الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 6الرجوع إلى "الفكر"

مطالعات، في ظلال الوفاء

Share

تراكمات مشاعرية شتى ، وتصعيدات وجدانية ، ترسبت فى أعماق السيد أحمد حمدانى المطوى ، فاذا به يحبرها ويدبجها فى فصول ، ثم يضمها فى كتاب طبع طبعة أنيقة ضمن مائه وثمانين صفحة من الورق الصقيل ، وأخرج للناس فى مطلع هذه السنة الجديدة ، تحت عنوان " فى ظلال الوفاء "

والكتاب كتب فصولا متفرقة على اجتماعها فى نقطة واحدة هي العبقرية البورقيبية باعتبارها رمزا للظلال الوارفة ، والمبادىء الانسانية ، والوفاء البطولى العميق لارادة بناء الانسان وارساء قواعد كرامته وحريته

ومعلوم أن كتاب الفصول المتفرقة المضمومة تحت عنوان واحد والمستوحاة من رجل واحد ، هو كتاب لا يخلو من تماسك بين فصوله ولو بقدر . ومع هذا فقد نظم المؤلف حين ننتظر منه دراسة منهجية على نحو ما عودتنا كتب السيرة التحليلية لعظماء الرجال . . وهذا الاستدراك ليس خطيرا على الكتاب ما دام المؤلف المحترم لم يتقيد من أجل أن يكتب ، بل هو قد كتب فى لحظات مؤنسة ملهمة من التجلى والاشراق والتأمل والصفاء ، وهو لم يصعد فى تراكمات مشاعره الا لان ارهاصات معاشة قد دفعته ، فحبر ما حبر ، وجعل من الكلمة الحساسة ظلا محلقا وراء ظل ، يقيه من لفح الايام ، ويوقفه بخشوع أمام محراب الوفاء :

يقول أحمد المطوى فى مقدمة الكتاب : " فرأيتنى مدفوعا ببصيرتى بقلبى . . بمشاعرى ، بكل جوارحى ومداركى ، رأيتنى مدفوعا بمثل هذه الروح نحو هذه الظلال ، ظلال الحق والوفاء ظلال الطهر والصفاء . . ظلال الانسانية المتكاملة . فما هى الا برهة حتى اندمجت فيها اندماجا كليا فابتهجت بما وجدت فرحت أقفز من الفرح وأرقص من طرب ، فاذا أنا كفراشة الحقول "

فالكتاب ملتزم ، ولكنه التزام عفوى حار ، ينبع من الاعماق ، ويفيض من

الدواخل ، ويضرب مثلا رائعا للصدق الادبى الذى يستحوذ على مشاعر القارىء ، والذى بدونه لا لزوم لاى التزام .

فالمطوى هنا ، ينفلت قلبه من كل كلمة وتتفتح عواطفه وتخفق برقة آنا وبعض آنا آخر ، حتى لكأنه بايمانه بشخصية محرر تونس العظيم ، الرئيس بورقيبة ، قد مسح غبار القدم عن الكلمة العربية المعاصرة ووضع فيها شبابا وتألقا من اشعاع خبايا القلب الحساس

تتابع فصول الكتاب ( العبقرية البورقيبية ) - القلب المفتوح ، سلوى الحبيب ، الرائد الحق ، الحكمة الخالدة ) ، فترى هذا الاديب الذي نحن بصدده الآن ، يتواثب لا كالفراشة الحالمة فقط - والتعبير تعبيره - بل يتواثب فى ظلال الوفاء " مثل مياه الفوارة الحلوة . . .

