الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 7الرجوع إلى "الفكر"

مطالعات, مذكرات الشابى

Share

لا يكاد يخلو بحث او حديث عن الشابى فيما مضى ، من دعوة الى نشر مذكراته وكم سمعنا المتحدثين عن ادب الشابى يعتذرون عن تقصيرهم احيانا لفقدان هذه المذكرات . . . ومن حصاد عام 1966 الثقافى ، نجد مذكرات الشابى فى قائمة منشورات الدار التونسية للنشر الا ان كثيرا ممن صاحوا منذ سنوات ونادوا بنشرها واشادوا بها قبل ان يعرفوها لم يهمهم ان ينظروا فيها ويفصحوها عندما اصبحت فى السوق تباع . . وها نحن نتصفح اليوم هذا الكتيب الذى لا تتجاوز صفحاته التسعين عسى ان نرى فيها ما يساعدنا على فهم ادب الشابى . .

بدأ الشابى مذكراته يوم الاربعاء 1 جانفى 1930 ووقف بها عند يوم الخميس 6 فيفرى من نفس السنة ولا ندرى هل كان زاد عليها ام لا الا ان ما نشرته الدار التونسية للنشر ليس سلسلة متصلة الحلقات فما كان الشابى يكتب خواطره كل يوم حتى فى هذه المدة القصيرة وكان بعض اصدقاء الشابى يعلمون فى حياته ان له مذكرات جاء فى مذكرة السادس من فيفرى 1930 : ( جاء الاخ زين العابدين ، وانا اكتب ، فحياه اخى واقتحم البيت ولما رآنى اكتب وقف الى الباب يتأملنى ، ولكننى لم انتبه له رغم وقوفه وتحية اخى اليه . . ولم اشعر الا وصوت يقول :

لا اراك الا تكتب ادبا اليس كذلك ؟ .

فالتفت فاذا به الاخ زين العابدين فقلت له : لا اكتب ادبا الان ، ولكننى اكتب مذكرات فقال وهل تجد الوقت الكافى لكتابتها ؟ .

قلت : أجده يوما ولا اجده آخر . فلماذا كتب الشابى مذكراته فى هذه الفترة دون غيرها وهل ما وصلنا اليوم هو كل ما كتبه الشابى . لعل شهادة بعض الاحياء من اقربائه تفيد الباحث اكثر من الاستقراء والتأويل .

ان ما يستنتجه القارئ من هذه الصفحات ليس بالشئ الهين ، فيها عن شخصية الشابى واخلاقه وعن نشاطه الادبى والحياة الاجتماعية فى عهده ما لاغنى عنه ، فها انت تلمس ما لفكرة الموت من ملابسة لحياته وخياله ، فتراه يتذكر تلك البنية التى احبها فى صباه واختطفها الموت واشار اليها فى كثير من شعره ، قال فى استرجاع ذكراها : (( ثم ها هى تلك الريحانة الجميلة التى انبتتها فى سبيلى انامل الحياة ، ها هى تنظر الى بعينيها الجميلتين الحالمتين باحلام الملائكة ثم تشير الى براحتها الجميلة الساحرة وبأناملها الدقيقة الوردية، ثم ها هى تطبع على ثغرى قبلة حلوة ساحرة بشفتيها المعسولتين برحيق الحياة )) .

وكان الشابى يتذكر اياه على فراش الموت واصدقاءه ، فيظلم الكون وتطبق عليه غرفة موحشة وشعوره بالغربة تعدى حدود حياته الشهيه والعائلية ، فالانسان الغريب لا يكون الا اديبا غريبا ، وهذا التشاؤم الذى طلى شعره بمسحة من الحزن ليس الا ظلا من فكرة الموت التى طغت عليه واستبدت باحاسيسه قال فى مذكرة يوم الثلاثاء جانفى 1930

(( اشعر الان انى غريب فى هذا الوجود واننى ما ازداد يوما فى هذا العالم الا وازداد غربة بين ابناء الحياة وشعورا بمعانى هاته الغربة الاليمة غربة الشاعر الذى استيقظ قلبه فى اسحار الحياة حينما تضطجع قلوب البشر على اسرة النوم الناعمة فاذا جاء الصباح وحدثهم عن مخاوف الليل واهوال الظلام ، وحدثهم فى اناشده عن خلجات النجوم ورقرقة الاحلام الراقصه بين التلال ، لم يجد من يفهم لغة قلبه ولا من يفقه اغانى روحه )) .

