لن يكون حديثي عن الذات بمفهوم المعتزلة اذ يقابلونها بالصفات ولا بمفهوم الصوفية اذ يتعشقونها ويتحرقون عبادة لها وفناء فيها ، بل ما اقصده بالذات هو ذلك المفهوم المستحدث الذى ظهر فى أوربا والعالم الاسلامي بعد الحرب العالمية الثانية أى بعد افلاس بعض لتكتلات العسكرية والسياسية وانحلال الامبراطورية العثمانية وظهور ما يسمى بالقوميات او الوطنيات في البلدان المولى عليها والمستعمرة من قبل الامبراطوريات التقليدية ، وقد كان المثقفون بل ما يعبر عنهم بالنخبة أمام تساؤل كبير هو : ما السبيل الى تخليص الذات الفردية والجماعية من كابوس الاستعمال التوطيني والمقنع وما السبيل الى الحفاظ على الذاتية واستقلالها بعد الحصول على الاستقلال السياسي ؟ وكيف ينبغي المحافظة على الذات من الذوبان لتركيز الذاتية ؟ ان المطلع على التفكير السياسى والاجتماعى التونسي
لواجد أصداء هذه المسألة فيما قامت به النخبة التونسية طيلة هذا القرن بإقلامها او سجلته بأعمالها وتضحياتها وأرواحها ايضا ولنذكر بقضية الحجاب والسفور فقط لنجد ان النخبة الثقافية والسياسية عالجت هذا الموضوع فلئن نشر الطاهر الحداد كتابه المعروف لدينا الآن " امرأتنا فى الشريعة والمجتمع ، فان المحامي الشاب الحبيب بورقيبة حبر فصلا فى جريدة العلم التونسى عن الحجاب ( 2 ) .
كما نجد مقالات العالم الأدبي والمباحث والندوة تدور حول موضوع الحفاظ على الكيان من الذوبان ( 3 ) وتركيز القومية التونسية والدفاع عن اصالة الحضارة العربية الاسلامية ، ثم ظهرت مجلة الفكر فأولت للذات والذاتية عناية فائقة ، ولا عجب ان يلتصق هذا المفهوم بتفكير البشير بن سلامة اذا علمنا انه من القلة المساعدة لمؤسس الفكر محمد مزالى فى خريف 1955 . ثم انى لن اتحدث عن كتابه المخصص لهذا الموضوع بعنوان " الشخصية التونسية " ( 4 ) لانى اهتممت منذ ست سنوات بالجانب الفنى فى الكتاب ( 5 ) من جهة ولان نفس القضية المحورية التى خصص لها كتابا نجدها مبثوثة فى كتابه الجديد الصادر سنة 1977 والمهدى الى " الناس جميعا " والجامع لشتات مقالات حبرها المؤلف في شكل دراسات أو القاها محاضرات بتونس وخارجها أو أجاب عن استيضاح السائلين ، ورغم الفروق الظاهرة ، بين هذه المقالات ، فان القارىء اللبيب يهتدى - اذا تحرر من الاحكام المسبقة ومن التسرع في الحكم - الى ما يربط بين تلك القضايا من علاقة رحم وان كتبت على مدى خمس عشرة سنة ، كما انه يكتشف السبب الاصلى الدافع الى جمعها خوفا من " انقطاع السند " على حد تعبير ابن خلدون ، ذلك هو كتاب " قضايا " الذي قسمه المؤلف الى ثلاثة محاور سمى :
أولها : قضايا مصيرية
وثانيها : قضايا أدبية ولغوية وثالثها قضايا ونقد
ورغم هذا التقسيم الظاهرى فان الكتاب يشكل رؤية واحدة حول قضية واحدة في اعتقادى هذه الرؤية هي تركيز الذات لصيانة الذاتيه وتلك القضية هي التزام المثقف ازاء قضايا مجتمعه
ان أول ملاحظة تلفت الانتباه هي الشبه الموجود بين هذه المقالات وبين مؤلفات الاستاذ محمد مزالي وخاصة " من وحي الفكر " ومواقف " ووجهات نظر " لسبب واحد اعتبره اتفاق الكاتبين على نظرة متشابهه للانسان والكون والقيم ناتجة عن عشرتهما الطويلة فكريا وعمليا . ثم ان هذه المقالات التى تبلغ العشرين بالاضافة إلى استجوابين رغم تباين المحاور تنتقل من التربية إلى الاستعمار الى المرأة الى الاسلام الى ازمة النشر والنقد والادب النسائى الى المؤتمرات الادبية والثقافية الى المواضيع التاريخية تنم عن ، وطنية الكاتب زمن تصديه الى علاجها وحين صرف قلمه الى تحليلها والتحمس لها لانها على حد تعبيره ( 6 ) " قضايا مصيرية تهمنا كأمه تنشد الافضل فى اعتزازها بالانتماء الى الأمة العربية الاسلامية - ذودا واحياء وفي جهدها الى الانصهار فى حضارة العالم انسانية وتضامنا وتشبثا بالقيم ايضا " .
