استسمح الادباء ان تلطفت على طرق هذا الموضوع الخاص بمشكلة اللغة العربية فى مجال الادب الذى ضعف جذبه عند الشباب وتقلص ظله فى الحياة المعاصرة ، فان كانت اللغة العربية مشكلة فى الادب ، فهى عقبة صعبة التجاوز فى نظر البعض لعدم استيعابها جل مكتشفات التقنية والعلم ، طاقتا الدفع للتقدم المادى ، وقوتا التحريك للحياة المعاصرة فى جميع الجوانب وفى مختلف الاتجاهات .
فأى مؤتمر أجدر من مؤتمر الادباء فى أن يتوسع فى زاوية بحثه للمشكلة ، وتحليله للاسباب المعطلة للغة وتقديمه للحلول المغيرة للوضع والتزامه بالعمل الجاد وبالتنفيذ الصائب ، حتى يكون فى مستوى الحدث التاريخى فعلا تأثيرا وطموحا ؟
فمشكلة اللغة العربية لا تخص اذن الادب المعاصر مثلما تمس الحياة المعاصرة التى يحتاج فيها الفرد للتعبير عن كل ما تقع عليه حواسه ، وما يجول فى خاطره من أفكار وأحداث ،، اذ اللغة تعبير عن تفكير او اصلاح لتجسيم ، او رمز لمحسوس ، تتطور كلما اتسع الفكر ونفذ الحس وازداد التجسيم ، متفاعلة فى ذلك مع الوسط الداخلى الذى تستمد منه عناصر النمو واتجاه التطور ، ومتأثرة بالمحيط الخارجى لاعطاء ما تفرزه من ابتكار مادى وتجديد فكرى .
وتتميز حيوية اللغة بقابليتها للاستيعاب ، وطواعيتها للاستعمال ، وقدرتها على التحويل والتعويض والتوليد حتى تساير اكتشاف العلم وتقدم الفكر وانتاج الصناعة .
وحسب هذا الاطار الوظيفى للغة نستطيع القول بان اللغة العربية تمر الآن بأزمة فى ذاتها من حيث السكون ، وتكون مشكلة فى مجتمعها من حيث الاختلاف فى جميع المجالات الادبية والعلمية والاقتصادية والتربوية ، لا بد لنا من ربط هذه بتلك فى معادلة حركية نطلق عليها علميا بتابع الطور :
اللغة = تابع ( الانسان ) فى المكان والزمان ، أى مهما تقدم الانسان تقدمت لغته وكلما تخلف تخلفت ، وحيثما مات ماتت فى كل موقع وفى كل عهد ، وبهذا التابع الرياضى نضبط ثوابت اللغة فى القواعد النحوية والصرفية ونبحث عن متغيراتها فى أبعادها المكانية التى تؤثر فيها وتتأثر بها ، وفى بعدها الزمانى الذى يميز حاضر اللغة عن ماضيها ومستقبلها .
ومن خلال تجميع كل العوامل الساكنة والمتحركة ، الثابتة والمتغيرة . واحصاء جميع المركبات المتصاحبة والمتناقضة يمكن أن نرسم صورة الطور الذى تمر به اللغة العربية اليوم ونستشف ملامحه فى المستقبل بأدق رؤية واقعية وأكثر قيمة احتمالية ، وذلك بما نضع من مؤثرات ، وما نهيئ من وسائل ، وما نجمع من عناصر ، وما نسخر من طاقات .
فبهذه الطريقة العلمية فى البحث والمنهج التجريبى فى الدراسة يمكن أن نساهم فى معالجة مشكلة اللغة العربية فى الحياة المعاصرة وان كنا من غير اللغويين والادباء من خلال زاوية رؤيتنا للمشكلة في أصعب ميدان للغة وأشق مجال فى الكتابة من حيث الافراز اليومى لعديد العناصر والاجسام والمركبات التى لم يسبق لها اسم فى قاموس أو استعمال فى الحياة .
