الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "الفكر"

مطالعات, من وحي الثورة الجزائرية

Share

252 صفحة - طبع بيروت 1963

الحديث عن أدبنا العربى الحديث في الجزائر هو فى الوقت ذاته حديث عن الثورة الجزائرية المجيدة التى اعادت للشعب كيانه وحريته وكرامته . وفي اعتقادى ان هناك اكثر من سبب وجيه يدفعنا دفعا عنيفا الى البحث عن علاقة الادب بالثورة ، سواء كان ذلك على الصعيد المحلى او الإنسانى ، فى خلال السنوات العشر الاخيرة .

انا على يقين ، ولعل غيرى يشاركنى هذا الرأى ، من انه لو لم تقم الثورة ، عارمة شاملة ، لما كان لنا اليوم ادب ثورى نعتز به ونفخر ، وان كان لا يزال متخلفا عن مستوى الثورة ، من حيث هى نظام وعقيدة وحياة .

الواقع انه كان المفروض ان تكون الثورة وليدة الادب ، ولكن العكس هو الذى حدث . ولست ، شخصيا ، اظن ان هناك ما يدعونا الى لوم الادباء والشعراء الذين عاشوا قبل قيام الثورة المباركة ، لان ما لا قوه من بشاعة الحياة وقسوة الزمن ومحنة الارهاب الذى سلطه عليهم الاستعمار الغاشم كفيل بأن يغفر لهم عدم التعبير بشجاعة عن المشاعر التى كانت تمور فى اعماقهم ، فقد حكم عليهم ان يكتفوا بالتلميح ، ان وجد ، دون التصريح بها والاعراب عنها .

بين يدى الآن كتاب جزائرى لمؤلف جزائرى ، ولعل اقل ما يقال عن الكتاب انه احدى ثمرات الثورة الناضجة التى تظهر لنا مدى تقدم الفكر الجزائرى واهتمامه بالمشاكل التى تشغل وعى الانسان من حيث هو انسان يرفض كل انواع الظلم والبغى والاستعباد . ثم انه يضعنا وجها لوجه امام شاب ذى مواهم واعدة وامكانيات ضخمة تؤهله لاحتلال مكانة مرموقة في ميدان الفكر الجزائرى الحديث .

فهو يحاول ان يكشف عالما خاصا من خلال تجاربه الذاتية . وعندى

ان اجدر الاداب بالخلود هو ذلك الادب الذى يحمل طابعا شخصيا نطل من خلاله على عوالم رحبة تتصل بالحياة والطبيعة والوجود والانسان .

يبدو لي ان المؤلف ، وقد اكون مخطئا في هذا الزعم ، لاني ، نظرا لبعدى عن الوطن منذ احدى عشرة سنة ، وان كنت اعيش معه بافكارى وعواطفى ، لم اطلع على كل نتاج ادبائنا الشبان فى فترة ما بعد الثورة من اشعار وقصص ومسرحيات وبحوث يبدو لى ان الاخ الجنيدى خليفة يمتاز عن غيره بعمق التفكير ودقة البحث وبراعة التحليل وصدق التجربة ، وخاصة في بحوثه الفلسفية وتأملاته الفكرية . هذا زيادة على ان تفهمه لحقيقة الثورة وتمثله لمضمونها ومعطياتها كان وعيا وهضما اكثر منه تحمسا وامتنانا .

والكتاب بعد يحتوى على يوميات وقصص ورسائل وتأملات فلسفية . ولعل اجدرها بالعناية والدرس هي اليوميات . فهذه الانطباعات التى دونها الكاتب تقدم لنا صورة جلية صادقة عن الظروف التى هيأت الشعب للخروج من العزلة التى فرضت عليه منذ عشرات السنين ففاجأ المستعمر بثورته التى قضت على الصراع الحزبي الذي كان يسود صفوف القيادة السياسية ووحدت الكلمة وحددت الهدف . كما انها تبين لنا مدى تعلق الطالب بثورة بلاده وانسجامه معها ، رغم ما يفصله عنها من حواجز وحدود وقيود . واني لاتساءل من منا نحن الطلاب الجزائريين آنذاك من لم يشعر بالرأس يرتفع عندما حملت اليه الانباء اندلاع الثورة فى وطنه ولم يحاول فى الحال تغيير بعض المعتقدات السائرة عن بلاده . ولست انسى تلك اللحظة التى اجتمعت فيها صدفة فى طهران بشاعر عراقي وسألني عن البلد الذى انتمى اليه ! وحين قلت له : عربى من الجزائر اجابني : " بلد عظيم ، لا تكاد نسمع عنه شيئا . الا يقع في جعب ) كعب ( الهند ؟ ! فوجدتني اقول له بألم واعتزاز فى آن واحد : لا يا سيدى . برأس الهند ، لا بجعبه !

