الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "المنهل"

مظاهر الحضارة الاسلامية, ( الحلقة الخامسة )

Share

ثانيا - المدينة المنورة ١ - الدراسة الجغرافية موقعها وجيولوجيتها :

تقع هذه المدينة فى سهل واسع يرتفع عن سطح البحر بنحو الفى قدم ( ٢١٠ متر تقريبا ) ومساحتها نحو نصف مساحة مكة المكرمة ( ١)

وينحدر السهل الواقعة به ، على سهل نحو الشمال ، ويحده من الشمال جبل أحد ، ومن الجنوب جبل عير ، وهما يبعدان عن المدينة بنحو أربعة كيلومترات تقريبا ، كما انهما ( أى جبل احد وجبل عير ) يؤلفان قرني سلسلة الجبال التى تكون الحد الفاصل بين الهضاب المرتفعة بشبه جزيرة العرب ، والسهول المنخفضة من شاطئ تهامة (٢) .

وهي واحة خصيبة التربة غزيرة المياه محصورة بين لابتين بركانيتين تعرفان بالحرتين : حرة واقم في الشرق وحره الوبرة فى الغرب ، وتكتنف الأودية الحرتين من الشرق ومن الغرب ، وتحيط بالمدينة من جهاتها الاربع .

ويقع وادى العقيق الى يساره ممتدا غربي المدينة فيما وراء حرة الوبرة على ما بعد بئر رومة فى شمالها الغربي . والعريض وعوالى المدينة الى يمينه من شرق حرة واقم  .

وتقع قرية قباء في جنوب المدينة على ميلين ( ٣) منها ، وبين قباء والمدينة يسير وادى بطحان ووادى رانوناء حيث يتجهان شمالا فيما بين حرة الوبرة والمدينة فيتصلان بوادى قناة وهو واد يقع جنوب أحد ، وينحدر غربا بينه وبين جبل سلع

حتى يتصل بوادى بطحان ، وتلتقي هذه الأودية عند مجتمع الاسيال من رومة . كما يوجد وادى مذينيب ووادى مهزوز فى الجنوب الشرقي من المدينة ، ويحصران بينهما عوالى المدينة التى كانت زاهرة عامرة (٤)

حرة واقم التى تحد المدينة من الشرق كانت أكثر عمرانا من الوبرة ، وحين هاجر النبي (ص ) الى المدينة سنة ٦٢٢ م كانت حرة واقم مسكونة بأم قبائل اليهود من بني النضير وقريظة وعدد من عشائر اليهود الأخرى ، كما كانت تسكنه اهم البطون

الاوسية : بنو عبد الاشهل ، وبنو ظفر . وبنو حارثة ، وبنو معاوية ، وفي منازل بني عبد الاشهل كان يقوم حصنهم  "واقسم" الذي سميت الحرة باسمه . وقد ترك أصحاب هذه المنازل من اليهود والأوس آثارا في الحرة تدل على حضارة ونظام وتركوا بها آثارا لمصانع وصهاريج مياه لم يبق منها اليوم الا أطلال دوارس . ولا عجب ، فقد كانت الحرة ميدان حرب منذ استقر الاسلام بالمدينة فقد حاصر النبي اليهود من بني النضير حتى أجلاهم ، ثم حاصر بني قريظة حتى قضى عليهم ، وبها وقعت موقعة الحرة فى عهد يزيد بن معاوية سنة ٦٢ ح (٥)

وحرة الوبرة التى تحد المدينة من الغرب ، تبدا قبالة قباء من الجنوب عند ذي الحليفة - ميقات الاحرام لاهل المدينة ، - وأول الطريق الى مكة .

وبأقصى حرة الوبرة من ناحية الشمال بمجتمع اسيال المدينة تقع بئر رومة وكانت مملوكة لرجل يهودى كان يبيع ماءها للمسلمين فاشتراها عثمان بن عفان (رض ) استجابة لرغبة النبي ( ص )ودفع ثمنها عشرين الف درهم .

وتفصل حرة الوبرة بين المدينة ووادى العقيق ، وقد كان لهذا الوادي في انباء التاريخ من الذكر ما جعله وادي النعمة وخفض العيش والترف ، حتى انه إذا ما ذكر العقيق من اودية المدينة نسى الناس كل واد للعقيق سواه ، مع انه توجد أودية كثيرة بهذا الاسم في جزيرة العرب . ولقد كان هذا الوادي الخصيب الدافق بجداول المياه وبالعيون والآبار خاليا من البناء

لما قدم النبي (ص ) الى يثرب . وعلى شفير العقيق الغربي تقوم جماوات العقيق ، وهي مرتفعات سود كبار دون الجبال وفوق الهضاب واقرب الجماوات الى المدينة " جماء تضارع  " القريبة من بئر عروة ، وتجاورها وتكاد تتصل بها ( جماء ام خالد ) وتبعد عن هذه الى الشمال ( جماء عاقل ) .

