عرض : محمد العربى عبد الرزاق
نتميز البلدان فى هذه المعمورة بما يتميز به الافراد من البشر من حيث الخصائص الطبيعية ومن حيث الميزات الخلقية الناشئة عن امتزاج الحضارات وتكامل عناصر المعرفة والثقافة من موارد متعددة ومصادر مختلفة . فكثيرا ما يكون مصير البلاد شبيها بمصير الانسان فى جمال المظهر ، واعتدال الطبع ، وسعة الارجاء والصدر
ولئن كان التصدى لكشف خبايا نفس الفرد ، والاطلاع على خصائصه فى وحدانيتها وفى اشتراكها مع خصائص المجموعة امرا يتصف بقدر من العسر فان محاولة دراسة خصائص البلاد الذاتية ، والاطلاع على دقائق ميزاتها الثقافية والحضارية اشد عسرا واكثر للباحث اجهادا
ولهذه الاسباب وغيرها ، كانت كتب تاريخ الحضارة فى بلاد بعينها ، او فى مجموعة من البلدان ، كتبا نادرة نسبيا ، اذا اقتصرنا منها على الكتب الجدية العلمية التى يأخذ اصحابها انفسهم فيها بما يجب ان يؤخذ به مؤرخ الحضارة من موضوعية وسعة اطلاع وجمع لافاق المعرفة واشتات الاذواق في مختلف ميادين الفنون الجميلة والعلوم النقلية والعقلية والمناهج التقليدية والمعاصرة
هذا وان نحن حاولنا ان نبحث عن بعض المؤلفات الجيدة عن تاريخ الحضارة التونسية ، فانه سرعان ما يتضح لنا خلو المكتبة التونسية من كتاب جامع لتاريخ الحضارة ببلادنا ، بل ان اقصى ما يمكن الباحث الوصول اليه هى كتب للتاريخ الاصطلاحى الضيق وضعت فى تاريخ المغرب العربي بصفة عامة ، وكتب اغلبها بلغات غير لغة البلاد . فكانت على جلال قيمتها تتصف بعيبين اساسيين لا مفر منهما بحكم الوضع :
الأول : عيب الانحصار فى نطاق التاريخ بمعناه التطورى فى الزمن
والثاني : استحالة اطلاع المؤلفين من ذوى اللسان غير العربى على اصول ووثائق مخطوطة نادرة محررة بالعربية وموجودة فى بعض المكتبات الخاصة
ولئن كان على المؤرخ الصرف ان يتحرر من محيط الاحداث والعادات والتقاليد ، لكي يصبح موضوعيا فينظر الى الامور من الخارج او من اعلى ، فان مؤرخ الحضارة مرغم على ان ينظر الى الامور من الداخل ومن الخارج معا حتى يتفاعل مع الاحداث ، ويحس مظاهر حضارة بلاده احساسا باطنيا يكون تكملة للنظر الموضوعى ، وترويجا للاسلوب العلمى باسلوب قريب من لغة الادب والفن
وبهذه النظرة من الداخل ومن الخارج ، وبهذا الاسلوب الجامع بين جد العلم ونفحات الفن والادب ، تصدى الاستاذ الكبير حسن حسنى عبد الوهاب لدراسة الحضارة العربية بهذه البلاد التونسية
ولقد اصدر الاستاذ الكبير منذ اشهر كتابه الذى جعل عنوانه ) ورقات عن الحضارة العربية بافريقية التونسية ( فجاء القسم الاول منه فى اربعمائة وخمس وسبعين صفحة من قطع الثمن الكبير ، واخرج فى طبعة انيقة جميلة الورق والحروف .
