الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

مطالعات، قلم وحصيد، الاستاذ مازيغ . و بين عصرين

Share

يتحسس القارىء هذه الايام شبه حركة بدأت تدخل السوق الفكرية وتقتحم المكتبات العامة ، وهى مطبوعة بالطابع التونسي الصميم ، اسلوبا وعرضا وروحا . خاصة بعد العزم الاكيد الذى أعلنه السيد كاتب الدولة للشؤون الثقافية والاخبار فى ندوته الصحفية الشهيرة ، ولقد لاحظت خلال ايام قلائل رصيدا من الانتاج محترما بالقياس الى الفترة ، الزمانية . لا حظت رصيدا من المؤلفات يبرز فى اطار يبشر بأمل عريض في تحقيق الاهداف التى يرمي اليها جل المثقفين وخاصة منهم رواد الادب المغربى نثرا او شعرا اولائك الذين تهتز قلوبهم طامحة بالنشوى كلما شاهدوا مولودا جديدا من مواليد الفكر التونسي يتحدى الظلام والصمت الى النور والحياة . وهذا الرصيد الذى بدأ يقدم نفسه للناس يمتاز بأنه يشعر عميق الشعور بكيانه ، ويثق جد الوثوق من صدق هدفه ، وصراحة اسلوبه ، ومن ثمة كان يدنو شيئا فشيئا من أيدى القراء وادمغتهم . بيد أن هذا الدنو يعتمد جذريا على ما يحتضنه ذلك الانتاج من حصانة . اعنى أن المؤلفات التونسية العديدة التى برزت لحد الان كان اقتحامها بيوت القراء ومكتباتهم مركزا على ما تضمنته بين دفتيها من غذاء دسم وصيد سمين ، وقد سلكت في الحكم مبدئيا على هذا الانتاج مسلك التعميم لايماني سلفا بان بعض ما ورد فيه من هنات لا يقف حائلا دون الاشادة بالعناصر الاساسية لكل انتاج واجه السوق بعد الثورة الكبرى ؛ فالمادة الخام تبلورت عند المنتج والمحنطات موفورة جمة والعزيمة فى اندفاع سريع ، كل ذلك وغيره يجعلني أؤكد وثوقي : بان مستقبل الكتاب المغربي بين اهله العرب وذويه فى صعود مطرد وانطلاق ميمون ، ورغم هذا وذاك الاثار الفكرية مهما طال نفسها وامتدت تجارب أصحابها قلما تسلم من بعض المزالق ، وتلك المزالق تعظم وتخف تبعا لنوع الانتاج

وصور قضاياه ، مهما ارتفعت تلكم الاثار الفكرية ، ومهما بلغت من اكتمال نسبى ونضج قد يكون آخاذا فى بعض الاحيان لن يمكن لها أن تدخل عامة بيوت المثقفين ، ولا ان تغزو كل الادمغة الرائدة ، ما لم تتناولها الاقلام تناولا شريف المقصد نبيل الغاية ؛ او تلوكها السن فتهتك سترها الشريف ، وتلصق بها ما لم يكن من لبسها او روحها ، والاثار التى تنوولت بالعرض والتبسيط والنقد الصريح ، او نبشت قضما وانتقادا هي غانمة في كلا الموقفين رابحة في الصفقتين ، ولعلى قد اجملت في نقطة يحسن فيها التفصيل لكن مالنا ولهذا ونحن بين عصرين ومع الاستاذ مازيع :

وربما تتساءل لم بدات بالاستاذ مازيغ او جعلت بين عصرين فى المقدمة دون سواه ؟ . الواقع ان عدة دوافع جعلتني أقدم " بين عصرين على غيره . منها :

1 ) عمق الصلة بيني وبين الكتاب ، ومدى امتداد حبل التعارف بيننا ، فقد كان ذلك يرجع الى سنين عديدة منذ كانت فصوله تذاع بعنوان " رسالة أبى حيان " . فكنت استمع لها وفي نفسى شعوران متناقضان . ومن أجل ذلك التناقض اندفعت وراءها اتبعها كاملة ، وادون بعض المذكرات عنها أحيانا .

