الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "المنهل"

مطالبات في كتاب الدكتور فيليب حتى, العرب : تاريخ موجز

Share

مزايا ثلاث تبدو واضحة كل الوضوح في هذا الكتاب الجليل الذي وضعه باللغة الانجليزية اولا مؤلفه العلامة الدكتور فيليب حتى ، العالم اللبنانى . المشهور ، واستاذ اداب اللغات السامية ورئيس دائرة العلوم الشرقية بجامعة برنستون باميركا ، ثم تقله اخيراً الى اللغة العربية بمعونة نفر من رفاقه الفضلاء وهم بدورهم استعانوا - كما يقول المؤلف في المقدمة - بترجمة كتابه المطول " تاريخ العرب " وهو الكتاب الذي قرانا ايضا انه ترجم فى العراق .

اولى هذه المزايا هي الشمول وقوة التركيز فقد اوفى على الغاية فى تسجيله لأهم الأحداث البارزة ذات الاثر الواضح فى نشوء وتطور الحياة العربية والحضارة الاسلامية ، وعلى الاخص ما كان منها متصلا بالنواح الاجتماعية والثقافية ، ثم الاسلوب العلمى مع السهولة _الاسلوب البعيد عن روح الخطابة والانسياق مع الالفاظ ، واخيرا روح الانصاف المتجلية فى معظم ما حواه من فصول ؛ وهذا هو التاليف العلمى الرصين . وما اكثر الذين يحسبون ان التاريخ شئ واتباع مناهج البحث العلمية والجنوح الى الانصاف شى آخر ثم ما اكثر الذين يتوهمون ان التاريخ ما هو الا فن يكتب بالاسلوب الفنى ، ويتمشى على الاساليب الفنية !

وقد وضع هذا الكتاب فى الاصل فى لغته الانجليزية بقصد اطلاع القراء الامريكين والأوربيين على مزايا التاريخ العربي ، ومن هنا تأتى فائدته التى لاجدال فيها فى تعريف الكثيرين ممن يجهلون العرب : من هم العرب . . ؟ خصوصا فى هذا العهد الاخير ، بعد ان انتهت الحرب العالمية الثانية ، وابانت

حوادث السياسة - وما ابلغها من متكلم ! بان معظم الذين وضع لهم هذا الكتاب _ ان لم نقل كلهم _ لا يزالون فى منأى عن اكتناه اي حقيقة تاريخية او اجتماعية او سيكلوجية عن الامة العربية .

ثم ان قيمة هذا الكتاب العلمية ، ومكانة مؤلفه المرموقة ، واهمية آرائه التى يبثها فى كل مكان وفي كل فصل ، لا شك انها تزيد من فائدته لمن يقرأونه من أبناء الشعوب العربية .

ولعل من امتع ما تراه ماثلا فى هذا الكتاب تلك المواقف التى يقفها المؤلف وهو يتحدث اليك عن نواحى العظمة والعبقرية والفخار فى عصر العرب الذهبى ، مشيداً بما سطره هؤلاء العرب في تاريخهم الفذ من جلائل الاعمال فى عبارات موجزة مشرقة ، ان دلت على شى فعلى روح الانصاف التى اشرنا اليها ، ثم على شعور اصيل ، يفيض حباً واعجابا واكباراً لكل ما هو عربي ! وليس هذا نشازاً ، وليس هو غريبا من المؤلف العربى الكبير !

فانظر اليه فى الفصل الذى عقده عن مكانة العرب فى التاريخ يتحدث اليك عن تراث العرب الثقافي والعمراني في هذه العبارات الجامعة :

" . . ولم يقتصر ما شاده العرب فى تاريخ العصور على انشاء دولة بل تعدى ذلك الى الثقافة والعمران . فلقد ورث العرب المدنيات القديمة التى ارتفعت معالمها على شواطئ الرافدين ، وعلى سواحل البحر الابيض المتوسط الشرقية وفي وادي النيل . واقتبسوا عن الأغريق والرومان القيم من آثارهم ثم اضافوا اليه كثيرا مما ابتدعوه ومن ثم نقلوه الى اوربا فى عصورها المظلمة ونشروه فيها فكان من جراء ذلك ان بزغ فى اوربا فجر تلك اليقظة العلمية التى لم يزل العالم الغربي ومنه امريكا يتمتع حتى اليوم بحسناتها . . "

" وليس من شعب آخر قام فى القرون الوسطى بما قام به العرب فى سبيل تقدم البشرية فبينما كان فلاسفة العرب مكبين على دراسة تآليف ارسطو كان شرلمان ورجال بطانته يحاولون اتقان كتابة اسمائهم . !

