الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 10الرجوع إلى "الفكر"

مطالعات، (( التجربة التونسية الخاصة بتنظيم النسل ))

Share

أطروحة الدكتور عبد العزيز الغشام

قدم الدكتور عبد العزيز الفشام فى المدة الاخيرة الى هيأة جامعية متركبة من رئيسها الاستاذ Jean Planques ومن الاساتذة Auvergnat و Montastruc و Espano و J. Ruffie أطروحة قيمة لنيل الدكتورا فى الطب من جامعة (( تولوز )) . وان هذه الاطروحة المستمدة من الواقع التونسى ومن البرنامج التجريبى لتنظيم النسل واخضاعه للعقل ببلادنا لجديرة بالتعريف . وقد راينا من المفيد للمواطنين المهتمين بهذا الموضوع مدهم بخلاصة هذه الاطروحة العلمية التى نشرت بمطبعة (( فوتيى )) Vauthier بتولوز وعرف بها (( اندرى يبدى )) ( André Bidet ) يوم 17 مارس 1967 فى (( البوبيلار )) وهى الصحيفة الباريسية الناطقة بلسان الحزب الاشتراكى الفرنسى ونحن اذ نبارك هذا العمل العلمى نتمنى لصاحبه مدير دار تونس بباريس حاليا المزيد من التوفيق فى مهنته وبحوثه الطبية .

يقول الدكتور : لقد اصبحت مشاكل الوقاية من الحمل موضوع بحث فى جميع الاقطار منذ بضع سنوات . ولئن كانت المسألة متأكدة بالنسبة للبلدان السائرة فى طريق النمو حيث يتزايد النسل بصفة مهولة ؛ فهى لا تقل تأكدا فى البلدان النامية وذلك باعتبار اسباب فنية وخلقية .

اما فى تونس فان هذه المسألة تندرج قبل كل شىء فى نطاق سياسة تحرير المراة وترقيتها . وان الحمل المقصود والمرغوب فيه لهو نتيجة منطقية لهذه السياسة .

فقبل سنة 1958 كان التشريع التونسى الخاص بالوقاية من الحمل صورة من التشريع الفرنسى . وعلى غرار المشرع الفرنسى قد سار المشرع التونسى فى تحجير الدعاية الحاثة على التعقيم المراقب وبيع العقاقير والالتجاء الى الوسائل التى من شأنها تجنب الولادة ، وذلك بأمر مؤرخ فى 18 سبتمبر 1920 . وقد اتخذت تدابير اخرى تشريعية لتشجيع الولادات منها المنح

العائلية المخصصة لجميع الابناء مهما كان عددهم . ويضاف الى تلك التدابير المشجعة على الولادة مفعول الزواج المبكر وتعدد الزوجات اللذان دخلا فى التقاليد . ومنذ سنة 1956 صدرت قوانين مختلفة تهدف كلها الى تحرير المرأة التونسية اذ منع تعدد الزوجات واخرت السن القانونية الخاصة بالزوجين .

وصدر بتاريخ 9 جانفى 1961 قانون يبيح للاطباء والصيادلة تعيين المواد الواقية من الحمل وبيعها .

وبهذه التدابير قصد المشرع التونسى اخضاع التناسل للعقل ومكن المرأة التونسية من اجتناب كل حمل غير مرغوب فيه . ويستطيع كل زوجين اتخاذ الطريقة التى يختارها لتنظيم الولادات وابعادها عن بعضها البعض حتى يتوفر لكل مولود جميع امكانيات الصحة والامن . وينضاف الى هذا الحرص على انصاف المرأة التونسية الشعور بالحاجة لكبح الولادة الفوضاوية الجامحة التى قد تلحق بالنمو الاقتصادى والاجتماعى لتونس ضيرا شديدا . ومن اجل هذا اجرت الحكومة التونسية منذ سنة 1962 اتصالات مع هيئات من المواطنين ومؤسسة ((فورد)) لضبط برنامج تجريبى خاص بتنظيم النسل فى البلاد التونسية، مسخرة فى ذلك عدة طرق واقية من الحمل لاكتشاف طريقة تكون انجع وانسب وابعد عن الاضرار ، وبالاختصار الطريقة التى تكون اكثر ملاءمة لواقع المرأة التونسية .