وقد بلغ التشاؤم بالشابى حد الوهم حتى بات يرى الكون كله يتألب عليه ويحاربه يطلق خلفه الشياطين لتفسد عليه حياته وتحرمه حتى من نزهاته الجميلة، لقد كان الشابى يحب السير على الاقدام والتجول فى حديقه البلفيدير حاملا كتابا قد يقرأ منه صفحات اذا امكنه الوقت . . فخرج يوم الجمعة 3 جانفى 1930 إلى البلفيدير لينعم بالطبيعة ورؤية اسراب الغوانى المتخطرات بين الغصون ، فتهب العاصفة وتخاطب نفسه فى لوعة :

( لا تغامر يا شابى وارجع الى عشك واستخلف الله فى هذا التعب الضائع والخيبة المرة )

ولكنه لم يكد يجلس على منضدته حتى تلوح الشمس وتعود السماء صاحبة جميلة فيغضب ويحنق ويرثى لنفسه لان الحياة تحاربها بلا هوادة فيقول : ( وهكذا راق للقدر ان يعبث بى مرات ثلاث ما فرغت من واحده حتى

تلقتنى الاخرى بدون انذار ) وكان الشابى حساسا مفرط الحساسية يشفق على الزهرة التى تقطف لانها روح بريئة طاهرة .، ويستخف بصديق لا يشاركه فى حب الطبيعة ويعتذر اليه عن مرافقته الى الهواء الطلق ، ومن خلال حديثه عن الطبيعة لا يتمالك الانسان احيانا عن الابتسام ، لما فى هذا الحديث من براءة الاطفال وطبية قلوبهم . وكان الشابى عصبيا ، يكره الجلوس الى من تحدثه نفسه بالتكبر والعنف ، ولذلك حمد الله على ان كلف بالاشتغال بالعدلية مع صديق فى بيت خاص ولم يعمل مع رئيس قد يثيره ويهينه .

ويفسر فرحته بقوله ( وانا رجل عصبى لا احتمل الذل ، ولا استطيع ان اخمد غضبى ) واذا عرفنا له هذا الطبع فهمنا لماذا كان يكره المناصب كرها شديدا وهو من عائلة قضاء والمتوقع ان يسعى لاسترجاع هذا المجد بما اكتسبه من شهرة وما خلفه ابوه من ذكر طيب وصداقات رسمية نفيسة ، كصداقته للوزير الاكبر ولكن ابا القاسم يجيب اقرباءه الذين يحثونه على ذلك بقوله : انا شاعر والشاعر عبد نفسه وعبد ما توحى اليه الحياة ، لا ما يوحى اليه البشر وفى المناصب الشرعية بالاخص قيود وطفوس وسنن متعارفة ، اصطلح الناس عليها والفوها ، فاصبحت مقدسة عندهم لا يمكن ان تمس بسوء ، وانا اعلم ان نفسى تأباها وتنكرها ولا تخضع اليها ) .

ولقد حدث له مرة ان ضمه مجلس مع شيخ رجعى كان يعتقد ان قابادو اشعر الشعراء فاغتاظ الشابى وتعمد اهاجته فأخذ يفند كل راى يقوله واغرى به الحاضرين لينددوا بخطباء المساجد وكان منهم حتى تثور ثائرته ويحلف على مقاطعتهم .

ولنا فى هذه الورقات من مذكرات الشابى اخبار اخرى عن حياته كانت منذ سنوات مثار نقاش بين دارسيه منها تاريخ زواجه ، هل كان ذلك قبل موت ابيه ام بعده ، فنراه يتحدث يوم 6 فيفرى 1930 عن الخطيبة ، وبذلك يثبت انه تزوج بعد وفاة ابيه هذه طائفة من اخباره ولمحة عن طباعه اما الحياة الادبية والاجتماعية فلعلها ان تكون اشد وضوحا فى المذكرات .