لذا ساقصر حديثي على أربعة محاور هي :
1- ماهية الذات والذاتية ؟ 2 - كيف نساهم فى بناء الذات والذاتيه ؟ 3 - أسباب اهتمام الكاتب بالذات والذاتية ؟ 4 - نتائج هذا الاهتمام أو علاقة الكتابة بالوطنية ؟
أما عن ماهية الذات والذاتية فلن تجد مهما بحثت تحديدا بارزا لهما في كتاب قضايا بل لم يذكر لفظ الذات الا مرة وحدة فى المقال الاول وهو " صراع فكرى وادبى من أجل اثبات الذات . ( 7 )
ومرة اخرى فى اشارة لطيفة اثناء استجواب المؤلف من قبل جريدة بلادى سماه " الشخصية التونسية " بين " جاحد ونصير " ( 8 ) .
ففي المقال الاول اثبت المؤلف ان البلاد التونسية حافظت على ذاتها رغم المحاولات الخمس في تبديل وجهتها الحضارية العربية الاسلامية وقد بقيت مصرة صامدة ضد خطرين كادا فى كل مرة ان يفقداها توازنها ويزعزعا الكيان الذي ارتضته لنفسها بعد صراع مرير وهما الاصطدام بالحضارة الغربية مثل جميع البلدان العربية ومحاولة اذابة الشخصية التونسية فى شخصية غريبة عنها ( 9 ) .
وقد كان اعلام النهضة بلا منازع فى الفترة الاولى الوزير خير الدين التونسي مؤلف " أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك " وحركة الشباب التونسي التى تزعمها أبو النهضة الثاني البشير صفر وعلى باش حانبه ومحمد الاصرم وخير الدين بن مصطفى وحسن قلاتى وعبد الجليل الزاوش وعبد العزيز الثعالبى وغيرهم ، وقد حاولوا كلهم الخروج بالمجتمع التونسى من عصور الانحطاط من جهة والدفاع عن تونس من جهة ثانية ، ولم تحقق هذه الحركات اهدافها لقوة المعارضه الاستعمارية وحملات المسخ والتشويه والاستعمار . ولم يواصل الصراع من اجل اثبات الذات الا جيل جديد في الثلاثينات أدرك ما يتهدد البلاد من اخطار المسخ والذوبان والاندثار وواجه هذا الجيل الخطرين على ثلاث مستويات : سياسيا ونقابيا وأدبيا . كان الميدان السياسي هو البارز لما علقته الجماهير عليه من آمال عراض لم ينحرف عنها قادته ابتداء من 1927 ولم يتنكر اليها منذ ذلك الزمن الى الآن وقد برز زعيم آنذاك . وصفه الكاتب ( 10 ) بانه طبع تونس بطابعه وفهم من وضع الشعب التونسى ونسق نظام الحماية وتاريخ البلاد ما لم يفهمه أحد قبله وأظهر من الخصال الاخلاقية ومن الحنكة والدراية والدهاء السياسي ما فاق غيره .
أما حديث المؤلف المؤلف الثاني بعنوان " الشخصية التونسية " بين جاحد
ونصير " ( 11 ) فيؤكد مرة اخرى على مقومات ثلاثة للذات التونسية هى الغربة اللغوية ونزعه حب التعليم وروح التعاون والمؤالفة
على ان الحفاظ على الذات سبيل إلى بناء الذاتية أو الشخصية أو الهوية فما هى الوسائل حسب المؤلف الكفيلة ببنائها ؟ .
