من أحدث ما كتب فى موضوع النقد الادبى ، كتاب "نقاد الادب" ، تأليف جورج وطسون من جامعة كمبردج (1). في هذا الكتاب يقسم النقد الادبي إلى نقد تشريعي ونقد نظري ونقد وصفي وهو تقسيم قد يساعدنا في إيضاح ما سنحاول إيضاحه في هذا المقال.
فالنقد التشريعي هو الذى يعتمد على قواعد وقوانين معينة وبتك القواعد والقوانين يقيس الناقد ويوازن ويقيم ويحكم . فينتظر من كاتب القصة مثلا أن يجعل لقصته "عقدة" ويخترع لتلك العقدة "حلا"، ويرفض القصة التى تكون بدون عقدة وبدون حل .
وينتظر من الشاعر أن يكون "عموديا" كاملا، ويعين له عددا من "الجوازات الشعرية" لا يجوز أن يزيد عليه أو يتصرف فيه.
فالناقد التشريعي هو الذي يريد أن يعلم الكاتب كيف يكتب أو كيف يكتب أحسن مما كتب، ويعلم الشاعر كيف ينظم أو كيف ينظم احسن مما نظم .
أما طريقة تطبيق قواعد النقد التشريعي فهي تختلف باختلاف أذواق النقاد ...
والنقد النظري يعتمد على نظريات من علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجمال وفلسفة الذوق، ويبحث فى طبيعة العمل الفنى ونفسية الفنان ومعنى النبوغ والعبقرية، ويهتم بالمنتج اكثر من اهتمامه بالانتاج. وطريقة التطبق تختلف - هنا أيضا - باختلاف أذواق الناقدين ...
أما النقد الوصفي فإنه يركز اهتمامه في النص الادبي . هو حوار
بين الناقد والقارىء في موضوع النص ، أو عرض لآراء الناقد في النص ، أو دليل يرشد القارىء إلى ما يراه من مواطن القوة والضعف في ذلك النص.
والناقد الوصفي هو ايضا يشرح ويحلل ويقيس ويوازن ويقيم ويحكم ، ولكن لا على أساس قواعد معينة مثل الناقد التشريعي ، ولا حسب نظريات تذهب بالقارىء في مجاهل الفلسفة وشعاب علم الاجتماع وغيابات علم النفس ومتاهات علم الجمال ، وتبعد به عن النص الذي هو موضوع النقد .
نجد في بعض كتابات طه حسين والعقاد ومارون عبود نماذج من النقد الوصفي هي أيضا تختلف باختلاف أذواقهم ...
إذا كانت أنواع النقد الثلاثة ترجع آخر الامر إلى الذوق ، فلم لا ننظر في مسألة الذوق مباشرة ، ونتبع في ذلك طريقة النقد الوصفى ؟ نختار نصوصا من الادب العربي ونصفها كما تظهر لنا ، غير معتمدين على قواعد أو نظريات معينة ، فتكون العملية عملية تذوق قد تساعد على تهذيب الذوق :
والورد في شط الخليج كأنه رمد ألم بمقلة زرقاء
هل يعجبك هذا التشبيه ؟ تشبيه الورد بالرمد فى العين ؟ أرى فيه تشويها... أرى فيه خيالا لا يدل على ذوق سليم .
تزود من الاقمار قبل أفولها
لظلمة أيام الفراق وطويها
ولي كل يوم في الوداع مواقف
يذوب لها رخو الجماد وصلده
قابل البيت الاول بالبيت الثاني واحكم ...
راقصة
ورقاصة بالطبل والصنج كاعب
لها غنج مخناث وتكريه فاتك
أتيح لها في جسمها رفد رافد
وإن نالها في خصرها نهك ناهك
إذا هي قامت في الشفوف أضاءها
سناها فشفت عن سبيكة سابك
راقصات
وقيان زواهر هن بالشمس من الشمس في التلالؤ أحكى
يتبسمن واقفات صفوفا فإذا ما ركعن قهقهن ضحكا
يظهر من النصين أن ما حاوله واصف الراقصات كان أسهل مما حاوله واصف الراقصة ، ومع ذلك نرى الثاني قد عجز حتى أتى بهذا التركيب الغريب : هن بالشمس من الشمس أحكى. أتراه يعجز هذا العجز لو أتيح له التحرر من الوزن والقافية ، أو سمح له بجوازات شعرية غير ما حدده القدماء منها ؟
وقعت دماء بين حيين من قريش ، واختصم القوم حتى كادوا يقتتلون . فدخل أبو سفيان فلم يبق أحد واضع رأسه إلا رفعه ... فقال : يا معشر قيش ! هل لكم فى الحق أو في ما هو أفضل من الحق ؟
قالوا : وهل شيء أفضل من الحق !
قال : نعم : العفو ..
فتبادر القوم فاصطلحوا .
هذا الحوار القصير يبدو واضحا قويا لا ثقل فيه ولا تكلف ، فهل يكون كذلك لو وضع في قصة أو مسرحية عصرية ؟ الناقد التشريعي يقول نعم ، لان العربية لغة واحدة ولها قواعد واحدة ، جرب حوارا يبتدىء بالجملة : يا معشر التونسيين ! ويمضي على ذلك المنوال ...
أم العلاء
حدثنا أبو بكر رحمه الله ، قال أخبرنا عبد الرحمان عن عمه قال : كانت امرأة بحمى ضرية - أحسبها من غني - ذات يسار ، فكثر خطابها . ثم إنها علقت غلاما من بني هلال . فضفتها ليلة ، وقد شاع في الحاضر شأنها ، فأحسنت ضيافتى . فلما تعشيت جلست إلي تحدثني ، فقلت لها : يا أم العلاء إني أريد أن أسائلك عن أمر ، وأنا أهابك لما أعلم من عقلك وفضل دينك وشرفك . فتبسمت ثم قالت : أنا أحدثك قبل أن تسألني ، ثم قالت :
ألهف أبي لما أدمت لك الهوى
وأضفيت حتى الوجد بي لك ظاهر
وجاهرت فيك الناس حتى أضر بي
مجاهرتي ، يا ويح في من أجاهر !
فكنت كفيء الغصن بينا يظلني
ويعجبني إذ زعزعته الاعاصر ...
فصار لغيرى .. واستدارت ظلاله
سواي .. وخلاني ولفح الهواجر
ثم غلب عليها البكاء فقامت عني . فلما أصبحت وأردت الرحيل قالت : ياابن عمي ، أنت والارض فيما كان بيني وبينك ! فقلت : إنه ، وانصرفت عنها .
هذا خبر مقتضب عن تجربة تبدو صادقة ، وفيها من الاشارات والالفاظ المحملة بالمعاني ما يكفي لكتابة قصة رائعة ، وهي مع ذلك خالية من العقدة والحل والمفاجات وبقية مطالب النقد التشريعي.
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
منى وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لانها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
توجد هذه القطعة في كثير من كتب المنتخبات الادبية ويستحسنها الكثير من الادباء ، لماذا ؟ هل هي تجربة صادقة ؟ هل يفكر المقاتل في الثغر المتبسم والرماح تنوشه ودمه يسيل ؟ هل في بريق السيوف ما يذكر ببريق الاسنان ؟ هل يعجبك هذا التشبيه ؟ إذا قرأت بتذوق فكونت رأيا أو غيرت رأيا فقد هذبت ذوقك ، ويمكن ان نسمي ذلك بالنقد العملي .