فقد جاءت مذكرات الشابى زاخرة بالاخبار الادبية ، مصورة للحياة الثقافية فى كثير من النواحى واول ما يلفت نظر القارىء والباحث نشاط الشاعر ومطالعاته كان الشابى محبا للكتب شغوفا بالمطالعة حتى انه لا يخرج فى نزهة الا ومعه كتاب ، وقد لا يقرأ منه كما قال هو شعرا واحدا ولكن حب الكتاب لم يكن عنده اقل من حب الطبيعة وهو يقول فى هذا فكرت فيما ينبغى لى ان احمله معى من الكتب فى نزهتى الجميلة وتلك عادة من عادات نفسى لا استطيع ان اذهب الى البرية او الى بعض النزهات دون ان استصحب كتابا وسواء على بعد ذلك قراته او لم اقرا منه سطرا . ويهمنا ان نبحث فى هذه

المذكرات عن بعض الكتب التى ورد ذكرها لنضيفها الى عناصر ثقافة الشابى ولا نفترض اشياء موهومة تحمل على الحدس كما جاء ذلك فى احدى المحاضرات فها نحن نستطيع ان نقول الان جازمين ان الشابى عرف كتاب ( تاييس ) لاناطول فرانس وكتاب ( الاراء والمعتقدات ) لغوستاف لوبون ، وقد جاء ذكرهما فى مذكرة الثالث من جانفى لسنة 1930 ، كما نستطيع ان نجزم بانه قرا كتاب رفائيل للامرتين ، وقد جاء ذكره فى مذكرة التاسع من جانفى لنفس السنة . واذا كان تاثره بعباس محمود العقاد امرا لا شك فيه خاصة بعد نشر رسائل الشابى فى الموسم الماضى فاننا نجد دليلا اخر فى المذكرات على هذا التائر او قل على مصاحبة الشابى للعقاد لاننا كنا راينا من خلال الرسائل ان رأى الشابى فى شعر العقاد كان سيئا بخلاف رايه فى نثره ، وها هو فى نزهة الثالث من جانفى يستغنى عن ديوان العقاد ويؤثر حمل كتاب الاراء والمعتقدات لغوستاف لوبان .

وكان للشابى نشاط فى النوادى الادبية وتعصب للمشاريع الثقافية . . حضر مجلسا اعلن فيه ان بعضهم تبرع اذاك بمبلغ قدره ثلاثة الاف فرنك لتكون جائزة تخصص لبحث ادبى يتسابق فيه الادباء التونسيون ، فاهتز لاريحية هذا الرجل ونهض من مكانه وجلس ازاءه يشكره على مبراته وفى نادى القدماء كان له نصيبه من الاحاديث والمحاضرات فتكفل بالقاء محاضرة عن الشعر الغرامى فى الاداب الجاهلية وقام الشابى ليلة الخامس من فيفرى 1930 بدور المرشد فى جمعية التمثيل العربى ( يقوم ما اعوج من كلماتهم ويثقف ما انحرف من السنتهم ) وما ان خرج من هذا النادى حتى ذهب الى منتدى اخر تواصلت فيه الاحاديث الادبية ووقعت له فيه مشادات مع كهل كان يفضل قابادو على كل الشعراء ، ويحدثنا الشابى بمرارة عن ذلك الحديث الخطير فى حياته ذهب الى النادى الادبى فى الثالث عشر من جانفى 1930 لالقاء محاضرته عن كتاب ( الادب العربى فى المغرب الاقصى ) . وكان صحبته زين العابدين السنوسى ومصطفى خريف ولكنه لم يجد احدا هناك .

وقد يطول الحديث لو اردنا تقصى الاحداث الادبية والتعليق عليها فلنكتف باراء الشابى واحكامه لان الشابى هو المحور الذى تدور حوله رحى النهضة الادبية فى هذا العصر . ونحن واجدون هنا وهناك خواطر لصاحب المذكرات تبين لنا ذوقه أو رايه في هذا الادب او ذاك . فتارة حكم على القدماء من ذلك مقارنة سريعة بين المتنبى وابى العلاء المعرى كان ابو الطيب ( عزيز النفس شاعرا بعزته وكرامته رغم امتداحه الملوك ، وبذلك تخطى اعناق الدهور الى سماء الخلود . والمعرى كان اكثر شعورا بعزته وكرامته وبذلك ابتكر مذهبا جديدا فى الفكر ومدرسة حديثة فى تفهم الحياة اما شعر صديقه محمد الحليوى فهو لا يعجبه وان كان يعجبه نثره واذا تساءلنا ما هو الاديب عند الشابى رايناه يشترط فيه صفتين كبيرتين قبل كل شئ ، الكرامة الانسانية

