... هذا كتاب ضخم وموسوعة كبيرة الحجم : Encyclopedie يشتمل على العلوم الادبية والجغرافية والتاريخية وعلى أولية من كتب فى الموشحات والازجال الاندلسية والمغربية ، ومن عنوان الكتاب نرى أنه يتصل بتاريخ أجدادنا المغاربة الذين كانوا شديدى الصلة بتدوين كل ما يحدث فى تاريخ اوطانهم ايام الحفصيين فى تونس والتى كانت يطلق عليها آنداك " افريقية " .
وكتاب " المغرب " الف بالموارثة فى مائة وخمس عشرة سنة تداول عليه بالتاليف ستة من علماء الاندلس :
أبو محمد الحجاز وعبد الملك بن سعيد وأحمد بن عبد الملك ومحمد بن عبد الملك وموسى بن محمد وعلى بن موسى ابن سعيد .
ولاهمية الموضوع اردت التعريف بهذا الكتاب لدى قراء مجلة الفكر ولأسرتها وسأركز التعريف على " على بن موسى" ابن سعيد وهو آخر من اتم هذه الموسوعة
الضخمة وقد لقى حفاوة كبيرة بين علماء تونس وادبائها وشعرائها ومفكريها لان على بن موسى هذا أول من ادخل علم الجغرافيا وعلم التاريخ فى علم واحد متصل بالاشعار سواء كانت موشحات او ازجال أو مقتطفات عن طريق الرواية الشفوية أو بزيارة المكتبات وتتبع الآثار عن طريق المشاهدة او السماع وكتاب " المغرب" نفسه ينقسم الى ثلاثة أجزاء : " وشى الطرس في حلى جزيرة الاندلس " للجزء الذي كتب عن الاندلس وقسم " للمغرب والجزائر وتونس " واطلق عليه " نفحات العنبر فى بلاد البربر " وجزء فى البلاد المصرية واطلق عليه " بلاد الاكليل فى حلى بلاد النيل " ولاول مرة فى التاريخ توضع مصر تابعة للبلاد المغربية باعتبارها جزءا يشرف على البحر الابيض المتوسط .
خلاف بين المؤرخين فى تسمية الكتاب
لو عدنا إلى كتب التراث المتحدثة عن التاريخ والحضارة والسير لرأينا ان هذا الكتاب اخذ اسماء عديدة ومختلفة بعض الشئ فى الجوهر لا فى المعنى فقد سماه ابو المحاسن ابن تغرى بردى فى " المنهل الصافى " المغرب فى اخبار اهل المغرب " وسماه ابن شاكر الكتب فى فوات الوفيات "المغرب فى اخبار المغرب " وسماه حاجي خليفة فى كشف الظنون عن أسماء الكتب والفنون " المغرب فى محاسن حلى اهل المغرب " (1) وذكرانه فى نحو خمسة عشر مجلدا الف لمحيى الدين محمد بن محمد الصاحب بن ندى الجزري (2) .
منهج كتاب المغرب فى حلى المغرب :
لقد ألف هذا الكتاب بالموازنة فى مائة وخمس عشرة سنة ستة من علماء الاندلس وصدر عن آخر هؤلاء العلماء " ابن سعيد " وكان هؤلاء على الرغم من كونهم مغاربة من قلعة يحصب بغرناطة Alcala la Reol كانوا جميعا ينظرون الى " المشرق " و " المغرب " نظرة عالمية ونظرة شمولية واسعة فعلى الرغم من تأليف كتاب " المغرب " الفوا أيضا كتابا يضاهيه فى التاريخ والحضارة عن المشرق وسموا التصنيف بهذا الاسم :
" المشرق في حلى المشرق " "والمغرب فى حلى المغرب " ورسموا على المشرق صورة للكرة الارضية والبحار ماخوذة عن بطليموس (3) والملاحظ أن اجزاء " المغرب " اغلبها صدر وطبع وازيح عنها الغبار فقد صدر الجزء الاندلسي : وشى الطرس فى حلى جزيرة الاندلس " . وصدر الجزء المصرى " بلاد الاكليل فى حلى بلاد النيل " بينما الجزء الخاص بشمال افريقيا والمسمى بكتاب " نفحات العنبر في بلاد البربر" مازال ضائعا وهو يؤرخ الحياة البربرية التونسية الى ايام الدولة الحفصية ولو عثرنا على هذا المخطوط فى البلاد المغربية عامة والاندلسية لغير الكثير من الاحداث التاريخية وتصحيح الوقائع لانه يعتمد فيه صاحبه على المشاهدة وعلى الرحلات وعلى زيارة المكتبات الخاصة والعامة لان ابن سعيد واسرته الاندلسية لقوا جميعا المعونة فى الديار التونسية ايام الدولة الحفصية ، وكم كان عنصر المشاهدة حيا فى فن التاريخ يزخر بالواقعية وبالشعور والاحساس للاحداث ووصفها فهى فى وقتنا هذا عبارة عن تسجيل أو وثيقة يمكن الاعتماد عليها فى الحكم على ما تمليه الحياة التى تعتمد على المشاهد بدل التهويل والتكبير والادعاء .