2 ) اعتقادى بأن الاستاذ مازيغ فى جل ما كتب وخط نثرا كان اوشعرا يعد فى طليعة رواد النهضة الادبية المغربية المعاصرة طعم ولا يزال يطعم الحركة الفكرية بروحه وفكره .

3) أما ثالث الاسباب ولعله شخصى فهو الوفاء بعهد كنت قطعته على نفسي منذ سنوات بأن اكتب شيئا عن هذا الرجل وتشاء الاقدار أن تحلل اليوم من عهد بعيد فاخط بعض ما يحتمل في نفسي ازاء الاستاذ مازيغ كأديب وشاعر ، وازاء انتاجه الاول " بين عصرين والاستاذ مازيغ قدمه المشرفون على الشركة القومية للطباعة والنشر ضمن كتابه فى كلمات مقتضبة هى

مازيغ ولد بعاصمة تونس في 16 جويلية 1906 . تخرج من المدرسة الصادقية عام 1924 : باشر التعليم في كثير من المعاهد التونسية ؛ ساهم بقلمه في النهضة الادبية والفكرية التونسية ؛ له انتاج متنوع من شعر ونثر ومترجمات ؛ من مؤلفاته المخطوطة والمعدة

للطبع ديوان شعر ، وتاريخ القيروان السياسي والاجتماعي نال جائزة القيروان الادبية عن مجموع انتاجه الادبى ، وجائزة سوق عكاظ الشعرية لعام 1958 من الدرجة الاولى .

وكلمات مقتضبة كهذه غير كافية لان تلقي الاضواء الكاشفة للاجيال والتاريخ على رجل كرس حياته لخدمة الادب المغربي ؛ وكم كنت اود أن يجيء التعريف أوفى والطابع اوضح ؛ وعسى أن يكون ذلك في بعض انتاجه المقبل .

وبين عصرين " جاء مقسما لحضرات القراء الى قسمين ، لانه صيد اسمن من أن يلتهم في مأدبة واحدة ، وخصص الاول منهما لعرض الاشخاص الذين ركز عليهم المؤلف كتابه او بالاحرى فصوله تلك الفصول التى سأتناولها فى عناوينها واهدافها ، وفي أفكارها ولغتها واسلوبها . واذن فإن بين عصرين ولو أنه يبدو صغير الحجم فإن المائة والخمسين صفحة حملت للقراء أشياء من الوفاء عرضها مجردة من كل تصنع أو رياء .

واشخاص : بين عصرين هم : أبو العرب : شاعر قوى الكيان ميال الى التجديد في غير افراط وهو يناقض تماما شخصية أبى عثمان . تلك الشخصية الدينية الصرف التي تمكنت من فهم الدين فى جوهره ، وهي اذ تدخل في نقاش تعتمد القواعد العلمية الصادقة . وثالث الجماعة أبو يحيى فليسوف الحلقة يمتاز بالصمت والتفكير العميقين شأن كل فيلسوف رشيد . ثم نجد بعد ذلك ابو عباس وابو مسلم ، وأبو على المتشبع بروح التنجيم والتدين العقيم، والملفوف لفا فى مسالك العادات ، ومناهج الخرافات الزائفة اما ابو الصقر فشاب تقدمي مجدد فى غير ثورة ولا افراط ؛ وثمة ابو سعيد وابو النخبة الملقب بالعلامة الرهاوى ، تلك الشخصية المحاطة من طرف الجماعة بهالة جاوزت حدود التقدير والاحترام الى ضرب من التقديس المصطنع الخداع . اما الشيخ أحمد فهو صاحب النادى وربه على نخبه تعقد الجلسات ، وفي بيته ينتظم الشمل ويلتثم العقد على حد تعبير الاستاذ تلك هي الشخصيات العشر التى خلقها صاحب الكتاب ، وكساها