فالادب المعاصر هو ما يعبر عن مشكلات الانسان المعاصر وما يعالج حاجيات المجتمع المعاصر بلغة معاصرة يفهمها من ينطق بها فى كل أرجاء الوطن الذى ننتمى اليه ويستعملها فى كل مجالات الحياة بحيث تنتشر الكلمة الحاملة لمعنى محدد فى مجتمع متجانس التركيب مثلما تنتقل الموجة الصوتية فى وسط متجانس التكوين دون ان تجد فى طريقها عوازل او عوائق تمنعها من النفاذ أو تصدها من العبور او تعكسها على الحد الفاصل لاستعمالها وبالتالى لا تتجاوز حدود القرية أو المدينة او الجهة او القطر ، كما هو الحال فى كتابات أدباء العامية واللهجات المحلية الذين لا ينتشر صوتهم أكثر من مدى الرؤية لبصرهم .
فالادب المعاصر هو أيضا مايكتب بلغة لا تعزلها حدود أقطار أو جهات ذات تركيب اجتماعى واحد وانما تعكسها حدود أمم تختلف فى الاصل والتكوين والتركيب وهو كذلك ما يستعمل لغة تمسح كل مجالات النشاط الانسانى ماديا وفكريا دون عزل أو انفصال ومن غير ثقل فى النطق او استهجان فى السمع أو خلل فى قواعد اللغة . فالطور الذى عليه اللغة والأدب المعاصر يشبه من حيث الحالة وضع العدسة المبعدة التى لا يلتقى فيها الطموح مع الواقع الا فى البؤرة الخيالية للماضى .
لقد واجهت اللغة العربية تحديا حضاريا فى صدر الاسلام . وتمكنت من هضم حضارة عصرها فى جميع المجالات حتى أصبحت لغة الفكر والعلم والحياة بفضل ما انعم الله به على هذه الامة من كتاب منزل مبين حفظ للغة سحرها وفصاحتها واعجازها وجعلها تتفاعل مع الكائن والكون ومع المادة والروح ، تفاعلا حيا بالأخذ والعطاء مستعملة طرق النحت والقياس والاشتقاق والتوليد والتعريب لكل جديد فى الاكتشاف وحديث فى المعنى حتى أصبحت لغة تعبر عن كل المعانى الفكرية والاكتشافات العلمية والمعاملات الاقتصادية والاتجاهات السياسية التى وصلت اليها قمة الحضارة الانسانية بألفاظ عذبة السمع وبكلمات سهلة النطق تخطت بعد المكان وتجاوزت حدود الزمان وأعطت للغة صفة الحياة فى كل معانيها وللادب صفة الشمول فى جميع جوانبه .
ونتيجة لعوامل تاريخية معينة - مثل زحف التتار والحروب الصليبية والهجمات الاستعمارية بقصد تقويض حضارتنا العربية الاسلامية من شل لتطورها عنصرا بعد عنصر وتفكيكها رابطة اثر رابطة وتجزئة وطنها الى أشتات من الارض وفصائل من الشعوب حتى يزول التكامل وينفصم التجاذب ويتزايد التناقض ، وتتحول ايجابيات الحضارة إلى سلبيات التخلف ، نتيجة لذلك كله - ما قد ورثه جيلنا وما تأثر به وما عبر عنه الكثير بالقبول والاستسلام للامر الواقع حينا ، أو بالرفض والتحدى حينا آخر .
وتجلى هذا الوضع فى الصراع القائم بين دعاة العامية وأدباء اللهجات المحلية من جهة تنفيذا لمخططات التقسيم وتركيزا لعقيدة الاقليمية والشعوبية خدمة لأهداف استعمارية عن قصد أو عن جهل بالاحداث أو عن حسن نية .
ومن جهة أخرى بين دعاة الفصحى التى نزل بها القرآن ويفهمها كل من ينتمى للمجتمع العربى والتى تكون همزة الوصل بين الافراد والاقطار والاجيال وتمثل عنصر التنشيط فى تجميع الشتات ووحدة الاجزاء .
ومن الادب المزيف أيضا الدعوات المشبوهة التى تنادى بتعويض الحروف العربية بالحروف اللاتينية حتى تستجيب فى نظرهم للتطور وتعبر عن مكتشفات العصر ، وكأن اللغة هى الانسان والعقل هو اللسان !! ومن هذا القبيل الصراع الحاد ايضا بين دعاة التعريب لاسترجاع التائه فى الخيال والعجز والاحلام الى حقيقته وواقعه .
