكر محمد مزالى وحده وانما هى مسيرة تونس بقيادة المجاهد الاكبر وقد حاء هذا الكتاب فى صيغة حوارية ذكية عايشنا خلالها فترات حياتية للمفكر التونسي محمد مزالي وللاديب العبقرى صاحب مجلة "الفكر" الغراء وكذلك عشنا الاحداث الكبرى التى عرفتها بلادنا منذ انبعاث الحركة الوطنية على يد الشاب المحامي الحبيب بورفيبة ( 8 ) .
ولقد كتب الاستاذ أحمد القديدى مدير جريدة " العمل " عن هذا الكتاب يقول :
"ضمن سلسلة خاصة بكبار المناضلين والساسة والمفكرين اصدرت دار بوبليسود للنشر كتابا للاستاذ محمد مزالي اخذت فصوله واحداثه من فم هذه الشخصية السياسية والفكرية والرياضية الذائعة الصيت بواسطة قلم الصحفية الفرنسية فزافيار أوليس مديرة هذه السلسلة من الكتب وقد كتبت للكتاب مقدمة أبرزت فيها أهمية هذا الكتاب الموازية لاهمية تونس بين بلدان الجنوب بفضل سمعة رئيسها وبانيها المجاهد الاكبر الحبيب بورفيبة ونضاله الطويل من أجل حوار الثقافات وكذلك بفضل عبقرية هذا الشعب ومجده واضافاته المشرفة للحضارة البشرية .
وقد عزت الكاتبة تميز شخصية محمد مزالي الى كونه ايضا من أبرز من تحملوا المسبؤوليات العديدة فى النظام البورقيبي في كنف الانضباط لرئيس الدولة وتوجيهاته ، حيث كان مسؤولا عن التربية والشباب والرياضة ومؤسسات اعلامية والدفاع الوطني والصحة ، وقد انبثق من صلب أسرة تونسية متواضعة كما ان احدى خصائص هذه الشخصية هى كون الرجل مفكرا وكاتبا اصيلا ومثقفا رائدا حرص مدة 29 سنة على اصدار مجلته " الفكر " بمثابرة عجيبة على انتهاج خطها المخلص للذاتية العربية الاسلامية المناضلة
وتلح محاورة الاستاذ مزالي على أن الرجل متفتح مؤمن بحرية الرأى محترم للفكر المختلف الى جانب احساسه العميق بالمسؤولية وتحمله لامانة الوزارة الاولى فى بلد ذى موقف حساس جغرافيا وسياسيا وحضاريا
وتنطلق بعد ذلك فصول الكتاب على لسان الاستاذ مزالى بعفوية تشبه الحديث النابع عن الفعل . ومن هنا كان العنوان الذي اختاره الاستاذ مزالى لكتابه فالحديث لديه ينبع من الارادة التى تدفع للعمل ، وفى الحقيقة اى مثل اسمى من مثل هذا المناضل الكبير ليقرن الحديث بالانجاز ويتبع ارادته بالعمل .