ألوانا مختلفة من حيث جوهر الشعور ، وحقيقة المواقف المختلفة تماما ازاء القضايا المعروضة خلال كل جلسة . وأول ما يلاحظ هنا بارتياح سيطرة الكاتب على ابطاله من حيث الطباع فقط ؛ ولقد ضمن الجلسات الست عشرة واحدة تلو أخرى ، وفي كل جلسة احاول ان اخصر من عدد القضاة او على الاصح من عدد الابطال ، ولكنني كنت اقف فى النهاية دون تنفيذ ذلك ليقيني أن كل شخصية تمثل ضربا من ضروب الحياة ، ونمطا خاصا من الناس يحيا فى مجتمع تونسي كلكلت عليه ظروف القهر السياسي فبات يئن ويفرغ آنينه فى امثال هذه الجلسات السحبية الى قلبه لانها جلسات الشعب فى صميم قضاياه .

اما الشاب الوجودى الذى اسقطت عده قصدا لانه كان ضعيف الشخصية لم يأخذ مكانه القار من الحلقات ولم يشارك فى نقاشها وأحاديثها مشاركة بارزة اذ كان يضطلع بدور ضعيف جدا فى لحمة الكتاب ومبناه ؛ ولكنني قبل أن ادخل وإياكم الى حصن الرفاق ومجلسهم الانيس لنشهد ثمة الحوار الذي يشد الصحاب الى بعضهم ويسلك بهم طرقا منسجمة حينا وملتوية كأداء احيانا . قبل ذلك أود ان نتعرف على عدد هذه الفصول وعناوينها حتى اذا ما اجتزناها وناقشنا حصيلتها كنا على بينة من الامر .

لقد ضم الكتاب ستة عشر فصلا انجزت ما بين جانفى واغسطس من سنة 1951 واستغرق خلقها ثمانية أشهر كانت تمر حبالي ب : تاريخ ؛ ولحدية ابي على وتكهنات ؛ ثم . اقتربت الساعة ، فملتقى الوجود والعدم ، فمأدبه فالعلامة الرهاوى ، فطعنة في القنا ؛ فبين الكتب ، واخير خاتمة المطاف وبين الشك واليقين ، وحديث الصيف ؛ والشاطئ ونظرة الفيلسوف وحيرة أبى العرب .

. والنظرة العابرة على عناوين هذه الفصول تميل بالباحث إلى ترجيح فكرة الرمزية فيها لما يستشف خلفها من صور واشباح تتراقص حول هذه العناوين ، ولو أنها جاءت صريحة العبارة واضحة الملامح اذ لست الرمزية رصف كلمات مشلولة مبهمة . وليست الرمزية كذلك عالما خياليا مطلسما على القارىء أن يفك عقاله ويضبط مفاهيمه بل الرمزية التى أعنيها هنا هي التي قصدها صاحب كليله ودمنة . فاوجه الشبه كبيرة بين العصرين من حيث الضغط السياسي