فهذا الطالب يعيش قضية بلاده بكل قوة ، رغم انه لم يكن يملك سوى افراح صغيرة وذكريات بسيطة وقبلة غرامية اختطفها من بنت الجيران تحت كرمة ، وقلبه مفعم بالخوف من المستقبل المجهول الذى ينتظره بعد تخرجه . ومع ان هذه اليوميات قد كتبت في تونس الشقيقة ، فإنها تحدثنا عن الاوضاع الثقافية والسياسية والإجتماعية في الجزائر الثائرة .

اما القصص والرسائل فإنها لا تخرج عن الجو العام للكتاب ، وانى

لاجد لها في نفسى طعما خاصا لم اعهده فيما قرأت من قصص جزائرية . فهى باسلوبها وافكارها ومعانيها تصور لنا مشكلة من المشاكل التي تجابه الإنسان في وضع من اوضاعه الخاصة ، وهو يعيش ايامه ولياليه تحت تأثير ملابسات معينة ، تفرض عليه ان يتخذ موقفه تجاه قضية ما .

والتأملات الفلسفية بدورها تبحث فى علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقته باخيه الإنسان وتاصل حنينه الى الوحدة التى تتيح له ممارسة حريته الكبرى . ولعل ايمان الاخ المؤلف بقيمة الإنسان هو الذي حدا به الى توضيح خصائص هذه الحرية واظهار مزاياها وتأكيد ملامحها مع كل ما يتصل بها من قريب او بعيد

لم اقصد بهذه الكلمة تقديم دراسة مفصلة عن الكتاب ، كما اننى لم  ارد بها التعريف بالمؤلف ، فالجنيدى خليفة معروف لدى قراء " الفكر " وغيرها من المجلات العربية ، وانما قصدت الى الحديث عن الكتاب والأثر الذى تركه في نفسي كقارىء لا غير .

واذا كان لى من ملاحظة على الكتاب ، فهي أن به كثيرا من الاخطاء ، والحق ان ذلك ليس بغريب عن المطابع العربية . ان هناك اخطاء حتى في تواريخ اليوميات . فالمؤلف ينتقل بنا فجأة من سنة 54 ، وهو اليوم الخامس لاندلاع الثورة ، الى سنة 62 ، ثم يعود بنا الى السنة التى بدأ منها ولا اظن ان المؤلف قد فعل ذلك عمدا ، على اعتبار ان اليوميات قد كتبت فيما بعد ، لان وقت كتابتها - فى نظرى على الاقل - غير مهم ، ففي وسع اديب اليوم ان يعود بذاكرته الى الوراء ليدون مشاعره عن الثورة وكانه يعيش ظروفها حقيقة . والغريب ان نفس الخطأ قد وقع عند نشر البعض منها في العدد 1962/12 في مجلة الآداب البيروتية .

ثم اني اجد بعض التراكيب ، مثل الزمكان والشمفريقي وغيرهما ، منافية لروح اللغة العربية واساليبها ، ولعل لذلك علاقة بكتابه " نحو عربية افضل " ، ولست اريد الحديث عنه هنا ، فقد اعود اليه فى فرصة اخرى

وبالتالي فإني شخصيا كنت افضل ان تنشر التأملات الفلسفية على حدة ، فمما لا شك فيه ان المؤلف سوف يكتب غيرها فى وقت ما ، لان الحفاف الذى تتسم به المقالات الفلسفية عادة ، يحول دون استتمام المتعة الفنية التى نجدها عند قراءة اليوميات والقصص . وايا ما كان الامر فإني اهنئ الاخ على كتابه الرائع الذى تفضل باهدائه الى مع كتاب آخر . وارجو له ، مخلصا ، التوفيق في بحوثه العميقة وكتاباته الرصينة ، فالجزائر في حاجة الى امثاله من رجال الادب والفكر .

اشترك في نشرتنا البريدية