والكتاب في منهجه بصفة عامة مرتب حسب البلدان الموجودة على الكرة الارضية اقصد بذلك " المشرق والمغرب " وكلما ذكر في التصنيف البلد ذكرت قاعدة الملك أو " الكورة " ويبدأ ابن سعيد بكرسي مملكتها وقاعدة ولايتها ثم يتحدث عن كل بلد ومن بناها منذ البداية وما لهذا البلد من انهار أو حدائق او منتزهات أو ثروات معدنية او نباتية ثم يقسمها الى خمس طبقات كل الذين سكنوا في هذه البلدان او " الكور " : وهي خمس طبقات :
أولا : طبقة الامراء ثانيا : طبقة الرؤساء ثالثا : طبقة العلماء ، رابعا : طبقة الشعراء ، خامسا : طبقة اللفيف وهي مخصوصة بمن كان له " موشحات" و"أزجال " أو " والدويت " أو "المواليا " أو "الكان ما كان "وغير ذلك من القصص الاغاني والنكتات التى كثيرا ما يتسلى بها الامراء والرؤساء فى أوقات فراغهم بعد قيامهم بواجياتهم الوطنية فى المناسبات الخاصة والعامة .
ولو اخذنا نمط منهجية " المغرب " القسم الاندلسي فى التاليف رأينا ابن سعيد يؤلف كتابه ويشبهه بشجرة كبيرة تخرج من جذعها فروع مختلفة ،
وتخرج من الفروع غصون كبيرة وتخرج من الغصون الكبيرة غصون صغيرة وتخرج من الغصون الصغيرة أوراق متنوعة ومن هنا كان منهج تأليف هذا النص معقدا وخاصة أمام كلمة " كتاب " تتردد على كل غصن وكل ورقة ثم يخرج بعد ذلك الى كور الاندلس كورة كورة وقد سمى هذا القسم " كتاب وشي الطرس فى حلى جزيرة الاندلس". ثم رجع فقسم الأندلس الى "غرب " و"وسط" وشرق " وافرد لكل قسم كتابا : فسمى كتاب " المغرب " كتاب الطرس فى حلى جزيرة الاندلس وسمى كتاب الوسط " كتاب اشفاء اللعس في حلى موسطة "الاندلس " وكتاب المشرق " كتاب الانس فى حلى شرق الاندلس " ثم اخد يقسم كل كتاب من الكتب الثلاثة الى ممالك " وقسم كل مملكة الى كورها المختلفة ووزع على ذلك كله الطبقات الخمس التى سماها فى مقدمة المشرق ، وكل مملكة بل كل كورة بل كل بلدة فى كورة نجد لها كتابا مفردا . وقد قسم المغرب الى سبعة ممالك (4) .
هذا باختصار عن المنهج العلمي الذي سلكه ابن سعيد فى تأليف كتاب " المغرب فى حلى المغرب وهو على ما يبدو منهج صعب وعقلاني ومنطقي يعتمد على جغرافية الارض وتقسيمها ثم ينتقل بالحديث عن "ملوك " و "رؤساء" "وعلماء" "وشعراء " ولفيف " من سكنوا هذه الأرض معتمدا فى ذلك على الاسفار والرحلات العلمية والاطلاع المباشر على المكتبات الخاصة والعامة والجلوس مع الشعراء والعلماء والاخذ منهم مشافهة وتسجيل فى كراسته كل الملح والازحال والموشحات والاحداث التاريخية الموثوقة ، ومنهجه كما ذكرت متدرج يبتدى بالاهم طبقة عن طبقة شأنه فى ذلك شأن الشجرة فالجذع هو الاصل ثم الاغصان ثم الفروع ثم الاوراق وهكذا الى ان يتمم التصنيف ، مقدما الاهم عن المهم مع التدرج في المنهجية والهيكلية ...