والظلم ، ظلم جاوز حدود الصبر ، وتحدى نطاق التأني ، فزرع فى النفوس أجمل الثمار واطيبها ، زرع الثورة فى الاحساس ، والثورة فى القلم والثورة فى الاتجاه . ولكن ثورة القلم لا بد أن تلبس اللباس الرمزى الخاص لتبعث الشعوب الى الحياة الكريمة ، وتدفعها الى الصعود وهى فى امن من ظلم الطغاة ؛ فاختار ابن المقفع ابطاله من الحيوان واختار مازيغ أشخاصه من الشعب وجمع بينهم فى جلسات ظاهرها فكرى محض الى معالجة قضايا الرأى الادبي ، وباطنها تلميح المشاكل الشعب التى باتت تتكدس وتنذر بخطر عظيم ؛ والذى يؤكد ميلى الى هذا الرأى علمنا جميعا بأن المنبر الذى كانت تنشر منه هذه الفصول هو " الإذاعة " ولن نجهل ظروف الاذاعة منذ بعثها بتونس وخاصة خلال سنوات 51 و 52 إلى سنة 1956 حين كان الشعب التونسى يخوض حربه ضد الاستعمار واذ ابتعد برأيي هذا التقدير الجازم وأميل به الى الترجيح فحسب فذاك لان اجعل مجال الحكم في خصوص هذه النقطة اوسع من القطع النهائي الذي قد يوقع في الخطإ وسواء لدينا أقصد الكاتب الرمزية فى فصوله فخلق هؤلاء الاشخاص وحاول أن يظهر على السنتهم فظائع الظلم وسخافة العادات ، تلك التى سيطرت على الشعب ، وغللت منه الرقاب ، وحطمت فيه العزيم فحاول اظهارها على لسان أبي الصقر ، وابى العرب ، وابى عثمان فكان وابن المقفع صنوين فى عصرين مختلفين ؟ أم قصد خلاف ذلك وسلك هذا النمط من الانتاج سلوكا عفويا محاولا به تجديا آدب المجالس في عصور الفكر الحديثة ، واعادة تلكم المراتع الخضر التى كانت تتلألا من مجالس ولادة وابن زيدون والتي كدنا أن ننساها .

سواء لدينا قصد الكاتب هذا او ذاك فإن الفصول فى عمومها غلب عليها الارتجال والاخراج السريع دون مراجعة نظر او تأكيد انتباه الامر الذى يجعل الدارس في ريب منها . اهو أمام بضاعة نظيفة هيئت لان تكون غذاء روحيا خالدا لا تؤثر فيها الايام ، ولاتنال منها الاحداث ؟ أم هو امام شئ اخر ينتهي بانتهاء عمله ، فلا هو الى الخلود سائر ، ولا الناس به منتفعون ؟ اهو حيال ضرب من ضروب الفن النثرى الرفيع الذى معياره الكيف فى سبكه ووضوح افكاره ، وبيان الهدف الرئيسى لكل فصل يصافح الناس

أم هو يواجه أثاثا عتيقا معروضا للبيع فى اطار يأسر الانظار ولكنه خلو او يكاد من معاني الرفعة الفنية الممتازة . لا انكر ان الاستاذ مازيغ يتمتع برصد ضخم من اللفظة الشفافة والعبارة العميقة ، والمقطع البليغ المشحون بالنغم الموسيقى الاخاذ ، ولا انكر كذلك ان السنين الطويلة التى قضاها دارسا ومدرسا ينظر في امهات المصادر بوعي وتفكير عميقين لا انكر هذا فأنا مقتننع سلفا بان قلم الكاتب اقوى من أن يمرع في حضيرة جل حصيلتها لفظ فارع واجترار ممل ولكن تأتي الرياح

وانه لا يكفي في خلود الاثار الفنية والارتفاع بها عبارة منمقة او سجع موقع . فالتعابير ليست هي كل الفن في الكتابة ولو انها حتى من اجزاء الجمال ، لكن المنتج اللبق لا يحسن به ان يجعل همه ركضا متواصلا وراء الالفاظ الضخمة ، والكلمات الداوية

الكاتب الفنان او بالاحرى المتفنن هو الذى يطبع اثاره ويصبغها وألوان متنوعة اصدق عناصرها : هدف مضبوط ، وعبارة سهله ، ، فكرة منسجمة ، وعاطفة حساسة صافية

. وبعد فلندخل مع الاستاذ في فصوله فلقد عاهدتكم الا أسوق رأيا دون وضع الدليل الى جانبه .

في فصلى لحية ابي علي ص 21 و " اقتربت الساعة ص 44 تشابه فى الحوار كبير مع أن الفكرة تكاد تكون واحدة وليس هذا من عيوب الاسلوب فقد يضطر الكاتب ان كان يرسم على الواح متباينة من الحوار قد يضطر إلى اعادة الفكرة نفسها ، ولكن الذي يلفت النطر حقا التعليق الذي ذيل به كل من الحوارين .