ومن هنا جاء الفصل الاول لرسم ملامح طفولة هذا الرجل ضمن عائلة فقيرة حينما بدأت عيناه تتطلعان الى الافق لاستقراء المستقبل ، فالزيتونات القليلة التى يمتلكها الاب هى كل ثروة العائلة وكان الطفل يرنو بعيدا كانما يسائل التاريخ واتساع البحر وامتداد غابات الزيتون وقد نشأ فى ظلال الرباط وقريبا من سيدى المازري وعلى الاناشيد الصوفيه
ثم انتقل وراء أبيه من المنستير الى رادس الى سبيطلة الى منزل حرب وتعلم من أبيه ان تونس هبة المطر فأحب هذه الارض وأحس بالتحامه بها ، وبالناس الطيبين الفقراء الذين اختلط بهم وسهر معهم على دفء الكانون وجمع معهم الزيتون او تردد معهم الى المدرسة
واستيقظ الفتى فى هذا المحيط على الاحساس ببؤس أبناء جلدته وعلى صوت الزعيم الشاب الحبيب بورفيبة العائد من فرنسا يحرك السواكن ، حيث شاهده الطفل محمد مزالى فى جويلية 1933 حينما زار المنستير بمناسبة حفل
ختان ابنه الحبيب ، ويقول الاستاذ مزالى عن تلك الذكرى : الزعيم يريد دائما أن يضفى على هذه الطقوس الاسلامية معناها الوطني المعادى للاستعمار... ويمضي صاحب الكتاب ليقص علينا المرحلة الثانوية من تعلمها حيث انتقل والده للعمل فى المدرسة التابعة للجمعية الخيرية التى تكفلت بالفتى الموهوب وتعهدته ، ويروى لنا عناصر تكوينه الثقافي والرياض والفكرى والسياسي في هذه المرحلة الثرية بالاحداث الى ان انتقل الشاب الى فرنسا فى أكتوبر 1947 ليبين للقارئ بصمات هذه المرحلة الهامة تحت عنوان " مرايا سقراط " لنستعيد مع الشاب الطالب ذكرياته فى دراسته الفلسفة وتحصله على ملكة الاستنتاج واطلاعه على ضروب اجنبية من السلوك والثقافة والتطلع عمقت تجربته الوطنية واذكت شعلته النضالية وعلمته المنطق الذى لخصه الاستاذ مزالى فى ص 43 من الكتاب بقوله : " ان منطق الفكر اذا لم يكن احد معطيات التجربة ، فهو حتما مطلب من مطالب الفكر : فهو الوضوح والدقة والأشراق ...
" الوضوح والدقة والاشراق هذه هي الكلمات المفاتيح لفهم حياة ونضال الاستاذ محمد مزالي عبر مسيرته المضنية من أجل تحقيق مثل أعلى في الحياة تتالت فصول الكتاب العشرة لبيانه وتوضيحه وتقديمه والدفاع عنه . نعم انه الجهاد الحق من أجل مثل أعلى . يكاد القارئ يلمسه بالحس والحدس والفكر من خلال كل مراحل نضال الرجل في الميادين السياسية والثقافية والتربوي والرياضية ، حيث لم يبدل تبديلا ، وظل هو نفسه الرجل المخلص لمبادى يورفيبه . المتخرج من مدرسة الحزب ، الماسك بدفة الوزارة الاولى والامانة العامة للحزب باعتزاز من يؤدى واجبه فى سبيل الوطن ، فى سبيل عزة الوطن واعلاء كلمته وعلاه واستقلاله وخير شعبه .
وكتاب " حديث الفعل " ( 9) للاستاذ محمد مزالي تناولت مضامينه بالنقل والتحليل معتبرة اياه ظاهرة أدبية وسياسية بارزة ومثيرة فهو تأليف لم يقرأ عنوانه ، بل قرىء أولا من اسم واضعه ، وان كان العنوان والمضمون يستحقان مثل هذه العناية أيضا .
كل وسائل الاعلام استندت فى تغطيتها للحدث الى جملة من المعطيات تلخصها على النحو التالي :
*المؤلف مفكر له وزنه فى زمن قل فيه عمالقه الابداع ...
* وهو سياسي محنك ... يعتبر سندا قويا ومصدرا موثوقا به . .
* أفكاره تسبح فى فلك الانسانية المطلقة..
مواقفه الوطنية والانتمائية والحضارية ، واضحه وقويه وجريئه . .
* تاريخه الشخصى مرتبط جدليا بتاريخ الزعيم الحبيب بورفيبه وبالتالى بتاريخ تونس الحديثة
*مساهمته الفعالة فى تأكيد المسار الديمقراطى بتونس ر الديمقراط بتونس . .
* تدربه التدريجى الثابت فى تحمل المسؤوليات
* ظهور الكاتب فى فترة دقيقة من تاريخ تونس والعالم
كل هذه العوامل كانت وراء اهتمام بلاطات صاحبة الجلالة " بحديث الفعل " ، منها من فاز بسبق نشر فصول مطولة منه ( 10 ) . . ومنها من استعرض باسلوب صحفى أهم ما ورد فيه . . ومنها ايضا من تناول الكتاب بالتقييم والتحليل
وفيما يخص اسباب اصدار الكتاب يفسرها " بول بالتا " بجريدة لوموند " (11) بقوله : " اختارت " كزافيار أوليس " اجراء حديث ما السيد محمد مزالي فكان الاختيار موفقا ..لان محمد مزالى سبق له ان احتل مناصب عدة قبل ان يصبح وزيرا أول . . ثم بالرغم من اعباء المسؤولية فقد بقى رجل ثقافة " .