ان البناء عملية صعبة ومعادلة شائكة لا بد ان تنطلق من التربية والتعليم لان ازمة التربية تنعكس جدليا على المربين والمتعلمين وغياب القيم الواضحة واشتباه السيل وغموض الاهداف لا يفضى الا الى الحيرة . لذا اكد الكاتب فى مقاله " أزمة التربية أزمة قيم " ( 12 ) بأن الخروج من أزمه التربية يكمن فى حلين اولهما التعريب على مستويين مستوى الادارة ومستوى البرامج والحل الثاني هو تونسة البرامج
كما دعا المؤلف فى مجال بناء الذات الى تصحيح النظرة الى العقيدة حتى لا تشتبه السبل ويتقوقع المتدين فى برجه العاجى فيتعصب وتعمى بصيرته لانه اعتبر الدين شيئا معلقا بين الارض والسماء ، وذلك فى مقالة بعنوان " الاسلام والوطنية أو اقرأ باسم ربك " ( 13 ) حيث ختمه بأسلوب بليغ معلنا أن لا اسلام الا بالوطنية فى معناها الواسع الشامل ولا دين الا بالمغالاة في محبة الوطن . أما المتقوقعين فاخوان الشياطين "
كما ان المؤلف يرى ان بناء الذات يتم بتدريب شبابنا على الخلق والابداع فى كافة المجالات وبالنقد المتواصل النزيه والتقويم المجرد الجرئ لما تخطط اليه القيادة السياسية من برامج رائدنا فى ذلك محبة الوطن وتدعيم أركان الدولة وسلامة مؤسساتها
وفي الختام فان بناء الذات في قضايا عمل متواصل متكامل بين النشاط المادي والفكرى بصرف النظر عن جنس التونسى وعن صفته وحرفته وثقافته ، ولننظر الآن في أسباب اهتمام المؤلف بهذا الموضوع .
ان دواعي المؤلف إلى طرق هذه الموضوعات يعود فى اعتقادى الى ثلاثة أسباب ذكر أحدها المؤلف منذ المقدمة وهو خوفه من " انقطاع السند " اى افنقار الامة الى مصلحين يتممون عمل من سبقهم ويسهرون على الذود عن سر بقائها وقوتها ومناعتها . وثانيها انماء المؤلف إلى جيل الصادقيين
المتشبعين بالثقافة العربية الاسلامية المتفتحة على الثقافة الغربية على النحو الذي أحبه خير الدين الذى أسس المعهد الصادقي منذ اكثر من قرن وقد تميزوا لا بحب الوطن والتضحية من اجله ماديا ومعنويا فحسب بل بتسخير مواهبهم العلمية والقانونية والفكرية الى مقاومة الاحتلال وتدعيم الاستقلال سياسيا ونقابيا واجتماعيا نذكر منهم البشير صفر وعلى باش حانبه والحبيب بورقيبة وعلى البلهوان ومحمود المسعدى ومحمد مزالي . أما السبب الثالث فهو رغبة الكاتب فى الخروج من التقوقع والانكماش فى مجال الاختصاص الى رحاب العمل الجماعي ثقافيا كان أو سياسيا او اجتماعيا أو نيابيا ، لذلك لم يقنع ابن سلامة خريج دار المعلمين العليا فى مادة اللغة العربية وآدابها بالتفرغ للتدريس فى المعاهد الثانوية شأن غيره من المجازين بل خرج الى رحاب العمل الجماعى فواكب " الفكر " منذ ان اسسها صديقه الوفي محمد مزالي واضطلع بمسؤوليات التأليف والترجمة وشارك فى تأسيس اتحاد الكتاب التونسيين كما تحمل اعباء المسؤولية السياسية ولا يزال في نطاق الحزب الاشتراكى الدستورى منذ ربع قرن مما أهله لتعيينه عضوا بالديوان السياسي من قبل رئيس الحزب ، كما انه مثل جهته تشريعيا طيلة عشر سنوات مترجما عن طموحاتها وأشواقها
وهذا يجرنا إلى علاقة الكتابة بالوطنية فى " قضايا " أو بعبارة أخرى الى وطنية الكاتب وأسسها . فهل من علاقة عنده ؟
اذا انطلقنا من ان ابن سلامة ينتمى الى نخبة المثقفين المصلحين بتونس الذين تشابهوا فى مورد التكوين واتخذوا من الكتابة اداة نضال وتعبير عن القضايا المصيرية لا بذخا فكريا براق المظهر لا يغنى ولا يسمن من جهل وفراغ ، فانه مع ذلك جمع بين القول والفعل وبين العقيدة والتطبيق وما اعسره من جمع ، وانظر فى " قضاياه " أو فى كتبه الاخرى مع اختلاف المشارب تجد نزعة غالبة عليها هى خروج المثقف من صمته المضر ومن منزلة المتفرج السلبى الى منزلة المسؤول الطموح الى تغيير واقع الدين والدنيا والعقيدة والعمل . أليس لهذا النوع من الادميين يشير عز وجل فى كتابه الكريم منوها بالانسان القابل للامانة المضطلع بها في جلد وشجاعة : " انا عرضنا الامانة على السموات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا " سورة 33 آية 72
وفى الختام فان قيمة " قضايا " لا تظهر فى المحتوى فحسب بل انه مظهر آخر لفن المقالة الادبية بتونس جدير بالتحليل والنقد