اقرأ معي في صحيفة 21 . كانت الاحاديث حائمة اذن حول أحسن طريقة لتسميد الجلبان ، واقرب أسلوب لتوفير البصل والباذنجان ، وانجع وسيلة لكبح دود الخس ، والايقاع بفراش البرتقال الى غير ذلك من المجامع البريئة الحرية يجب كل خير فيما يذهب اليه معظم الرفاق . ثم اقرأ من ص 44 بعنوان " اقتربت الساعة " واغتنم الجماعة انتهاء المعركة ، وهدوء الملحمة ، فطفق افراد

منهم يتحدثون عن أسعار الزيت والتمور وشؤون المطر والصحو ، وخاض الآخرون في غراسة الاشجار ، وتناول فريق مشكل تفاقم الغلاء ، وتضخم الاسعار ، وتصاعد أصوات الخلق بالتذمر والاحتجاج ، كل ذلك وأبو العباس ينظر الى رفاقه بعين ملؤا الشفقة والازدراء ويرمقهم بطرف كله امتهان واستخفاف لبلادة عقولهم وسفه احلامهم ، وسخف حوارهم كانما لسان حاله يقول : استبدلوا الذي هو ادنى بالذى هو خير - يالهم فى نظره من قوم صغار العقول سفهاء الاحلام ، قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة حقا وباؤوا بغضب من الله بمنطوق آية كريمة تنطبق عليهم كل الانطباق من فرط هذه الغباوة والجهل ولكن ما العمل وقد عشقوا السفاسف والفوا الحماقات ، ورقدوا فى مضجع الضلال والخسران ، الخ .

أى فكرة صحيحة واضحة يستطيع أن يظفر بها القارىء من تلاوته لهذين المقطعين ، ثم أى اضطراب فى المواقف هذا الذى نشاهد وماثار أبو العباس ، ولا تأفف في حديث الجماعة الاول ، وهو يشبه تماما حديثهم الثاني فلم هذه الهجومات التى لا مبرر لها فى لغة غير نظيفة . اننا لم نسمع صوت أبي العباس ولكن المؤلف قوله ما اراد ، ومن الغريب حقا أن يثور أبو العباس ثورته تلك وهو الفيلسوف الذي عودنا الرصانة والهدوء يثور لمجرد حديث طبيعي وعادى يجرى على كل لسان . ثم ألبس افراط هذه اللغة النابيه ، والنعوت المستهجن التى تصفع جماعة تغلب عليهم روح التقى ، وينهج بهم مستواهم العلمي نهج الرشد والتعقل والتفكير . اذن كيف يصح ان يصفهم ابو العباس : بأنهم صغار العقول ، سفهاء الاحلام ، قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة حقا وباؤوا بغضب من الله حتى : أبو عثمان يا استاذ !

. أليس هذا من مصائب الجرى وراء العبارة المنمقه ، واللفظة الضخمة تلك التى اخرجت صاحبها عن موضوعيه البحث فى جل الكتاب ، ولو انك سيدى القارئ الكريم سمحت لنفسك - وهو ما ادعوك اليه ملحا - فعدت الى فصول الكتاب دارسا منقبا كل فصل ، محاولا بذلك الوصول الى موضوع بعينه ، او فكرة واضحة يهدف اليها الكاتب في ادارة الحوار لخرجت من محاولاتك تلك خروج المتبنئ من مصر ، يهرف بالولاية ويحلم بالمجد الموهوم . وفي النفس حاجات ، وفيك فضائل

وها نحن أمام فصل اقتربت الساعة ، وها نحن نطوي صفحات ست دون أن نعثر على ما يشير الى اقتراب هذه الساعه . او يشير على الاقل الى ملامح هذا الاقتراب ، اللهم الا الواح متناثرة في حوار مفكك حول الزندقة والمتزندقين ، واجترار كلام من فصيلة هذا النوع " قال أبو الصقر : على حد قول شاعر من اصدقائنا نابغة فى بابه " وحيد في أضرابه