وكتاب ) ورقات ( ليس كما يظنه بعض القراء الجزء الاول من الكتاب الذي عرف الان باسم ) كتاب العمر ( ، انما هو مجموعة من الفصول والمقدمات المقتبسة منه . فلنترك المؤلف يتحدث فى مقدمته عن هذه الورقات فيقول :
" هذه ورقات اقتبستها من كتاب افنيت فيه عمرى ، واستنفدت صبرى وقضت في جمعه وتدوينه زهاء خمسين عاما على الولاء " . . ثم يواصل المؤلف قائلا بعد فقرات :
" وكان صفوة من الاخلاء والرفقة يستحثوننى فى شأن هذا الكتاب ويتقاضوننى ان اخرج به الى الناس . . وظللت وقتا ما بين أحجام واقدام حتى بدت في شأن الكتاب فكرة تلك هى ان ابادر الى نشر المقدمات التمهيدية لمباحث التاريخ وصنوف العلوم تعجيلا للنفع بها ريثما ينتهى اعداد جملة الكتاب ، كتاب العمر " .
هذا ما قالة الاستاذ المؤلف في تقديم هذه الورقات من كتاب العمر . ونحن نريد اولا ان نقف عند هذا العنوان الذى اختاره المؤلف لكتابه ، ذلك ان عبارة كتاب العمر ( تؤدى بدقة ما عرف عن الاستاذ الكبير من تعلق متين بهذه
الكائنات الخاصة التى تتمثل فى الوثائق سواء منها نوادر المخطوطات او نفائس النقوش من بقايا عصور ماضية اصبحت عندنا بمثابة احلام ذهبية .
وعنوان المؤلف يؤدى ايضا بكامل الدقة شعور الحب والعطف الذى يكنه المؤلف نحو كتابه الذى يعتبره خلاصة عمره واثره الذى سيكون خير خلف له وخير دال عليه .
وهذا الجو العاطفى الذى يصوره مجرد عنوان الكتاب هو الذي جعل هذه الورقات المقتبسة منه تعكس اتجاهات ثلاثة
واول هذه الاتجاهات هو الاتجاه الادبى وهو من اهم ما يلاحظ فى الورقات اذا لم نقل انه الميزة الغالبة فيها . ولسنا نعنى بالادب مجرد موضوع البحث انما نقصد ان المؤلف اديب اصيل فى اسلوبه وفي الطريقة او المنهاج الذي يتبعه فى بحثه حتى ان القارىء يشعر بقرب الصلة بين اسلوب استاذنا ومنحاه وبين اساليب كبار شيوخ العربية وخاصة منهم الجاحظ فى جده المتين وفى خفة استطراداته المنهجية .
اما الاتجاه الثاني فهو فى نظرنا الاساس الذى يقوم عليه الكتاب كله ونعنى به الاتجاه التاريخي العلمي في رصانته وثباته واعتماد خواتمه على مقدماته وتسلسل المعلومات فيه حسب ترتيب محكم يتضمن التعرض الى العلوم فى فترة معينة من تاريخ البلاد حتى انقضاء الفترة فيكون الاطار موحدا وتكون النظرة موضوعية . ولا يفوت القارىء الكريم ما بين هذا الترتيب وترتيب كبار المستشرقين مثل بروكلمان فى تاريخه للادب العربى من تشابه
اما الاتجاه الثالث والاخير فهو ايضا من اهم الاتجاهات فى كتاب العمر وهو الذى يفسر لنا وجود كتاب الورقات . نعنى بذلك الغاية التى كتب من اجلها الكتاب . وليس ادل على هذه الغاية من قول المؤلف نفسه فى مقدمته متحدثا عن بعض الاصدقاء : " يرون الحاجة اليه ملحة ولا سيما فى هذا العصر الذى تنهض فيه البلاد التونسية نهضتها المرموقة مواكبة ما فى الشرق وشتى البلاد الاسلامية من نهضات جسام حتى يكون الكتاب بين ايدى النشء الجديد والجيل الطالع يهز اشواقهم الى احياء تراث العروبة وابتعات مجد الاسلام ويبصرهم فى ! سيرهم الحاضر بما شاد اسلافهم من حضارة معمرة وما افادوا من علم نافع وما سلكوا في الحياة من طريق مستقيم . ثم يواصل الاستاذ المؤلف قائلا : " وارجو ان تلقي هذه التمهيدات من النابتة الجديدة اقبالا يزيد به التونسيون المحدثون ارتباطا بماضيهم الخالد ويتلمسون فيه عونا على مستقبلهم الزاهر فانى لاومن اصدق الايمان بان جذورنا المتأصلة فى تاريخ اجدادنا وثيقة الصلة بوعينا القومى الحديث . . . "
ومن كلام المؤلف هذا يتضح لنا ان الغاية التربوية المدنية لها نصيب كبير فى الكتاب لان تاريخ الامم هو اساس كيانها الحاضر ولا خير فى امة تجهل دقائق حضارتها وعينات تاريخها . .