... وهذا النوع من التصنيف يمتاز به مؤلفو المغرب " عن سائر غيرهم من المؤرخين الذين يعتمدون على التواريخ والاحداث والايام ، فمسلك ابن سعيد فى التاريخ والجغرافيا والادب هو تجسيم المعلومات على الخريطة الجغرافية لكل " كورة " او منطقة من الديار الاسلامية او المسيحية مع انه لا يغفل التاريخ وتسجيل الاحداث لانه دائما يبتدى بالمدينة العتيقة وتطويرها وانجازات ملوكها واصلاحات المشرفين على حكمها وسير دواليبها عبر التاريخ والاحداث الحضارية
تقييم كتاب " المغرب " "فى حلى المغرب "
نص كتاب " المغرب" يقدم للباحثين معلومات عن بيئات بلدان الاندلس والمغرب وتونس ومصر كما بين رجال الحكم والسياسة والامراء والوزراء والكتاب والفقهاء والقضاة والاطباء والوشاحين والزجالين هذا وإن النص الذي اورده ابن خلدون فى المقدمة عن الازجال والموشحات منقول عن كتاب "المقتطف" من ازهار "الطرف " لعلى بن سعيد الذى يخص ما كتبه اسلافه فى هذا الشأن من المغرب كما ان المقرى صاحب نفح الطيب نقل الكثير عن مغرب ابن سعيد .. هذا بالاضافة الى النص يحتوى على قيمة فنية لا تقل عن القيمة التاريخية ، وقد درس المغرب العديد من العلماء والشعراء وها هو كمال الدين ابن العديم يردد ابياتا قالها الشاعر التونسى أبو العباس التيفاشى ايام الدولة الحفصية قال :
سعد الغرب وأزدهى الشرق عجبا وابتهاجا " بمغرب " ابن سعيد
طلعت شمسه من المغرب تجلى فاقامت قيامة التقييد
لم يدع للمؤرخين مقالا لا ولا للرواة بيت نشيد
ان تلاه على الحمام تغنت ما على ذا فى حسنه من مزيد
مصادر كتاب المغرب فى حلى المغرب :
لقد احتوى النص على معلومات جغرافية وادبية وتاريخية عن كل كورة من كور الاندلس المختلفة ومن هذا الاختلاف والتنوع الشديد يمكن ان نحصرها فى ثلاثة انواع كالآتي :
أولا : عنصر المشاهدة : هام بالنسبة للمعلومات الجغرافية وما احتوت " كور " الاندلس المختلفة من نبات ومعادن وحدائق ومتنزهات . وقد فتح هذا الباب " الحجارى " وله حظ اوفر ويليه على بن موسى صاحبنا الذى انتقل فى اجزاء الاندلس المختلفة واعتنى بصيغ الموشحات والاشعار فى جميع المنتزهات التى زارها .
ثانيا : عنصر الرواية الشفوية : لقد اتيحت للنص هذه الميزة ولم تتح لاى كاتب اندلسي اذ تداول على النص ستة مؤلفين فى مائة وخمس عشرة سنة متعاقبة نراهم يتلقون تراجم الاشخاص الذين عاصروهم في القرنين السادس والسابع الهجرى فكانوا يلتقون بهم وينقلون طرائف اشعارهم وموشحاتهم وأزجالهم وكان على بن موسى المشهور بابن سعيد له قصب السبق فى هذا الميدان ، وهذان العنصران اعنى " المشاهدة " و " الرواية الشفوية " يقدمان
للنص حيوية شديدة اذ نقرأ نصوصا لوصف البلدان الاندلسية " وكورها " المختلفة معتمدين فى ذلك على " العين " المجردة كما نقرأ اخبار الامراء ووزراء وعلماء وشعراء وكتاب شاهدهم رواة المغرب وراوهم راي العين وسمعوا منها مسمع الاذن .
ثالثا : عنصر المصادر القديمة : وهي كثيرة جدا متعددة تعدد بلدان الاندلس وتونس والمغرب ومصر ، حتى الانسان اذا أحصى هذه المصادر يخيل اليه كأنه يتصفح مجموعة هائلة من مصنفات وبيبلوغرافيات دول " المغرب " كلها فى هذا العصر وما قبله وخاصة مصنفات القرن الرابع والخامس والسادس والسابع للهجرة واهم مصدر هو كتاب المسهب فى غرائب المغرب " للحجارى فهو الاصل الاساسي لكتاب " المغرب فى حلى المغرب " وأهم ميزة يمتاز بها مؤلفو " المغرب " الامانة العلمية فى الرجوع الى المصادر والمكتبات الخاصة والعامة التى قلبوها واطلعوا عليها على مرأى من العين وسمعوا منها مسمع الاذن .