وفي شمال المدينة جبل احد ، يفصل بينها وبينه وادى قناة ، وفي جنوب هذا الوادى الى الشمال الغربى من المدينة يقع جبل سلع وبه النتوء الذي يعرف بجبل " عينين " وعليه كان موقف الرماة من المسلمين يوم أحد ( ٥)

ومن هنا اختلفت المدينة المنورة عن مكة المكرمة التى تعتبر من مدن السهل الساحلى ، فجبالها ترتفع نحوها على شكل حدوة الحصان تاركة جهتها المفتوحة فى جنوبها الشرقي ( ٦)

أما أرضها (أي المدينة المنورة ) فهي بركانية ، كما انها اشتهرت بالخصب والنماء ( ٧ ) وهي تبعد عن مكة بحوالى

ثلاثمائة ميل (٨) ، الى الشمال منها ، كما تبعد عن ينبع ( مينائها على البحر الاحمر ) مائة وثلاثين ميلا ( ٩) .

والمدينة بلدة زراعية تكثر بها الأبار والاشجار ، وتفوق مكة من حيث ثمارها ومنتجاتها الزراعية ، ومن ثم اختلف تاريخ المدينتين ابان العصر الجاهلى لانهما تأثرتا بطبيعتهما الجغرافية أكثر من أى شئ آخر . كما أن معظم أراضيها يمتاز بسهولة التربة ، فتربتها فى الجهة الجنوبية مشبعة بالمياه التى يندر وجودها فى سائر الحجاز ، وتظهر هذه المياه وتكثر بعد نزول المطر وتنحدر السيول وتغور بعض مياه الامطار والسيول تحت الأرض ، وتستقر فى جوفهم وكان لذلك اثره فى انتشار الزراعة التى تعتمد على مياه الآبار بها ( ١٠) .

ولقد قال بعضهم ان المدينة المنورة وأراضيها من جملة الواحات المنتشرة فى جزيرة لعرب ، فاذا صح ذلك فانها من أعظم الواحات واكثرها سعة وخصبا ( ١١) .

جبالها :

وأشهر جبالها احد ، وهو الذي قال فيه المصطفى ( ص ): " هذا جبل يحبنا ونحبه " . ومن جبال المدينة ايضا عير

وثور ، ومنها ايضا الجبال التالية : عينين (جبل الرماة ) سلع ، سليع ، والمستندر ( ١٢)

الاستاذ عبد السلام حافظ غير هذه الجبال مثل : القلادة ، المقشعر ، صاوى الكويرة ، وجبل ذباب المبنى عليه مسجد الراية ، وفي شرقي بني قيظة يقع جبل " هيطان " - وهو جبل أحمر - سمى فى حوالى منتصف القرن الثاني عشر الهجرى بجبل الاغوات الذين كانت بينهم وبين اهل المدينة واقعة ( ١١٧٠ ه ) فاشتروه من العربان لا تمام الحلف فيما بينهم ( ١٣ )

حراتها :

فى المدينة من الحرات : حرة واقم ، وحرة الوبرة ، ( وقد تكلمت عنهما عند الحديث عن موقع وجيولوجية المدينة المنورة ) وقد وجدت في الاولى منهما آثار دور وحصون ومصنع قديم للفخار المدهون الملون ، كما انه وجد بجانبه صهريج ماء مطلى بالرصاص من الداخل ( ١٤)

اوديتها :

يكتنف المدينة المنورة عدد من أودية السيول منها :

وادى ( العقيق ) في ضاحيتها الغربية ، ووادى (رانوناء) فى ضاحيتها الجنوبية ، ووادى ( مذينيب ) فى ضاحيتها الجنوبية الشرقية ، ووادى ( مهزور ) فى ضاحيتها الشرقية ، ووادى ( قناة ) فى ضاحيتها الشمالية الشرقية ( ١٥)

عيونها :

في المدينة المنورة أربع عشرون عينا جارية على أن أهمها وأعمها وأجداها نفعا اليوم * " العين الزرقاء"  والباقي منها هي لسقيا البساتين ، ومصدر هذه العيون عالية المدينة ( ١٦ ) ، ثم تسير الى غربى المدينة حيث الأرض واطئة ( ١٦)