وبعد هذا العرض الموجز لكتاب الورقات نود أن نقف بالتحليل والنقد عند بعض النواحى الاساسية الواردة فى هذا الكتاب .
واول ناحية نقف عندها من هذا الكتاب هى ناحية طريقة تاليفه . فلقد اختص المؤلفون العرب منذ العصور القديمة بانهم يقصدون من مؤلفاتهم ان تكون دواوين جامعة لكل ما اثر عن قومهم من اعمال ومن معارف فى مختلف العصور التى سبقتهم وفى مختلف الميادين التى تتفرع اليها الحياة والحضارة . فكانت كتبهم دواوين جامعة ولكنها لم تكن منظمة تنظيما علميا بالمعنى الذى نعرفه اليوم ، بل كانت مادة خاما تحتاج فى غالب الاحيان الى الدرس والنقد والتمحيص حتى توضع موضع الانتفاع بها
وقد كانت الصبغة الادبية بمعناها الخاص الذى يصبح الادب فيه عادة حضارية وتصبح الكتابة عنده ضربا من الحديث ، غالبة على كل ما يؤلف من كتب سواء كانت ذات طابع ديني او ذات طابع تاريخي حضارى . وبهذا المعنى يقول النقاد اليوم ان كتبا مثل سيرة ابن هشام وصحيح البخارى وتفسير الطبرى وتاريخ البغدادى ورحلات الجغرافيين العرب كلها تعتبر كتب ادب .
ونحن اذ نتحدث اليوم عن هذه الصبغة الادبية الغالبة على المؤلفات العربية القديمة واذ نحاول بعد حين استخلاص اهم خصائص هذه الميزة الادبية لا نريد بذلك حديثا يكون مجرد قول عام لكنا نمهد به لبعض الميزات الاصيلة التى عثرنا عليها فى الكتاب الذى نتحدث عنه لانه هو ايضا فى نظرنا كتاب ادب بالمعنى القديم قبل ان يكون كتاب تاريخ
فمن ابرز خصائص الطريقة الادبية فى الكتابة عملية الجمع والتدوين لعدد كبير من المعلومات التى يربط بينها مبدئيا موضوع موحد لكنها تؤول فى غالب الاحيان فى كتب الادب الى نوع من الحديث الحر المعتمد اولا وبالذات على توارد الخواطر .
ثم ان من اهم ميزات الطريقة الادبية عدم التعمق النظرى فى موضوع بعينه فى موطن واحد من مواطن البحث
ذلك ان الكاتب يكتفى فى غالب الاحيان بعدد من التلميحات والاشارات المتفرقة التى يتعين على الدارس جمعها ومقارنتها للخروج براى عام مدقق حول مقصد الكاتب .
ويعود السبب فى تعدد هذه اللمحات وتوخى الايجاز فيها الى ان الكاتب الاديب يعتنى باسلوب كتابته من حيث الجمال والبلاغة والتزويق بقدر بضاهي اهتمامه بالموضوع او يفوقه وكتاب الاستاذ الكبير حسن حسني عبد الوهاب يتصف بقدر لا باس به من هذه الخصائص الادبية فهو اولا كتاب جمع فيه مؤلف كل ما استطاع ان يدونه وان يجمعه من معلومات متفرقة فى بطون الكتب المخطوطة والمطبوعة النادرة الوجود او موجودة ضمن نقوش اثرية او نقود تاريخية قديمة .