غرنق الغرنوق في ليل الدجى         مشعرا بأن فى الكون خور

وعند فصل خاتمة المطاف ص 93 يتجلى تشويش الافكار واضطرابها واضحا ، فقد بدئ الفصل بشرح بعض ابيات شعرية لابن ابي اصيبع براحي أن العرب ؛ ثم عاد بنا الكاتب فى وسط الفصل الى الحديث من جديد عن اقتراب الساعة وقد فصل ذلك بأدلة من الاثر النبوى الشريف الشئ ننتظره فى فصل " اقتربت الساعة " ص 43 لا في خاتمه ٩٦ وفي نهاية خاتمة المطاف هذا يدمجنا الاستاذ ضمن السياسية ويلمح الى شئ ماكنا نود الاشارة اليه او دره لانه مشكوك في وقوعه اصلا ، والكاتب العريق إنما يكتب للتاريخ والاجيال فمن اوكد سماته إذن التحرى التام في عرض بعض القضايا

قال الكاتب : واغتنم أبو العباس الفرصة لشن غارة على اعداء الطلبة من رجال السياسة المحرشين المتلونين كما وصفهم " ص 100 . أشك مطلق الشك في أن كان بين رجال السياسة والطلبة عداوة ما في تاريخ تونس المعاصر . اذ لئن كان هؤلاء السياسيون الدين اشرب اليهم من رجالتها حقا فهذا لم يقع تماما ، وان كانوا من زعانفها المتطفلين عليها " المتحرشين المتلونين ، الذين باعوا ضمائرهم للشيطان وباتوا يصطادون في الماء العكر فما كان يجدر ان تصفهم برجالها وما اعارهم تاريخ الثورة التونسية اهتماما فقد سحفوا تحت نعال القافلة السائرة الى الامام دوما واستمرارا .

بقى أن أعرج على موضوع اكيد أعتقد انه ادخل على التأليف ضعفا كبيرا من الناحية الصناعية الفنية وهو لغة الحوار التي كانت تسوق أبطال " بين عصرين دون استثناء ، يضاف اليها السجع المرتل .

أما لغة الحوار وهي عندى العمود الفقرى فى لحمة هذا التأليف وكيانه فقد ظلت متشابهة جد التشابه ، رغم اختلاف الاشخاص ، ورغم اختلاف شعورهم فى الحياة ، ونظرتهم للحياة ، ومذهبهم في الحياة . رغم كل هذا التباين فإنك لتشعر عميق الشعور بوجودك امام محدث واحد فى اللهجة واللفظة والاسلوب ، الامر الذى يدعوني احيانا الى اعادة النظر في حوارين او اكثر بعدت بينهما الفصول وطويت خلالهما الصفحات ، ومع ذلك فالقدم واحدة والنعل هو ، هو . وعندى أن سر نجاح أى اثر من الاثار المركزة على الحوار في طريقة التعبير ، وسياق الاسلوب كاختلاف المتحاورين شعورا وطباعا . لكن اقرأ فى صفحة واحدة وفصل واحد " ملتقى الوجود والعدم :

قال ابو عثمان : اللهم عفوك وغفرانك ، ان السيل بلغ الزبى ، وان الكفر جاوز المدى ، فمن أين لك هذا الادعاء .

وقال أبو مسلم ليس ذلك باول كذب يختلفه طائفة النظامين ، بل ليس هو أول ادعاء لأؤلائك المجانين " ص 54 .