وبالمدينة المنورة عدد كبير من الآبار من شاء الاطلاع على أسمائها وشئ من تاريخها فليراجع مؤلف استاذنا الكبير الشيخ عبد القدوس الانصاري " آثار المدينة المنورة " وكذلك مؤلف الاستاذ على حافظ " فصول من تاريخ المدينة المنورة "

الاحوال الطبيعية : ١ - الحرارة والبرودة :

المدينة المنورة شديدة الحر فى الصيف ،

وخاصة قبيل الظهر ، حيث يشتد هبوب ريح السموم ، أما في الصباح فهواؤها لطيف ( ١٧ ) وهي معتدلة الحرارة فى الخريف والربيع ، وباردة في الشتاء ، مما يدعو الى استعمال المدفئات ( ١٨ ) .

وقد سجلت أعلى درجة حرارة فى شهر أغسطس سنة ١٩٦٦ م فكانت ٤٦ درجة مئوية ، وادنى درجة حرارة فى شهر يناير سنة ١٩٦٦ م كانت ٣ م . ( ١٩)

ب - الامطار :

تزيد المدينة فى أمطارها على أمطار مكة وجدة ( ٢٠ ) وقد بلغت الايام المطرة فى سنة ١٩٦٦ م تسعة ايام ، أما أكبر كمية هاطلة من المطر خلال ٢٤ ساعة فقد كانت فى شهر نوفمبر ١٩٦٦ م اذ بلغت ٢٥ مم أما عدد الايام الصافية فقد كان ١٠٤ يوم فى سنة ١٩٦٦ والايام الغائمة جزئيا ٢٥٩ يوما ، والايام الغائمة كليا بلغت ١٢ يوما ( ٢١)

ج الرطوبة :

تكثر رياح السموم بالمدينة لذلك فهى أقل من مكة فى رطوبتها ، وقد سجلت درجات الرطوبة سنة ١٩٦٦ م فكانت كالتالي ( ٢٢) :

أعلى درجة رطوبة نسبية ٩٠ درجة كانت فى شهرى فبراير وابريل .

أدنى درجة رطوبة نسبية ٥ . درجات فى شهر مايو .

د : الرياح :

تهب رياح السموم ، على المدينة ويمتد هبوبها اكثر أشهر الصيف والقيظ والجبال تكون دائمة الرياح أيضا بالنسبة الى الفصول ، وتبلغ أشدها في أوقات الحر الشديد ، وفي أوائل الوسمى حيث تصحبها عواصف وبروق ورعود يهطل المطر على أثرها ( ٢٣)

٢ - الدراسة التاريخية اسماء المدينة المنورة :

المدينة هو الاسم الغالب عليها ، به نطق القرآن الكريم في قوله تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " وفي قوله تعالى : " وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن اهل المدينة ( ٢٥)

أما اسمها القديم فهو يثرب ، وقد ورد فى القرآن الكريم هذا الاسم في قوله تعالى : " اذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا "  ( ٢٦)

على ان ( يثرب ) كان يطلق على عموم المدينة المنورة ، وحقيقة المسمى به هو احدى قرى المدينة واكبرها ، وعن ابن عباس ان يثرب فى الاصل كان اسما لابن عبيل الذي هو أول من نزل المدينة ، وبابنه

المذكور سميت البلدة يثرب .

( أما يثرب القرية على ما حكاه السمهودى فهي من طرف وادى قناة شرقا الى طرف الجرف غربا ، ومن زبالة الزج جنوبا الى البساتين التى كانت تعرف بالمال شمالا .

(والشطران الاخيران من هذا التحديد ، وهما زبالة الزج والمال ، حقيقتهما مجهولة لدينا الآن . ومن باب التقريب والاستنتاج يمكننا ان نقول ان المال هو بعض بساتين العيون فى الشمال الغربى ، وان زبالة الزج هى قرية من قرى المدينة كانت بشمالى سلع الى قرب وادى قناة ، اندثرت آثارها فلم تعد معروفة ، وقلنا : انها قرية ، بناء على قول السمهودى عنها : ( كان لاهلها اطمان ) وقوله : ( وكان بالمدينة فى الجاهلية سوق بزبالة من الناحية التى تدعى يثرب ( ٢٧)

قال الزجاجي : وتنسب المدينة الى يثرب ابن قانية بن مهلائيل بن ارم بن عبيل . وينتهي نسبه الى نوح عليه السلام ، وهو الذي بناها . وسماها النبي - ص - طيبة وطابة ( ٢٨)

وقد بلغت اسماؤها نحو الخمس والتسعين اسما ، وهذه الكثرة ولا شك تدل على عظمة المسمى وفضله ( ٢٩) .