المطوى قد رسم ما ومض لبصيرته ، وارتعش فى خاطره ، وكفاه ذلك فخرا ما دامت مادة الهامة على وجه الخصوص ، هي أقباس " المجاهد الأكبر " التى لم تخل ريشة أدبية فى تونس من تمجيده كرمز للشعب ، وكصنم خالد للتضحية من أجل الآخرين ، وكملامح حبيبة لمطامح الحرية ، والعدل والمساواة ! فانظر الى المؤلف حيث يقول : " على هذا المثال من الصفاء والاشراق ومن الرؤية والتصور ، صاحبت ذلك الانسان الخير النبيل صحبة روحية خالصة عميقة صادقة ، فآنس وحدتى . وأزال وحشتى ، وحرك مشاعرى ، وغذى عواطفى ، وسما بمداركى . صاحبته فى اليقظة والمنام ، زاملته ماشيا ومقيما ، صامتا ومتحدثا ، حتى فى الاحلام كانت أفكاره تراود عقلى الباطن فتتحدث اليه حديثا متصلا ، كانت تلمسه لمسا مداعبا فاذا أنا أستيقظ على نبضات القلب ولجلجة اللسان ، واذا أنا متمثل ومتشخص لذلك الانسان الرائع الجليل . أجل لقد كان وفيا فأخذنى معه هنالك حيث الفكر الارحب والملكوت الاصفى ، هنالك حيث يحلو السهر ، ويسمو السمر ، ويعذب الحديث ، وتتفتح المدارك ، وتستشف البصائر ما وراء الحجب " .

على هدى هذه المشاعر الصادقة تابع ( المطوى ) مسيرته فأملى هذه الفصول مخلصا ، ووعى أمرها متعمقا ، وعاش تجربتها شاعرا بوجودها ، متفاعلا مع أفكارها ووحيها ، متغلغلا فى أبعادها ، ضاربا فى مفاهيمها وقيمها . وكان يستلهم من هذه القوة التى تدفعه حرارة الايمان ، وحلاوة العمل ؛ فيتحدى بها القر ، والشر والحر ( كما يقول هو ) ويتحدى بها الواقع المر وما فيه من قساوة وخشونة ، وصلابة ويبس وجفاف ( حسب تعبيره ) .

و بالكتابة عن بورقيبة ، يخبرنا المطوى أنه قد تحدى الضوضاء الكثيفة المسرفة وما تثيره من دخان ، هذا الذى يحجب الحق حتى عن سموات الفكر التى يجب أن تكون متألقة صافية يرى فيها كل أحد نفسه رؤية سليمة واضحة وبعد التأمل المدرك الحصيف ، المشرق العميق ، المستشرف الى البصيرة

الملهمة الصائبة ، المنبثق عن ممارسة التجربة الحية الواعية بعد هذا التأمل رأى ( المطوى ) حقيقة جازمة ورائعة خالدة . وهي أن هذه الظلال ظلال الوفاء ، ظلال الانسانية المتكاملة هي الملامح المشرقة ، والالوان الزاهية والصفات الدالة ، والسمات المميزة لذلك الانسان الوفى الرحيم ، الذى هو بورقيبة .

( المطوى ) صاحب ( ظلال الوفاء ) ، أديب ذكى القلب ، بارع الخيال بالرغم من سجن البصر الذى لم يحل بينه وبين صفاوة الاحساس بنور الحقيقة ، ولم يحجب عنه ملامح زعيم تونس ، ورائدها الحبيب بورقيبة . ( فالمطوى ) بالكلمة النظيفة ، بالكلمة المخمورة المتوثبة رغم رائحة القدم التى نشتمها فيها ، قد استلهم هذا الكتاب الذي أضاف رقما الى مكتبتنا القومية كما أضاف اسما جديدا لامعا الى أسرة الادباء ؛ ونحن نرجو للكتاب انتشارا وللقراء افادة ، كما نرجو لمؤلفه ، مزيدا من السخاء الفنى ، ومزيدا من اللقاءات الروحية على الصعيد الفكرى المتألق التى شوقتنا اليها هذه الباكورة ، ومن حق المكتبة التونسية أن تستزيد !

والمؤلف من مواليد ( 15 جانفى ) 1931 ) بقرية المطوية المناضلة ، وهى واقعة بالجنوب التونسى من ولاية مدينة قابس الفيحاء - فقد بصره وعمره ثمانية عشر شهرا ، تحصل على شهادة العالمية سنة 1956 ، وكان الحظ مواتيا حيث صادف ان الدكتور طه حسين كان اذ ذاك مستدعى من قبل الحكومة التونسية ، لرئاسة لجنة امتحان السنة الاولى من شعبة الآداب العربية بدار المعلمين العليا الفتية آنذاك فحضر الاحتفال السنوى الذى انعقد بجامع الزيتونة بمناسبة اختتام السنة الدراسية ، فكانت فرصة ثمينة وذهبية التقى فيها ( الكفيف التونسى بالكفيف المصرى ) !

اشترك في نشرتنا البريدية