وبينما كان علماء العرب في قرطبة يترددون على خزائن كتبها السبع عشرة " وفيها جزانة حوت " . . . و . . و ٤ " مجلد ويعودون الى بيوتهم فيتنعمون بالاستحمام في حمامات بلغت الغاية فى النظافة والاناقة كان الاساتذة والتلامذة فى جامعة اكسفورد يستنكرون الاستحمام ويحسبونه من ملذات العيش الشهوانية التى يجب الترفع عنها ..... "

وفي فصل " العلوم والآداب " يتحدث اليك عن اثر العرب في نقل الفلسفة والادب والعلوم ، وعن تكييفهم لها وتجديدهم فيها وتحويرهم اياها الى ما يوافق حاجاتهم الخاصة وطرق تفكيرهم . فيجئ قوله فصل الخطاب فى هذا الموضوع ، يقول : -

لم يكتف العرب بالنقل والتقليد بل تعدوها الى التكييف والتجديد فهم لم يكتفوا باستيعاب تراث الفرس الفني وتراث اليونان العلمي على ما كانا عليه بل حوروا التراثين بموجب حاجاتهم الخاصة وطرق تفكيرهم "

وهذا يدحض ما لا يزال يقول به بعض المستشرقين ومن يتابعهم من ان العرب لم تكونوا الا مجرد ناقلين للفلسفة والعلوم ، ولم يكن لهم فى ميدان الابتكار الفلسفى او العلمى اي اثر ملموس !

وليس من شك ان مثل الدكتور حتى لا يمكن ان يتهم بانه متحيز او متعصب او يرمي القول على عواهنه فى هذا المجال .

ويحضرنا بهذه المناسبة رأى الكاتب المعروف الاستاذ عباس العقاد فى هذا الصدد وهو شبيه برأي المؤلف ؛ قال الاستاذ العقاد : -

" ويخطئ من يرى ان كل ما تركه فلاسفة المسلمين قد نقلوه قبل ذلك بحروفه عن فلاسفة اليونان . فقد وجد من الفلاسفة الاسلاميين من تصرف واستقل برأيه كما وجد منهم من وقف عند النقل والتفسير . وا كثرهم قد تلقوا مذاهب الاولين على انها عمل قابل للتعديل والفنين وليس على انها قضية مسلمة لا يأتيها الباطل بحال " ( ١)

ويقول المؤلف عند كلامه على الطب : " وخطا العرب فى هذا العصر - يقصد العصر الذي يبتدأ من النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي - خطوات واسعة فى الاستدواء بشتى العقاقير . فهم اول من اوجد حوانيت لبيع الأدوية واقدم من اسس مدرسة للصيدلة ، وصنف فى الاقرباذين رسائل . وكان يفرض على الصيادلة والاطباء منذ زمن المأمون والمعتصم اجتياز امتحان خاص . وعلى اثر سوء تصرف جرى من احد الأطباء او عز الخليفة عام ٩٣١ الى سنان نن ثابت بن قرة . وهو طبيب مشهور ان يمتحن كل الاطباء ويعطى الاجازات الطبية لمن توفرت فيهم الاهلية فقط فاجتاز الامتحان فى بغداد ما ينيف على ثمانمائة وستين وبذلك تخلصت العاصمة من الدجالين ! ومما يدل على العناية بصحة اهل الريف ما امر به على بن عيسى الوزير فى عهد المقتدر من ارسال بعثات من الاطباء تحمل الأدوية وتطرف انحاء البلاد تعالج المرضى والمعوزين . وكانت بعثة من الاطباء تتفقد السجون يوميا فمن هذه الحقائق يظهر لنا اهتمام اولياء الامر بالصحة العامة . وهو امر لم يكن مألوفا فى باقي اقطار العالم آنذاك "

نقول : وهذه الحقائق تدل على ماذا ايضا ؟ . انها تدل على مبلغ ما وصل اليه العرب في عهد حضارتهم الزاهية من سبق فى ميدان محازبة المرض . . او بالاحرى ميدان العدالة الاجتماعية التى هي انشودة العالم اليوم !