ومحمد مزالي مناضل عاش أدق فترات تاريخ تونس المعاصر ... وساهم بفعالية فى تطبيق بنود خطة الجهاد البورفيبي... كتب عزيز محجوب بمجلة " جون افريك " (12 ) شهادة مثيرة " . . . سقي محمد مزالي في نظر تلاميذه القدامى بالصادقية ، استاذ الفلسفة ، ذلك الذى ساعدنا على اكتشاف هويتنا القومية وانتمائنا الى الثقافة العربية الاسلامية ، والى هذه الامة التى يرزح
معظمها تحت نير الاستعمار ويضيف : " كنا سعداء برؤيته قادما الى الصادقية كل يوم اثنين على متن سيارته السيمكا البرتقالية القديمة ، المكدودة قليلا نتيجة قطعها كل يوم احد المسالك الحجرية ، حاملة الاخبار السيارة لهذه الشعبة الحزبية الضائعة وسط الريف ، أو تلك المنظمة النقابية " . . ويؤكد - د - ل - بجريدة " لى كوتيديان دى بارى " ( 13) هذه الحقيقة فيقول : " يندمج الجهاد من أجل الاستقلال عند(مزالى) الطالب ، ثم المدرس الشاب ، مع المعركة من أجل الهوية الثقافية ورد الاعتبار للثقافة العربية ولغتها المجيدة "
ويبقى محمد مزالي مثال السياسي الحكيم الذى غرف من نبع البورفيية حتى ارتوى ، والمساهم بجد واخلاص فى رسم ملامح تونس الحديثة ، تونس النظام والديمقراطية والخير والاستقرار ، كتب عزيز محجوب بمجلة " جون افريك " ( 14 ) : " يجب ان تسجل لمحمدا مزالى مساهمته الفعالة فى صنع القرار التاريخي الذي اتخذه بورفيبة يوم 19 نوفمبر 1983 والقاضى بالبعث الشرعي لحزبين من المعارضة (حركة الديمقراطيين الاشتراكيين ، وحركة الوحدة الشعبية ) ، اضافة الى الحزب الشيوعي المعترف به رسميا من قبل " . وتعدد " آن موراتورى فيليب " من جهتها بجريدة " لى فيغارو " الفرنسية ( 15 ) الانجازات الكبرى التى عرفتها تونس وساهم فى ظهورها محمد مزالي : " على امتداد مناصبه الحكومية المتعددة ترتسم رؤية تونس الجديدة : تحرير المرأة السياسة الثقافية ، ظهور التلفزة ، معركة بنزرت ، تحديد الولايات الهجرة
اما" جوزات عليا " فقد اكدت فى مقال نشرته مجلة " لى نوفال ابسرفاتور " ( 16 ) ان : " محمد مزالي قد فعل كل ما فى وسعه لتمرير الديمقراطية والتعددية تدريجيا فى تونس " وأضافت : " وان كانت تونس اليوم قد غدت أكثر البلدان حرية فى العالم الثالث ( اعتبارا لوضعية المرأة والنقابات والاحزاب السياسية ) فالفضل فى ذلك يعود لبورفيبة ولمزالي ايضا " . . وأشارت جريدة " فرانس سوار الفرنسية " ( 17 ) الى هذا الجانب
الهام من شخصية محمد مزالي فكتبت تقول : " دوما ما تكون خلافة العمالقة محفوفة بالمخاطر ، لكن محمد مزالي خليفة الحبيب بورقيبة الوفى يمتاز الى جانب هيبته الدينية وثلاثين سنة من التجربة فى خدمة الدولة ، بمؤهل حاسم " .
