الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "المنهل"

مظاهر الحضارة الاسلامية, الحلقة الثامنة

Share

الفصل الثاني  الحضارة : تعريفها نشأتها أطوارها عناصرها وعوامل تكوينها

والآن وقد انتهينا من الدراسة الجغرافية والتاريخية لبعض المدن التى اعتبرناها بؤرة ومنطلق الحضارة الاسلامية ، وجب علينا أن نعرف " الحضارة " وان ننفذ من خلال هذا التعريف إلى ماهيتها ، وكيف نشأت الحضارة ، وما هي عناصرها ، وما أهم العوامل التى تؤدي إلى تكوينها . كل هذه الاسئلة سنحاول الاجابة عنها فى هذا الفصل ان شاء الله .

الحضارة في اللغة العربية : -

اذا تتبعنا لغتنا العربية الزاخرة ، وجدنا ان الحضارة ) بفتح الحاء او كسرها ( تعنى الاقامة في الحضر ، أى فى المدن والقرى ، يقال : فلان حضرى فهو من أهل الحضارة ، وفلان بدوي فهو من اهل البادية ( ١ )

( فأصل المعنى اذن هو الاستقرار . والاستقرار الذي ينشأ عن زراعة الارض هو السبيل الذى تنفسح فيه لابناء المجتمع مجالات التطور ، فاذا ولجوها تقدموا في فنون اكتساب العيش ، وفي بناء المدن ، وفي تحصيل المعرفة ، وفي الانتظام الداخلى والخارجى ، وكان لهم حظهم من الرفاه ومن الابداع ، ومن الحضارة بوجه عام . وهذا التمييز بين البداوة والحضارة عريق لدينا نجده واضحا مرددا فيما وصلنا من ادب وتاريخ ونظم ، وعادات ، وما اليها من عناصر تراثنا ، ذلك ان التفاعل بين هذين النمطين من الحياة كان عاملا من اهم عوامل ماضينا ، سواء اكان ذلك في السياسة أم في الاجتماع ام في الأدب أم في العقلية العامة ، ولا يزال قائما فى مناطق واسعة من مجتمعنا ، وله آثاره ورواسبه في مختلف نواحي حياتنا ٢ )

" ثم اريد منها ما يستتبع الاقامة في الحضر من تعاون وتآزر ، وتبادل للافكار والمعلومات في شتى شؤون الحياة من علوم وعمران ، وثقافة وعرفان ، وما الى ذلك مما يتصل بتقدم الانسان ، وترقيه فى مناحى الحياة المختلفة ، وذلك ان اجتماع الناس في مكان وقرارهم به انما يكون بالتعاون على دفع الضرر ، وتحصيل اسباب المعاش بالزراعة والصناعة والتجارة ، والفنون والعلوم المختلفة ، والترقي بها حتى تصل الى مداها المقدر لها ( ٣ )

والمشتغلون بالدراسات الحضارية يختلفون فى الدلالة على مفهوم كل من هذه الكلمات الثلاث : الحضارة والمدنية والثقافة

( ونحن العرب نستعمل كلا من الحضارة والمدنية لمعنى واحد ، وان كانت الثانية تدل على مرحلة حضارية اكثر تطورا من الاولى . وكلمة الحضارة في لغتنا مشتقة من الحضر والحاضرة اى القرى والأرياف والمنازل المسكونة فهي خلاف البدو والبداوة والبادية . والحاضر هو ساكن الحاضرة وتعني الحي العظيم . والحضارة الاقامة فى الحضر وكلمة المدنية مشتقة من المدينة وهي مجتمع بيوت يزيد عددها على بيوت القرية او هي المصري الجامع . ومدن المدن بناها ومصرها . وتمدن تخلق باخلاق اهل المدن وانتقل من الهمجية إلى حالة الانس والظرف ، وتمدين وتنعم ورفه عيشه .