والعزة وهى ذخر الانسانية الثمين الذي يحتاج اليه الاديب والفنان أكثر من كل انسان لان كرامته هى التى تخلق فى نفسه تلك العزيمة الاستقلالية المنتجة تلك النزعة التى تجعله اكثر شعورا بنفسه واعتزازا بها مما عداه ، وبذلك تكتسب شخصيته الوضوح والجلاء فى اثاره . وتتخذ لها مسلكا خاصا بين المسالك ومذهبا بين مذاهب الحياة ) وهذا ما يفسر اشمئزاز الشابى من مدع للادب دبج خطبة ليتلوها على سرير احدى النساء المستهترات ، ولعل سائلا يسال هل يريد الشابى ان يكون الادب للشعب . كلا الشاعر فى رأى الشابى كالطائر المغرد ، يغنى ولا يحفل بالوجود حين يترنم ومن اجل هذا كان الشابى يحس هذه الغربة ويحياها بمرارة مستمرة لان الناس يريدون منه لغة اخرى فشكا حظه عندما عاد الى بيته يوم الثلاثاء 7 جانفى 1930 واودع اسراره الى اوراقه .

( الان ادركت اننى غريب بين ابناء بلاد وليت شعرى هل ياتى ذلك اليوم الذى تعانق فيه احلامى قلوب البشر فترتل اغانى ارواح الشباب المستيقظة وتدرك حنين قلبى واشواقه ادمغة مفكرة سيخلقها المستقبل البعيد ) .

واريد ان اضيف فكرة هامة ظهرت فى المذكرات اكثر من ظهورها فى شعر الشابى فكثيرا ما تساءلت وانا اقرا ادب المهجر عن صدى فكرة يجوز ان نعتبرها محور التفكير عند ادباء المهجر ، امن بها جبران وابو ماضى واعتنقها ميخائيل نعيمة بعقله وقلبه حتى اصبحت اصلا من اصول فلسفته فى الحياة امن كلهم بمبدا - وحدة الوجود - قال ميخائيل نعيمة على لسان مرداد ( ان كلمة الله بوتقة تصهر كل ما تخلقه وتمزجه فتجعل منه وحدة كاملة ، فلا تقبل شيئا لانه ذو قيمة ، وترفض الاخر لانه لا قيمة له ، واذ ان لها روح الفهم فهى تعرف حق المعرفة انها وما تخلقه وحدة لا تتجزا وانها إذا ما نبذت جزءا من خليقتها فكانها نبذت ذاتها ، لذلك كان دابها ابدا واحدا وغايتها ابدا واحدة . وغريب ان تستبد هذه الفكرة بادباء المهجر دون ان تترك اثرا ولو باهتا فى نفس الشابى نقول اثرا باهتا لاننا ندرك مدى الفرق بين حرية البيئة التى عاش فيها اصحاب المهجر وقيود الدين والمجتمع التى كانت تكبل الشابى اضف الى ذلك ما فى القول بوحدة الوجود من تعاطف مع النصرانية الامر الذى بجعل الشابى اقلهم تحفزا لاعتناقها ، لذلك راينا فى اشارة وردت فى المذكرات اهمية التاثيرات الفكرية التى لم ينج منها الشابى رغم الموانع التى ذكرنا  قال الشابى فى مذكرة الرابع من جانفى 1930 ( كنت احس بروح علوية تجعلنى احس بوحدة الحياة فى هذا الوجود واشعر باننا فى هذه الدنيا سواء فى ذلك الزهرة الناضرة او الموجة الزاخرة او الغادة اللعوب ، لسنا سوى آلات وترية

تحركها يد واحدة فتحدث انغاما مختلفة الرنات ولكنها متحدة المعانى او بعبارة اخرى اننا وحدة عالمية تجيش بامواج الحياة وان اختلفت فينا قوالب هذا الوجود )

وهكذا يلتقى الشابى مرة اخرى بمدرسة المهجر فى هذه الفكرة التى يحسن ان نتلمس اثارها فى شعره بعناية اكثر .

واذا كانت مذكرات الشابى زاخرة بكل هذه الاراء والاخبار فلان صاحبها كتبها لتنشر فاحتاط فى الحديث عن بعض الاشخاص واهمل بعض الاسماء عمدا ، فلنبارك هذا النشر لانه كان امنية من امانى الشاعر ...

اشترك في نشرتنا البريدية