وان البرنامج التجريبى الذى دام سنتين قد احكم اعداده؛ وقام وفد متركب من اطباء ومولدات ومرشدات برحلة دراسية قد استغرقت ستة اسابيع الى الولايات المتحدة واليابان والباكستان حيث يجرى العمل بعدة طرق واقية من الحمل ، ونظمت بالبلاد التونسية ندوات وملتقيات شارك فيها ثلة من جلة الاساتذة لدراسة الوقاية من الحمل ؛ وقامت الصحافة والاذاعة بحملة قومية داعية الى تنظيم النسل . ويجدر بنا ها هنا الاشارة الى الدور الحاسم الذى لعبته فى تعليل هذا الامر مواقف رئيس الدولة الحبيب بورقيبة الذى خصص له خطابا هاما .

وعلى الصعيد النفسانى يمكن القطع بعدم وجود اى رد فعل دينى مناهض للوقاية من الحمل اذ ان التشريع الاسلامى يندمج فى القانون المشترك ويقع تطبيقه بجهاز عدلى ذى هيكل عصرى . وذهبت العدالة التونسية فى اهتمامها بهذا الامر الى اختياره موضوع الخطاب الافتتاحى للسنة العدلية لعام 1963 .

وقد انطلقت المرحلة التجريبية لهذا البرنامج من المصحات فسخر لهذا الصدد فى جوان 1964 اثنى عشر مركزا لوقاية الام والطفل وقع اختيارها من بين المراكز الحضرية وشبه الريفية ، وكانت منتثرة على تراب الجمهورية فى مناطق مختلفة من حيث الاقتصاد وكثافة السكان حتى تمثل نماذج لجملة البلاد. ففى مراكز تنظيم النسل يمكن اختيار احدى هاته الطرق المختلفة : الحواجز

الآلية ( condoms )والحواجز الكمياوية( ( gelées vaginales, aérosols والاقراص (pilules) والاجهزة المركزة فى الرحم ( appareils intra-utérins ) وكلها جعلت تحت تصرف بعض المستشفيات الكبيرة لتجربتها . ولكن الاهتمام الذى اثاره هذا البرنامج لدى الجمهور قد شجع الادارة على مضاعفة مصالح تنظيم النسل وتعميم الوقاية من الحمل بواسطة الاجهزة المركزة فى الرحم وذلك قبل انتهاء المرحلة التجريبية بسنتين . واحدثت فى جميع مصالح التوليد بالمستشفيات وفى بعض مراكز تنظيم النسل المجهزة على احسن ما يرام اقسام يقع فيها تركيز المعقف البلاستيكى ( stérilet )       وانتهت المرحلة التجريبية للبرنامج فى افريل 1966 واستغرقت اذن ثلاثة وعشرين شهرا ؛ وبلغ عدد مراكز تنظيم النسل فى تلك المدة تسعة وثلاثين وعدد النساء اللاتى توجهن الى تلك المراكز 27،762 ؛ وقد فحصصن فى الجملة 66،574 مرة . ومن بينهن اختارت 18،522 امراة طريقة الوقاية من الحمل بواسطة تركيز الجهاز البلاستيكى فى الرحم .

ولنلاحظ بادىء ذى بدء ان الجهاز المولج الذى مال اليه الجمهور واختاره الاطباء التونسيون هو معقف (( ليبس )) من نوع س المعروف بالسكوبيدو عند الجماهير الشعبية . (La boucle de Lippes, dimension C)      وقد اجتزأنا بدراسة نتائج مركزين من مراكز تنظيم النسل ملحقين بمستشفيين هامين بتونس العاصمة ، مستشفى (( شارل نيكول )) ومستشفى (( الحبيب ثامر )) . وكانت جملة عمليات الايلاج فى مدة الدراسة 1530 وذلك باعتبار 10.595 شهرا من الاستعمال . ومن بين عدد من النسوة قد بلغ 1530 - وهن حاملات المعقف - هناك 208 لم يعثر لهن على خبر .

وفى غضون تلك المدة ، وبالنسبة للمركزين المنظور فيهما لوحظ ان خمس عشرة امراة فوجئن بالحمل . ومن ناحية اخرى فان تسعا وتسعين امراة قد فقدن بصفة تلقائية آلاتهن . ويضاف الى علتى الخيبة المذكورتين سحب المعقف : فان 91 آلة قد وقع سحبها لاسباب طبية و45 آلة قد وقع سحبها لاسباب واهية . وكل الحالات المذكورة سابقا قطعت بان عددا يتراوح بين 17 و % 20 من النسوة اللآتى حملن الاجهزة المركزة فى الرحم لم يمكن وقايته من الحمل بكل نجاعة . بيد ان عددا يتراوح بين 80 و %83 من النسوة المزودات بهذا النوع من الآلات اجتنبن الحمل فى مدة الدراسة .

