اسمحوا لى - قبل كل شئ (*) - بأن أتوجه باسم الوفد التونسى الى المغرب الشقيق - ملكا وحكومة وشعبا - بأخلص عبارات التنويه والشكر على حسن الاستقبال واحكام التنظيم لمؤتمرنا الثالث الذى ينعقد فى مراكش ذات التاريخ الحافل والاشعاع الحضارى المرموق، وأن أتوجه أيضا بعبارات الثناء الى منظمة اليونسكو وخاصة الى مديرها العام السيد ((رونى ماهو)) - لتنظيمها هذا الملتقي للمرة الثالثة ولما وفرته له من أسباب النجاح، مقيمة بذلك الدليل مرة أخرى على اهتمامها بشؤون التربية ومستقبل الثقافة فى البلاد العربية.
ان اجتماعنا هذا ينعقد فى ظروف نحن أحوج ما نكون فيها الى مراجعة النفس والتأمل فى الأحداث التى جدت فى أوطاننا وفى الدنيا قاطبة خلال السنوات القليلة الماضية للاتعاظ بها واستخلاص العبرة منها حتى نقدر على مواجهة كل التحديات التى تستهدف كياننا وتهدد مصيرنا.
وأوكد ما يتحتم النظر فيه تصورنا للثقافة التى يجب ان تكون قبل كل شئ قدرة على التلاؤم مع مقتضيات العصر، وسيطرة على الواقع، وطموح متواصلا لتغييره وجعله منسجما مع مثلنا العليا، وهذا يقتضى أن نستعيض عن سحر الكلمة بنخوة الفعل، وأن نتخلص من جاذبية التقليد وسلطان الذاكرة الى روعة الخلق والتزام المستقبل، وان نروض أنفسنا على تحكيم العقل والاهتداء بأنواره فى سلوكنا حتى لا تورث الاستفاقة من أحلام اليقظة لمرارة والانكسار!
ومع كل ذلك - بل من أجل وبفضل كل ذلك - يجب أن نتمسك بالعروة الوثقى التى تجمع بين الشعوب العربية والاسلامية وأن نعمق ايماننا بمقوماتنا
الذاتية وان نحافظ على أخص خصائصنا القومية حتى لا نذوب فى الغير ولا نبقى آلة فى يده أو عالة عليه.
والتربية هي الكفيلة - مع توفر الاسباب الاقتصادية الملائمة والمناخ الديمقراطي المناسب - ببعث الثقافة الحية الايجابية التى نريد، وخلق الاجيال القادرة على فرض الكيان وصيانة الكرامة والاسهام فى اثراء التراث الحضارى للانسانية.
وبذلك تتجلى فى هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا مسؤوليتنا - نحن وزراء التربية العرب - ازاء الاجيال العربية الصاعدة، وتبدو فى كل أبعادها التبعات الملقاة على عواتقنا.
وان فى جدول أعمال هذه الندوة الثالثة مجالا للتفكير فى شؤوننا العقلية والوجدانية، والمقارنة الصريحة بين أمانينا وامكانياتنا، وإعادة النظر - عند الاقتضاء - فى اختياراتنا التربوية، وفرصة لتبادل الرأى حتى يستفيد كل منا بتجارب الآخر، ويتعظ بنتائجه.
فقد حدد مؤتمر طرابلس عام 1980 كموعد لتحقيق تعميم التعليم لكن اذا تمادت الخطوة التى يسير عليها العمل الى حد الآن فان الهدف المنشود لن يبلغ إلا عام 2000 أو بعده اذا فرضنا ان إحصائياتنا صحيحة وأمكن السيطرة على قضية تهذيب النسل.