ثم ان الاستاذ المؤلف قدم لنا هذه المعلومات الثمينة النادرة فى اسلوب انيق جميل زينه باساليب البلاغة وزوقه ببعض طرق البيان
وناحية ثالثة هى ان المؤلف قد راى نفسه مضطرا - وهو يخرج للناس كتابا ممهدا لكتابه الكبير - ان يختصر كثيرا من الفصول وان يقتصر على عدد من التلميحات والاشارات التى قد يغلب عليها الايجاز الفني احبانا وقد يغلب عليها الاختصار المنهجى
ونريد فى هذا المقام ان نسوق فقرة بدا بها الكاتب حديثه عن انبثاق الحضارة وعن افاق تونس لانها تصور فى راينا هذه الصبغة الادبية احسن تصوير . يقول الكاتب فى الصفحة الخامسة عشرة من الكتاب : ان شأن هذا البحر المتوسط لشان عجيب مهد الحضارة ومبعث الرسالات ومنبع الشعر والفن والسحر
البحر المتوسط قلب الدنيا النابض وفلك العالم الدائر وقطبه المنير . على ضفافه الهادئة المعتدلة نشات مدنيات ومدنيات قديمة وحديثة وظهرت ايات التفكير البشرى وعجائب الحقائق ونبعت معجزات سرمدية . .
فى هذا البحر الخالد وفى نقطة الوسط منه تقع البلاد التونسية فتجعل سطحه نصفين مستويين ، تبارك الله احسن الخالقين "
هذا ايها القارىء الكريم انموذج من الاسلوب الفنى الذى نجده فى عدة مواطن من الكتاب والذى يتسم فى كثير من الاحيان بلهجة خطابية تعليمية معا .
وقد يتبادر الى ذهن القارىء انا نقصد باشارتنا الى هذه النقط المعينة من الكتاب الى الغض منه . ونحن نبرا الى القارئ والى الاستاذ المؤلف جميعا من هذا الظن ونقدم بين يدى ردنا هذا حجتين على الاقل :
الاولى ان الطريقة الادبية فى الكتابة ليست نقصا اذا كان صاحب الكتاب قصدها فاصاب ، بل نحن نجزم بانها من الطرق الخالدة فى الكتابة لان تقديم العلم فى قالب ادبى ليس بالامر الهين
اما الحجة الثانية فهى تعود الى ان كتاب الورقات قد تجاوز الطريقة الادبية القديمة باشواط بعيدة لانه كتاب علم وادب معا . نعم انك لتجد بالكتاب النصوص القديمة وتجد به الشعر الى جانب النثر والرواية وتجد العلماء والادباء منزلين فى منازلهم طبقات ، ولكنك الى جانب ذلك كله تجد دقة الملاحظة وعمق الاستنباط والاستقراء ، ودحض الحجة بالحجة ، واستعمال الاساليب العلمية الموضوعية التى اصبحت نجاعتها لا تحتاج الى اقامة الدليل .
وانما اقصى ما يمكن ان يؤاخذ به كتاب الورقات هو انه مكون كما يقول كاتبه من مقدمات تمهيدية لمباحث التاريخ وصنوف العلوم بادر صاحبها الى نشرها تعجيلا للنفس بها ريثما ينتهى اعداد جملة الكتاب ، كتاب العمر
ونحن اذا نظرنا الى الكتاب من هذه الزاوية فانه لا يسعنا الا ان نبدى اعجابنا بما بذله مؤلفه فيه واستبشارنا بما سيكون فى الكتاب الاصل كتاب العمر من ذخيرة بالنسبة لتاريخ هذا الوطن وحضارة هذه البلاد