ولا يخفى ان الوقاية من الحمل بهاته الطريقة لا تخلو من النجاعة الا انها لا تضمن وقاية مطلقة .

وقد وقع اثبات عدم منافاة تلك الطريقة للقواعد الصحية فى الولايات المتحدة وفى عديد من البلدان الاسياوية . اما فى تونس فقد ابانت ان تاثيرها ضئيل جدا على احداث التعفنات كلما روعيت شروط التطهير الناشىء عن اقصاء الجراثيم عند تركيز الجهاز وكلما وقع فحص دقيق للنساء قبل العملية . ولم يلاحظ الى الآن اى مظهر للسرطان داخل الرحم . وفى صورة اخفاق الطريقة

لا ينشأ اى تحريف لشكل الجنين وتتواصل اطوار الحمل الى اجل الوضع بدون سحب الجهاز من الرحم . وليس للجهاز اى مفعول ارمونى ولا تلك التأثيرات الضئيلة الخاصة بالعقاقير الواقية من الحمل المستعملة عن طريق الحلق .       وان التأثير المنجر عن لفظ الجهاز تلقائيا لا يبلغ % 10 من عدد النسوة المزودات به ؛ غير ان الوقاية تفقد منذ التخلى عن الجهاز ، وهذا ما يشهد بخضوع الطريقة لمشيئة مستعملها .

واخيرا فان تبنى هاته الطريقة رائج جدا لبساطتها ولانها لا تتطلب فيما بعد اى تدخل من المراة . فهى لا تقتضى الا عزما واحدا من جانب المراة او الزوجين اللذين يوكلان أمرهما الى الطبيب الاختصاصى فى هذا الصدد ويتركان له مسؤولية تطبيق الطريقة المذكورة . فهى تحرر من القيود الكريهة المؤلمة التى تفرضها احيانا بقية الطرق كالحواجز الآلية Condoms والحواجز الكمياوية (gelées Vaginales, aérosols) وغيرها .

وهي لا تنقص من اللذاذة ، وتطول مدة فاعلتها او تدوم على الاقل بمقدار الزمن المرغوب فيه ، وتكاليفها بخسة .

واذن اذن ان الوقاية من الحمل بواسطه المعقف المركز فى الرحم لهو فى هاته الآونة على الاقل الطريقة المثلى التى تناسب البلدان السائرة فى النمو ، المجابهة لتزايد فى النسل مفزع .

وقد ورد فى كتاب الاستاذ الفريد سوفى الذى صدر منذ بضع سنين بعنوان (( تكييف الولادات )) ملاحظة استاذ هندى قد حثه امريكى على ترويج الطرق الواقية من الحمل بين الجماهير الشعبية التى كان عددها يتضخم بدون تحرج ، فأجاب الهندى : (( هؤلاء رجال نصيبهم الحرمان المطلق : قوت زهيد ، واطمار بالية . اما الملجأ فدع الحديث عنه . فما لهم من لذة سوى لذة الوطء ومن سلطة سوى الابوة ، وها انك تريد - بموجب منطق غربى محترم - تجريدهم من هذه اللذة الوحيدة ، وهذا السلطان الفريد )) .

ان الطريقة المذكورة لتجنب الحمل حرية بأن تفرخ من روع الاستاذ الهندى . فاذا ما طبقها ابناء وطنه فانهم لا يحرمون من لذة الوطء . اما سلطة الابوة فانهم يمسكون زمامها بمجرد مشيئتهم وبعملية صادرة عن طيب خاطر وروية لانجاب ابناء قدرغبوا فيهم وهيؤوا لهم اسباب العيش والصحة والتربية والكرامة .     اما بالنسبة لتونس فان تضاعف النسل بلغ حدا من شأنه ان يعرقل اهداف مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد . وان البلاد فى انطلاقها الاقتصادى لهى فى حاجة اكيدة الى برنامج قومى لتنظيم النسل مصاغ على ضوء البرنامج التجريبى .

وقد تبين بعد انهاء البرنامج التجريبى المنجز بتونس ان الوقاية من الحمل بتركيز (( معقف ليبس )) فى الرحم انما هى الطريقة التى تلائم اكثر من غيرها واقع المراة التونسية ؛ فيمكن اتخاذها اذن قاعدة لبرنامج قومى لتنظيم النسل .                                                     باريس فى 23 ماى 1967

اشترك في نشرتنا البريدية