) ان كلمة الحضارة تدل في اللغة على نوع خاص من الحياة هو الاستقرار والاقامه الدائمة ، وليس بالضرورى ان يكون هذا الاستقرار في المدينة بل ان الاستقرار نشأ تاريخيا فى القرى الصغيرة . وعندما تطورت القرى واتسعت تحولت الى مدن . وعلى اى حال ان نشأة المدينة كانت متأخرة بالنسبة لنشأة القرية . وكلمة الحضارة بمعنى الاستقرار والاقامة الدائمة تشمل القرى والمدن . أما كلمة المدنية وهي من المدينة فتدل على مرتبة سامية وتطور راق . ففي المدينة تتجمع ظواهر وخصائص وكفاءات لا توجد أو قل ان توجد في غيرها ، وفيها تبدو مظاهر التقدم العلمي والفني والفكرى والتقني الآلى وغيرها .

) أما الثقافة : فهي مصدر الفعل الثلاثي ثقف ، وتعني الحذق والفطنة والنشاط والخفة . وثقف الرمح قومه وسواه ، والولد هذبه وعلمه . وكلمة الثقافة في اللغة اللاتينية وفي اللغات الاوربية الحديثة تعنى الزراعة بالمعنى العام ، والدرس والتحصيل العلمي بالمعنى الخاص . وهذا المعنى قريب من المعنى العربى فى لغة المعجم وفي الاستعمال الدارج الدال على المعرفة والتعلم ، عندما نقول : نسان مثقف ، ونشر الثقافة ، ووزارة الثقافة ، وما الى ذلك . ولكن كلمة الثقافة اتسع معناها واخذ يتناول نظام الحياة الذي يعيش بموجبه شعب من الشعوب ويفكر ، اى انه يشمل العادات والمفاهيم وقواعد السلوك والعقائد والنظم والمؤسسات وهذا ما يقرب معناها من معنى الحضارة والمدينة في اللغات الاوربية . وكثيرا ما نستعمل كلمة الحضارة للدلالة على الثقافة او بالعكس ، ولم يتوصل بعد إلى تحديد نهائى ٤ ).

إلحضارة في اللغتين الانكليزية والفرنسية

اذا انتقلنا من لغة الضاد إلى اللغات لاخرى وبخاصة اللغتين الانكليزية الفرنسية ، وجدنا ثمة لفظتين رئيسيتين ستعملان للدلالة على معنى الحضارة هما : Civilisation , Cuiture

واذا تتبعنا تطور هاتين اللفظتين وجدنا

لهما تاريخا طويلا متشعبا لا يعنينا ان نتبعه

فكلمة civilisation الفرنسية او civilization   الانكليزية مشتقة من اللاتينية civis المدني او المواطن في المدينة . ثم اخذت تستعمل مجازا وعنت في بادئ الامر شان مرادفتهاculture عملية اكتساب الصفات المحمودة ، وبخاصة الالطاف الفردية والاجتماعية . ثم تطورت لتعبر عن حالة الرقي والتقدم في الافراد والمجتمعات . وتستعمل اليوم في اللغات الغربية في الأغلب بمعنى الحضارة ، بصورة مطلقة او الوحدات الحضارية التي ظهرت على مسرح التاريخ ) ٥ ( .

اما كلمة "   culture فماخوذة عن اللاتينية عنا cultureمن فعل   Colgre بمعنى حرث أو نمى . وقد كانت دلالة الاصل اللاتيني في العصور القديمة والوسيطة مقصورة على تنمية الارض ومحصولاتها تلك التى نجدها فى . Agriculture   التى تعنى الزراعة

) وفي اوائل العصور الحديثة بدأت تستعمل في الانكليزية والفرنسية بمدلوليها المادى والعقلي ، مع اضافة الشئ المقصود تنميته ، وعدت  Culture بعد ان اصبح الكتاب يطلقون هذه اللفظة اجمالا دون اضافة الى شئ معين تدل على تنقية العقل والذوق ، ثم انتقلت الى حصيلة هذه العملية اي الى المكاسب العقلية والأدبية والذوقية التى نعبر عنها بالعربية بلفظة الثقافة -

اشترك في نشرتنا البريدية