وكذلك المهاجر الذى يلهث عن غذاء فكره فى ضباب أوروبا أو فى جليد سيبيريا أو فى سراب التبت أو فى صحراء نفادا ، الى أصل حضارته ومنبع ذاته الخاليين من سموم التفن وجليد الجمود وعوائق التقدم والتطور ، وبين دعاة المسخ والذوبان سواء بالتبشير والتنصيب أو بالولاء والانتماء ، مثلما يبدو جليا فى المحافظة ماديا وفكريا ولغويا على المناهج الاستعمارية فى كل الميادين ، أو تقليد مناهج أجنبية تقليدا خاليا من روح التجديد وطاقة الابتكار.
وحسب هذه الخلفية من الصراع والتناقض والمواجهة المعروضة من السلبيات والمشاكل التى تولد عن تفاعلها أدب معبر عن كل اتجاه ولغة تميز كل صنف ومنهح يمثل كل اختيار ، يمكننا أن نحدد مطامحنا ونعين هدفنا ونختار الطريقة التى بها نحقق الغاية ونصيب الهدف فنحدث التغيير الثورى فى جميع أبعاده الفكرية والثقافية والتربوية والعلمية ويكون الادب فيه حقا المرآة العاكسة للاتجاه الحضارى محصلة تلك الابعاد واللغة العربية فيه ، الوسيلة الوحيدة للاتصال والتعبير والمعاملة والتعليم .
فهدفنا واضح وهو رد فعل لفعل ، ورفض لوضع ، وتحد لواقع واستجابة لحضارة ، ومطمح لوحدة تعيد لنا المجد وتبنى لنا القوة فى عصر لا تقدم فيه للشتات ولا حياة فيه للانفصال والانعزال ولا مكان فيه لملوك الطوائف ، فأول طريق نعتقد سلوكه للوصول الى ذلك الهدف هو النضال لاجل توحيد المناهج التربوية وتخليصها من شوائب التناقض ومن هجين الطرق ومن اختلاف محتوى الكتب والتأليف ومن سلبيات العزلة والانعزال ، بتوسيع زاوية الرؤية الحادة فى كل منهج الى زاوية منفرجة تمسح كل المنطقة العربية من المحيط الى الخليج وبلغة واحدة فى المعنى واللفظ والمصطلح حتى يشعر كل فرد ويعمل كل قطر عمل العنصر فى مركب والعضو فى جسم سواء كان ذلك بحركة ارادية منظمة او غير ارادية هادفة .
ومن هو أجدر من المفكرين القوميين والادباء الملتزمين لتحقيق هذه الغاية خاصة وان أغلبهم ينتمى للتعليم وجميعهم يشعر بهذا الشعور ويصبو الى ذلك
الطموح فالاديب المعاصر هو الذى يدفع بالمجتمع الى حياة معاصرة تلبى رغبة الامة ويتحمل مسؤولية التنفيذ ومشقة التغيير .
ثانى طريق نرى سلوكه هو استعمال اللغة العربية من طرف المهندس والطبيب والفنى فى مجالات العلم للاسماء الاجنبية التى لم تدخل بعد قواميس اللغة ولم يسبق لها معنى فى الحياة ، بالصقل والتهذيب وحسب أوزان اللغة ونطق اللسان كما اضطر اجدادنا فى علاقاتهم مع الاقوام المجاورة أن يأخذوا الاسير الاعجمى ، فيصقلوه ويهذبوه حتى يخرج كأنه عربى صميم وأصبحت تلك الالفاظ المستعارة عربية فصيحة ما دامت تخضع لقواعد اللغة ونحوها دون أى تمييز وما دام الذوق السليم تقبلها في عذوبة الجرس وسهولة اللفظ دون نفور أو نشاز فقد قال أبو على الفارسى وابن جنى (( ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب )) .