وما اعظم المؤلف انصافا وتدقيقا حينما يعرج إلى قصة احراق مكتبة الاسكندرية التى يتداولها الناس عن عمرو بن العاص ناسبين امر هذا الاحراق الى عمر بن الخطاب . يقول الدكتور حتى عن هذه القصة ان مصدرها الخيال لا الحقيقة . الى ان يقول : " والواقع ان مكتبة البطالسة احرقها يوليوس قيصر سنة ٤٨ ق . م وان مكتبة اخرى نشأت من بعد يشار اليها باسم المكتبة الصغرى دمرت سنة ٣٨٩ م . على اثر امر اصدره الامبراطور الرومانى ثيودو شيوس . وإذن فلم يكن هنالك مكتبة تستحق الذكر عند الفتح العربي . . الى آخر ما يقول " .

وسليمان الاموي . . ! انك لا تجد كتابات تاريخيا مفصلا او موجزا لا يتعرض لفعلته الشنعاء مع فاتح الاندلس موسي بن نصير . فانظر ما يقوله الدكتور حتى هنا : وحل بموسى ما حل . بكثير غيره من قواد العرب البارزين . فقد اذله الخليفة سليمان وعاقبه بالوقوف يوما كاملا فى حرارة الشمس حتى وقع مغشيا عليه . وصادر امواله . وجرده من كل سلطة . واخر عهد لنا بموسى فاتح افريقيا واسبانيا مستعطيا فى قرية نائية بالحجاز وهو طاعن فى السن ". فهذا قائد فاتح مشهوريجاهد ما يجاهد فى سبيل اعزاز الخلافة الاسلامية ويسعى فى اضافة مجد جديد الى امجاد الخلفاء الامويين . لكنه يجازي من قبل احد الخلفاء الامويين انفسهم باسوإ جزاء . . واخيرا ينتهى به المصير إلى ان يصبح " متسولا" والى ان يعيش آخر حياته مغمورا منبوذا فى قرية نائية فى الحجاز !

لماذا كل هذا ؟ وفيم هذا الاضطهاد والأذلال ؟ وباى ذنب يجازي هذا الفاتح العظيم جزاء سنمار ؟ . قد يكون اخطأ فى بعض التصرفات الشكلية ! واذن فان الاقتصار على تنحيته من العمل كان وحده كافيا . ولكنه الشذوذ ! ولكنه نضوب الوجدان ! ولكنه مركب النقص السياسي ، ذلك المركب الذي حار فيه الباحثون ، ذلك المركب الذي اصيب به سليمان ، ولم يستطع المؤرخون ان يجدوا له تعليلا منطقيا ، او حتى تعليلا سياسيا !

والان لا بد لنا من نظرة اخري نلقيها على هذا الكتاب القيم . لابدليا من نظرة اخرى ايضا نلقيها نحو بعض ماخذ رايناها فيه . انها مآخذ من ذلك النوع الذي قد لا يسلم منه اي كتاب . فمن ذلك ما ذكره عن زواج سيدنا موسى من امراة عربية كانت ابنة كاهن مديانى . قال : " وقد كان هذا الزواج من اهم حوادث التاريخ اذ كانت زوج موسى تعيد الها يدعى ياهو ، وكان يا هو الها للصحراء ساذجا وصارما فى الوقت نفسه فمسكنه خيمة وفرائضه بسيطة لا تتعدى التقدمات الصحراوية والذبائح المحرقة ، ولقنت

امرأة موسى زوجها هذا الطقس الديني فعقب ذلك ما عقبه من النتائج الدينية العالمية الهامة "

ولا شك ان المؤلف انما يقصد هنا بالنتائج الدينية العالمية الهامة ذلك الدين الذي اوحى الله به الى موسى . وليس من شك في ان ما رواه من تلقين امرأة موسى لزوجها ذلك الطقس الديني وان هذا كان مقدمة .ظهور الدين الموسوى الجديد - كما يريد ان يقول - انما هواسطورة ولا يوجد ما يثبت انه من التاريخ الصحيح .

على ان قصة زواج سيدنا موسى ، وتكليم الله اياه ، وما تلا ذلك من ظهور نبوته واعلان رسالته للاسرائيلين . كل هذا مذكور فى القرآن الكريم بما لا يدع اى مجال للشك فيه . والقرآن مصدر معتمد كل الاعتماد ، والاسانيد التاريخية " التى يعول عليها بحق " لا تتعارض واياه .

وعند كلامه عن ولادة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول : " ولقد دعته امه باسم قد يظل مجهولا اما الاسم الذي دعى به فى القران فهو محمد " مع ان الثابت فى جميع المصادر العربية المعتمدة ان محمدا عليه السلام سمي بهذا الاسم منذ الولادة اسماه به جده عبد المطلب .