ويلي المسهب من الجانب الجغرافي كتابات أحمد بن موسى الرازي (ت 344 ه) ويلي كتاب فرحة الانفس لابن غالب وهو من ادباء القرن السادس الهجرى " وكتاب المسالك والممالك " لابن حوقل وكتابات ابن حيان (ت : 469 ه) ويقع فى عشرة مجلدات . والمتين ويقع في ستين مجلدا ثم تاريخ افريقيا والمغرب للرفيق القيروانى مؤرخ فى القرن الرابع الهجرى ورسالة نقط العروس فى تواريخ الخلفاء لابن حزم (ت : 456 ه ) وتاريخ " غرناطة " للملاحى ( ت : 619 ه) الخ .. الخ ..
ولو احصيت هذه المصادر لبلغت بها عشر صفحات بعضها وصل الينا وبعضها الآخر أسقط من يد التاريخ وقد ذكر " على بن موسى " فى مؤلفاته التى رجع اليها قوله المشهور : " جنيت له بالموازنة ثمرات الكتب ومخضت فيه بالمظاولة زبد الحقب ، فلم تقصر يده على عصر من الاعصار .. فجاء كتابه راحة قد تعبت فيه الاسماع والابصار والايدى والافكار ... ولم يزل يقرن سواده وبياضه سواد الليل وبياض النهار" .
نقد كتاب المغرب فى حلى المغرب :
عندما اتم ابن سعيد تاليف كتاب " المغرب " جاء الى والده وقال يا ابتى ان بعض العلماء ينقدون طريقة تاليف كتاب " المغرب " فقال لهم : ان غاية العلماء دائما لا تدرك وان من عمل شيئا والف كتابا لا بد له من ان يتعرض الى النقد وقص عليه قصة الحمار والابن والوالد وهي قصة معروفة لجحا :
قال والد ابن سعيد لابنه يا بني ان جحا لم يسلم هو الآخر من نقد الناس وحكى قصته المعروفة وهو ان جحا ذات مرة ركب حمارا وترك ابنه يسير راجلا فمر عليهما احد المارة وقال رجل متقدم في السن راكب والابن الصغير المسكين يسير على قدميه فنزل الاب وركب الابن فمر عليهما واحد ثان فقال رجل متقدم فى السن يسير على قدميه والابن على الحمار ومر عليهما رجل ثالث فقال حمار مسكين رجل وابنه على حمار واحد فلم لا يشفقان على الحيوان !؟ فنزل الاثنان وترجلا ، ومر عليهما رابع فقال ما أحمق الرجل وابنه حمار يسير بمفرده والرجل والابن يترجلان فلم لا يستغلانه لراحتهما ؟!
فقال والد ابن سعيد لابنه يا ولدى لا يمكن ان ترضى قلوب الناس كلها فكل واحد له وجهة نظر وكل واحد له افكاره وان رضي الناس غاية لا تدرك .
... هذا عن نقد الكتاب فى العصر القديم أما فى العصر الحديث فقد نقد الدكتور عبد العزيز الاهواني كتاب المغرب ورد عليه الدكتور شوقي ضيف والعالم المغربي عبد الله كنون (5) الذي قال فى "المغرب" ابن سعيد يصح وضعه فى مقابلة المجموعة الكبيرة من الكتب المؤلفة فى هذا الصدد والتي تمثل الحدائق لابن فرج الجيلاني " والبديع " لابن الوليد حبيب . وقائد العقيان للفتح بن خاقان والذخيرة لابن بسام . وزاد المسافر لصفوان بن ادريس " وتحفة القادم " لابن الابار وغيرها لان هذه المؤلفات تتضمن العصور التى الفت فيها على حين ان " المغرب " يتضمنها جميعا ويزيد عليها لمن روى عنهم وعاصرهم الى أواخر القرن السابع عشر الى وفاة على بن موسى آخر مؤلفي الكتاب" .
الخلاصة :
هكذا يبقى " كتاب المغرب فى حلى المغرب " من اعظم الموسوعات التاريخية والجغرافية والادبية وهو دائرة معارف كما ذكرت تدون للحياة العلمية والفكرية لبلدان " المغرب " وهي الاندلس والمغرب الاقصى وتونس فى القرن السابع الهجرى وما قبله وهو مصدر هام جدا من مصادر التاريخ التى جاءت بلون جديد لم يعهده المؤرخون الكلاسيكيون من قبل فما أشد الحاجة اليوم الى التعريف به والى اقتناء هذا الكتاب في مكتباتنا الخاصة والعامة ! لان هذا الكتاب غير العديد من الاحداث التاريخية وحافظ عليها وصححها . فهو بحق يعد من نفائس المكتبة الاندلسية المغربية .