وحتى الشاب الوجودى الثائر على كل عتيق لم يفلت من قيد الاوابد السجعية . . قال الشاب الوجودى فى نفس الفصل معلقا على أبى عثمان وأبى مسلم قال : " ان من خاصة الشعر وميزته التى تفرد بها ، أن يكون الفقر المدفع ، والقفر البلقع ، والمهملة الخلا ، واليباب والفنا ص 56

وهكذا نجد نفس النغم في جل الفصول - ان لم نقل كلها - حدث يسير فيها الحوار ضمن لغة رتيبة واحدة مما يبعث على الملل والفتور ، اذ يصبح القارىء وكأنه أمام عرض واحد مكرر لا تبديل لصوره وسحناته ، ولا تغير لجوهره وملامحه ، وهذه احدى مصائب الانتاج الحواري اذ اغلبه يأتي غير موفق فى لغة الحوار فنيا .

اما موضوع السجع الذي لازم " بين عصرين " من مطلعه حتى منتهاه فالادلة عليه اكثر من ان تذكر في عرض وجيز كهذا . اقرأ فى ص 70

حتى خيل للجماعة انهم يسبحون اثر شيخنا الجليل ، فى مجرى ليس يدرك له من ساحل ، او يضبط من غور ، او أنهم يخترقون غابا متعدد المسالك ؛ ملتوى الشعاب ؛ متباعد الامطار والاغوار ؛ متباين القطوف والثمار ؛ متكاتف الظلال والاشجار .

وفى ص 96 انه ما افضى مطلقا الى اقتلاع الاثم والعدوان ؛ واكتساح الظلم والطغيان ؛ وابادة التناحر والشنان ؛ واى ثمر جنينا من تضخم البنيان ؛ وتكاثر بني الانسان ؛ اللهم الا الويل والخسران ؛ أ . كيف تصلح انسانية توحدت في قبضة الشيطان ؛ وتباهت بالفسوق والعصيان

وفى ص 112 جامع اشتات الاقطار ؛ ومزالق التاريخ في مسيره على تعاقب الاعصار ؛ وتباعد الامصار ؛ " قيثاره اصداء ؛ ومجتمع اجناس واهواء ؛ حليف كل ذى خسارة وباس ؛ ورفيق العزم وصلابة المراس ؛ وطريق أولى الهمم البعيدة من الغزاة والمكتشفين ؛ واداة الخلق والتجدد بأمر رب العالمين

ألا تذكر هذه الشطحة القادرية واضرابها بأسلوب كاتب ابن بطوطة الذى اتخذه ليملى عليه رحلته الميمونه فى عصر طغي فيه هذا الضرب من الاسلوب فى الكتابة . قال فى الصحيفة الرابعة من الرحلة المشار اليها :

وتفردت الاشارة الكريمة - يقصد اشارة الخليفة أمير المؤمنين أبي عنان فارس - أن يملى ابن بطوطه ماشاهده فى رحلته من الامصار ؛ وما علق بحفظه من نوادر الاخبار ؛ ويذكر من لقيه من ملوك الاقطار ؛ وعلمائها الاخيار ؛ واوليائها الابرار ؛ فاملى من ذلك ما فيه نزهة الخواطر ؛ وبهجة المسامع والنواظر

. . وبعد فإن بين عصرين تجلت فيه بوضوح مقدرة الاستاذ مازيغ في عرض الحوادث على الصعيد الحواري ولكنه باهت فى عرضه ارتجالي في اسلوبه وان ما قلته فيه من : أنه الرائد الاول الذي يرفع مشعل نهضتنا الادبية الحديثة لاؤكده رغم كل ذلك مطلق التاكيد بعد هذه الجلسات المقتضبة لايماني بكفاءته فى خلق ادب مثالي خالد مع الاجيال والتاريخ ، ولكن السلام عمل وصبر وايمان ، وأني لاحييك يا سيدى في النهاية تحية مارون عبود للشيخ فؤاد حبيش وأعيد فيك قوله

السلام عليك وعلى عصابتك وعلى ما حبلتم وستحبلون بلادنس ، هذا العرض تكريما ان هو الا وقفة في اول العقبة ، فطريق الادب طويل اطول من دهر المعرى فإلى الامام ، دائما إلى الامام ،

اشترك في نشرتنا البريدية