لقد عمد العرب الى التعريب منذ الجاهلية ، فعربوا عن الفارسية :
الابريق والسندس والدولاب والكعك والسميد والجلاب والنرجس .. الخ وعربوا عن الهندية :
الزنجبيل والفلفل والشطرنج والكافور والمسك والقرنفل .. الخ وعن اليونانية :
القسطاس والقنطار .. الخ
وفى صدر الاسلام عرب العرب أيضا عن الفارسية :
الكوز والجرة والخوان والطبق والقصعة والفستان والزئبق والمغنطيس والمارستان .
وبهذا التفتح أصبحت اللغة العربية غنية مستوعبة لحضارة ذلك العصر العلمية والفكرية والفلسفية . وفى عصرنا الحاضر دخلت منذ قرن الآلاف من المصطلحات والمفردات الى اللغة العربية تعبر عما جد من تقدم حضارى فى جميع الميادين لم يطلع عليها اساتذة اللغة فى بلادنا ولم نر استعمالها فى كتابات الادباء أو فى وسائل الاعلام او فى أجهزة الادارة او فى مناهج التعليم فى بعض الاقطار العربية ، مما جعل البعض يتهم عن جهل اللغة العربية بالقصور عن مواكبة العصر ، فى الحال انه يجهل ايضا اللغة العلمية الاجنبية وما تفرزه يوميا من
الفاظ جديدة . فقد قال المهندس وجيه السمان عضو مجمع اللغة العربية بدمشق : ان حركة التعريب تسير الان بخطى حثيثة بعد ان تسلمتها الايدى المختصة بها،فاهتمت بها الجامعة العربية عن طريق المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بواسطة المكتب الدائم لتنسيق التعريب الذى أعد لنا مشاريع المعاجم التى بين ايدينا ، وأشهد بأنه عمل قيم جدا . وبفضل المجامع اللغوية والجامعات ومختلف الوزارات العلمية لا بد من ان تؤتى هذه الجهود المتكاتفة ثمارها الطيبة فى مستقبل قريب .
ولا يفت فى عضدنا تأخرنا فى مضمار التعريب ، فان حركة وضع المصطلحات قائمة على قدم وساق حتى فى الدول المتقدمة فى العلم ، وهى حركة دائمة لا تقف ابدا ما دام العلم يتقدم ويفتح كل يوم مجالات جديدة ويضع مصطلحات حديثة . وقد غزت المصطلحات الاجنبية كل لغه تأخرت ولو قليلا فى تدارك شأنها . وها هى ذى فرنسا على علو باعها فى العلوم تشكو من غزو المصطلحات الانقليزية لها ، فيقوم الاستاذ / ايتيامبل Etiemble الاستاذ بجامعة باريس بمهاجمة هذا الغزو فى كتابه هل تتحدثون الفرنقلية parlez -vous Franglais? كما تقوم الفرنسية بعرض المناهج التى يمكن بها معالجة السيل المتدفق من المصطلحات الانقليزية لو ضع ما يقابلها باللغة الفرنسية فاذا كان ابناء اللغة الفرنسية يشكون فما بالنا نحن اذن ؟
ولهذا فان شكوانا من قصور لغتنا او اتهامنا لها بالعجز فانما هو جهل بمكامن الطاقة ومرتكزات القوة المحركة للعربية - أولا - وقصور فكرى ونقص كفاءة علمية - ثانيا - وعدم استعمال ما هو موجود او لما استجد - ثالثا - سواء فى الاعلام او الادارة او التعليم .
فاللغة تحيا بالاستعمال وتموت بالاهمال ، وموت اللغة دليل على موت أهلها ماديا أو فكريا أو حضاريا ، ولذلك لا مناص لنا من فتح النوافد المسدودة والابواب المغلقة على لغتنا لتحتوى الدخيل من المفردات السليمة البنية وتتقبل الالفاظ العذبة الجرس والصيغ السهلة النطق مثلما فعل الاقدمون من الاجداد وما اتبعته لغات الغرب والشرق المعاصرة دون خوف من فساد أو خجل من استعمال . فالكثير من الالفاظ من كل اللغات تموت يوميا بموت استعمالها او ببطلان مدلولها . والكثير يولد بمولد عنصر او اكتشاف مركب لم يعرف له اسم سابق ولا معنى قديم ، ذلك هو قانون الحياة المميز - للتقدم والخاص بالتطور والتجديد فى كل اللغات .