ومن مآخذ المؤلف عند كلامه عن اعتزال الحسن للخلافة ومبايعته لمعاوية قوله : " . . ولكن الحسن الذي كان يميل الى الترف والبذخ لا الى الحكم والادارة لم يكن رجل الموقف . فانزوي عن الخلافة مكتفيا بهبة سنوية منحه اياها معاوية "

وهذا تعليل لموقف الحسن لا نظنه صحيحا . فلم يكن ميل الحسن الى الترف والبذخ - ان صح - هو السبب في اعتزاله للخلافة ، وانما كان السبب غير هذا . . ان الموقف الذي وقفه الحسن هو الموقف السليم ، الموقف الذي دل على منتهى بعد النظر . وماذا يصنع الحسن غير ما صنع . وقد رآى ما رأى من ضعف الروح المعنوية فى جيش أبيه الامام ، ومن شعب الخوارج

وتكاثر المتزعمين والمعارضين ، ثم غزارة ما قد افريق من دماء المسلمين ، وعدم الامل فى اى نصر بالنسبة الى جيش معاوية الموحد وقوة روحه المعنوية وغير فى ان المنطق السياسي المقرون بأيثار الصالح العام يقضي في مثل هذا الموقف الدقيق بترك النضال حتما ، يقضى بالقاء السلاح ووضع حد لهذه الحرب الاهلية الطاحنة ، بقضى بالعمل لاقرار السلام وحقن الدماء ، ولو اتى هذا عن طريق التضحية بالذات وهذا هو نفس ماصنعه الحسن رضوان الله عليه

وقد اشار المؤلف إلى عصر الامين بن الرشيد بكلمات لا ترى من المناسب ايرادها هنا . انها كلمات تدعو الى الالتفات ! ولعمري ما كان اغناه عنها وما كان اغنى القراء الامريكيين عنها ! ونحن الذين لا نرى في الامين ما يقربه اي خطوة من ابيه الرشيد او من اخيه المأمون ، لا نستطيع ان نقول " لا " حينما نطالع امثال هذه الكلمات . لكنا حريون ان نشك كل الشك او بعض الشك حيالها . . اننا اميل الى الاعتقاد بان شيئا غير قليل مما نسب الى عهد الامين كان من صنع الدعاوة . . وهذا ما يحتم ان تكون الاشارة الى ذلك العهد فى اناة واحتياط !

ويظهر ان المؤلف الفاضل برجح اقوال بعض المستشرقين الذين يقولون بان الفقه الاسلامي قد تأثر بالقانون الرومانى واليوناني . فهو يقول : " ولم يكن فى القرون الوسطى بعد الرومان احد غير العرب عني بعلم الشريعة فانشا لها نظاما مستقلا . والفقه عندهم مبنى فى الدرجة الاولى على القرآن والسنة . ولا شك فى انه تأثر بالنظام اليوناني والروماني . . "  .

والواقع ان الفقه عند المسلمين كما هو ثابت - لم يتأثر باي قانون اجنبى وانما هو مستمد فى الدرجة الاولى والاخيرة من القرآن والسنة والاجماع والقياس على ان الاجماع والقياس مقيدان مما جاء فى الكتاب والسنة كما هو معلوم .

وبعد فهذه هي مآخذ هذا الكتاب ، او بعض ما امكننا ان نشير اليه

منها . . ولكنها مآخذ لن تكون على اي حال مما يطا من قيمته ، او يقلل من اهميته . لانها من المآخذ التى قد لا يخلو منها - كما قلنا - اي كتاب . وربما تعود الى اختلاف وجهات النظر ، واختلاف وجهات البحث في كثير من الاحيان ! ورجاؤنا ان يتوفق الأفاضل الذين ترجموا كتاب الدكتور حتى المطول الى اللغة العربية ، الى اظهاره مطبوعا فى حلته العربية ، فما اشد حاجة شباب العرب ، وما اشد حاجة المثقفين منهم على وجه الخصوص ! إلى ان يقرأوا -والى أن يقرأوا باستمرار-كثيرا من امثال هذا الكتاب الممتع الفريد اجل ما اشد حاجتهم الى ان يدرسوا فى كل يوم ناحية ناحية من نواحي ماضيهم ، وليس هذا لكى يقفوا عند هذا الماضى ، ويتغنوا بما فيه من من مناقب فحسب . . كلا وانما لتكون هذه الدراسة حافزا من الحوافز ، ومنبعا من من منابع الآلهام ، وعنصرا من عناصر التوجيه فى بعث حياة جديدة .

اشترك في نشرتنا البريدية