ومن خلال حديث الفعل " برزت شخصية محمد مزالي الانسان المتوازن المحب للخبر ، الصادق ، النزيه والجدى ، ورد بمجلة " كل العرب ، الصادرة بباريس (18 ) : " الكتاب والمثقفون كانوا ينتظرونه فى لقاء حى ومباشر فوجدوا فيه المحاور الواثق مما يقول لانه الواثق بما يفعل اصلا " . كما ادرجت مجلة " ديالوغ " التونسية (19) عند تقديمها لفصول مطولة من " حديث الفعل " قولا جاء فيه بالخصوص : " شاهد عيان وعنصر ذو امتياز فى احداث بلده وزمانه والعالم ، مفكر ورجل سياسة وكاتب ورجل عمل ، عميق التجذر فى هويته القومية وانتمائه للمجال الثقافي العربى الاسلامى ، ولكنه متفتح بفضل مرسى المتوسط وافريقيا . " .
وعند تقييمها لاسلوب كتاب " حديث الفعل " تعرضت وسائل الاعلام الى! محمد مزال المبدع . . فكتبت جريدة " فرانس سوار " (20 ) تقول : " يقرأ هذا التأليف دفعة واحدة ، كرواية معبرة وصادقة ، لا تخلو من تفكير وخفة روح ولهجة رقيقة " . . اما " بول بالتا " فيقول بجريدة " لوموند " ( 21 ) " هذا الكاتب التونسي الذي نشر ستة كتب باللغة العربية يقدم لنا هنا : سيرة ذاتية مكتوبة بلغة فرنسية جميلة ، صافية ، متينة ، ومنتقاة ، ومتخلية عن الكليشيهات والرطانة التكنقراطية التى عادة ما يلجأ اليها رجال السياسة".. وعلقت جريدة " لا كسيون " ( 22)على الكتاب ، بقولها : " كتاب ثرى مثر وعلى طول صفحاته يأخذنا شعور قوى بالحقيقة والجمال والجلال"... واكتفى م . حلمي فى جريدة " الاعلان " ( 23 )بقول عميق تعليقا على " حديث الفعل " " رواية كتبت بجدية سياسي فيلسوف كبير
ولقد تعرفنا من خلال التفسير الاعلامى للادب على عنصر اساسي يتمثل فى " رجع الصدى "الى المرسل والاصداء التى تظهر نتيجة التأثر بالرسالة وبذلك تشكل الاصداء الراجعة رسالة جديدة يستقبلها المرسل ، ومن ثم يتحول المرسل الى مستقبل للاستجابة على رسالته الاساسية ، ويتولى ادراك معانيها أو فك رموزها (24 ) ، وبذلك تكتمل الدورة الاتصالية فى التفسير الاعلامي للادب.."
واذا كنا فى ثنايا هذا البحث قد تعرضنا من بعيد أو من قريب فى بعض الاحيان الى مدى التوافق بين مزالى ونقاد ادبه ، فان هناك أمرا ينبغى الاشارة إليه فى فصل الختام ، وهو ان استشهاده قد كشف عن "رجع الصدى" الحق لأدبه وحياته ومدى ثقة الجمهور فى محمد مزالي كمصدر للابداع الادبي وهذه الثقة - كما هو معلوم - هي الاساس الذى يبنى عليه " المستقبل ": تصديقه أو عدم تصديقه للرسالة الابداعية او الاعلامية . وغنى عن البيان ان الثقة المطلقة ليست هى المعيار ، ولكن المعيار الحقيقى هو ما يتصوره المستقبل نفسه بصرف النظر عن الواقع . فمما لا شك فيه ان المرسل أو المصدر المباشر فى التفسير الاعلامى للادب يؤثر تأثيرا كبيرا على مدى تقبل الناس للرسالة الابداعية ومدى تصديقهم لها .
وبناء على هذا الفهم فان رجع الصدى Feed Back يصبح من أهم عناصر عملية التفسير الاعلامي للادب ، وذلك على الرغم من ان رجع الصدى هذا قد يصل ، وقد لا يصل الى انتباه مرسل الرسالة الاصلية ، واذا وصلت هذه الأرجاع ، وفسرها المرسل تفسيرا صحيحا ، فان الدورة الاتصالية تكتمل ، وتتكرر هذه الدورة بطبيعة الحال - الى ما لا نهاية ، وهذه التفاعلات الاجتماعية ، هي نسيج البناء الاجتماعى والثقافى نفسه