أول من سكن المدينة المنورة  :

لقد نقل الاخباريون أن أول من سكن المدينة المنورة ، بعد الطوفان الذى عم الارض جميعا ، هو قائنة بن مهلاييل بن عبيل . . وقد أوصلوا نسبه الى سيدنا نوح عليه السلام .

وقد روى كذلك أن أول من عمر الدور والآطام بها وغرس فيها ، هم العماليق بنو عملاق بن ارفخشذ بن سام ، وكان منهم فى المدينة بنو هف ، وبنو مطرويل ( ٣٠)

بداية التأسيس

كانت المدينة فى دور تأسيسها مجموعة من البيوت والأكواخ المحاطة بالبساتين والحقول المزروعة ، ولما كانت الزراعة هي المورد الوحيد لسكانها ، وكان البدو يحتقرون الزراع ويدعونهم بالنبط ، فقد حفز ذلك هؤلاء السكان المشتتين لان يجتمعون ويشكلوا المدينة ، وكانت هذه المدينة المقامة غير مسورة

لا باخشاب ثخينة من شجر النخيل بالاضافة إلى الحدائق المحيطة بالبيوت . ولما كانت الجهتان الشمالية والغربية من المدينة غير محصنتين غالبا ، فقد كانت عرضة لغارات الاعداء ( ٣١ ) .

وتاريخ المدينة القديم مجهول ، اذ لا توجد مدونات ، يمكن الرجوع اليها ، كذلك لم تقم ابحاث اثرية بها يمكن أن تدلنا على شئ من تاريخها القديم ، ولكن استاذنا الشيخ عبد القدوس الانصاري أشار إلى حدوث بعض الحفريات التى جرت فيها عن غير قصد للبحث العلمي غير انها كشفت عن بعض أشياء يمكن أن يستدل منها على أن المدينة الحالية قائمة على انقاض مدينة أخرى (  ٣٢ ) .

وتاريخ هذه المدينة القديمة الذى يمكننا الاعتماد عليه هو تاريخها منذ القرن الذي سبق هجرة المصطفى - ص - أى منذ بداية القرن السادس الميلادي ، اذ ان هذه الفترة ليست بعيدة بحوادثها وآثارها عن الهجرة وما ترتب عليها من احداث كبيرة غيرت مجرى التاريخ العربى ، بل مجرى التاريخ العام (٣٣)

وانا هنا لست أؤرخ للمدينة المنورة انما هى ومضة تاريخية أردت بها الدخول الى صلب الموضوع حتى نعرف الجو والمحيط

الذي انبعثت منه الحضارة الاسلامية بمظاهرها المتعددة .

والخلاصة اننا لا نستطيع تحديد أولية هاتين المدينتين : ( مكة والمدينة ) فهما من أقدم العصور ، ولا شك ان التجارة كان لها شأن كبير فى اقامة هذه المدن وظهورها وخاصة مكة التى تعتمد اعتمادا كليا فى حياتها على ما يجلب لها من الخارج لعدم وجود المزراعة بها ، فموقع الحجاز بين الشام واليمن ، وكونه ممرا واستراحة للقوافل ساعد على ان تقوم به هذه المدن التجارية . وفي اجزاء كثيرة من العالم في أوروبا وافريقيا وآسيا عرف التاريخ مدنا قامت للتجارة ، وكانت كل مدينة من هذه المدن ذات نظام سياسي مستقل ، عرف فى هذا التاريخ باسم الدول المدينة ( ٣٤) وكانت مكة والمدينة من هذا النوع من المدن . وكانت مكة لموقعها المتوسط بين الشام واليمن ، وعلى طريق التجارة ، مركزا هاما جدا للتجارة ، بل انها فى القرن

السادس الميلادي كانت أهم المراكز التجارية فى شبه جزيرة العرب ، وأما المدينة فلا بد أنها كانت منافسة لمكة لوقوعها على نفس الطريق ، غير أن وحدة السكان فى مكة ووجود البيت الحرام بها ، جعلها أقدر من يثرب على التفوق التجارى والثقافى ، وأظهر فى التنظيم الاداري وان كانت يثرب تتفوق من الناحية الزراعية لوجود زراعات حولها تعتمد على العيون الكثيرة .

على ان المدينتين غير قادرتين بمواردهما الخاصة على اعاشة سكانهما فهما تجلبان الميرة من المدينتين الواقعتين على ساحل البحر الاحمر والصالحتين لتكونا مرفأين لهما ، وهما ينبع ميناء المدينة وجدة ميناء مكة .(٣٥)

اشترك في نشرتنا البريدية