ثم ان هذا التوسع الكمى - رغم قصوره عن بلوغ الامل المنشود - قد لا يخلو من ملاحظات تتناوله من حيث الكيف، لذا وجب ان نتساءل كيف يمكن إصلاح المناهج الحالية وتحسين أساليب التعليم وتقنياته بكيفية تضمن ((تحرير الشباب العربى من ربقة الاساليب القائمة على مجرد الحفظ)) وسلبية اكتناز المعلومات وتلاؤم بين ما يتلقاه فى المدرسة وما ينفعل به فى حياته اليومية التى تطغى فيها الوسائل السمعية البصرية وأنواع التقدم العلمى والتكنولوجى، وشتى التيارات العقائدية والحضارية والاجتماعية، فالشاب الذى يردد مع ((كاليغولا)) (Caligula): أريد القمر! أريد القمر! معبرا بذلك عن عجزه على عقل الحياة وفشله أمام ((العبث)) ومؤكدا قصور البشر وحدودهم، كيف يمكن له ان يثق بالمدرسة ويتعاطف مع أستاذ الأدب الذى يدرس رواية ((كامو)) (Camus) الشهيرة بعد ما يغادر القسم ويشاهد على شاشة التلفزة رواد الفضاء وهم يطؤون القمر ويتجولون على سطحه ويقومون بأعمال متنوعة وكأنهم معنا فى الأرض؟
واجتنابا للقطيعة التى قد توجد بين المدرسة والحياة وتورث توترا وخيم العواقب فى نفسية شبابنا يحسن تكييف مناهج التعليم بشكل يتفق مع ميول الاطفال وقدراتهم وملكاتهم والقيام ببحوث لايجاد أساليب جديدة أكثر تلاؤما مع العصر وأوفى بالغرض ويحسن كذلك، وبالخصوص، العناية برفع مستوى المعلمين والاهتمام بتكوين المكونين.
ثم نحن اذا وفقنا الى كل ذلك واهتدينا الى الطرق الكفيلة بضمان جدوى التعليم هل فى امكان بلداننا ان ترصد المبالغ الضرورية لمواجهة ما يمكن أن نسميه ((الانفجار المدرسى)) مما أشار اليه فى خطابه الافتتاحى بالامس زميلنا السيد أحمد رضا غديرة فى صدق وصراحة جديرين بالتنويه -؛ كيف يمكن الخروج من هذه الدائرة المفرغة المتمثلة فى ان التخلف الاقتصادى والاجتماعى الذى نشكوه ناتج عن التخلف الثقافى بينما صرف المبالغ الباهضة فى القطاع التربوى يهدد اقتصاد البلاد ويعطل التوظيفات المالية فى القطاعات الخالقة للشغل، وهل يمكن للجمهورية التونسية مثلا أن تتمادى فى مجهودها الجبار المتمثل فى تخصيص % 31،2 من ميزانها للتعليم وحده وبدون اعتبار لما هو مرصود للثقافة والشباب والرياضة ؟ ...
ولو تمادينا فى هذا المجهود وقدرنا عليه فما هو مصير حاملى الشهادات المدرسية وهل يمكن مواجهة البطالة التى تهددهم ما دامت امكانيات البلاد محدودة اقتصاديا؟
قد تبدو من خلال ما سبق أهمية التعليم التقنى والمهنى من دون ان يعنى ذلك التمادى فى النظر الى هذا النوع من التعليم بوصفه ((نقيض)) التعليم المبنى على الثقافة الكلاسيكية، ومن دون ان يبقى مبرر لوجود ثقافتين عامة وتقنية، بل ينبغي الاتجاه نحو ((ثقافة ثالثة)) تكون نتيجة التركيب والتفاعل وتضمن للشباب التلاؤم مع الحياة.
لذا يحسن - كما جاء ذلك فى الوثيقة التى أعدتها اليونسكو لهذا الغرض التفكير فى انشاء جهاز للتخطيط والاحصاء فى كل وزارة تربية للتنبؤ باحتياجات التكوين على جميع المستويات وفى جميع القطاعات وكذلك تحقيق التوفيق بشكل واقعى بين الاحتياجات وبين الموارد المالية، ومن الضرورى كذلك قيام تعاون وثيق بين المسؤولين عن الصناعة والتجارة والزراعة من جانب والمسؤولين عن التعليم التقنى والمهنى من جانب آخر قصد تطبيق سياسة للتنمية منسقة وملائمة لمصالح كل الاطراف المعنية.
تلك أهم المسائل التى تفرض نفسها علينا وواجب أن نواجهها بصدق وشجاعة حتى نتبين الطرق الموصلة فلا نكثر من اللوائح والامانى - كما فعلنا فى مؤتمر طرابلس ولا يزال العدد الكبير من التوصيات التى صدرت عنه حبرا على ورق! - بل نسير على قدر امكانياتنا فلا نلتزم إلا بما نقدر على إنجازه.
ذلك ان الأهم ليس الهرولة فى طريق غير نافذة بل هو السير ولو ببطء فى الطريق السديدة المقربة الى الهدف وهو تنشئة شبابنا بحيث يجمعون بين الأصالة والتفتح، وينتجون أكثر مما يستهلكون، ويتعلمون كيف ينظرون الى الحياة الحية وجها لوجه.
