الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 3الرجوع إلى "الفكر"

مع أبي نواس في جنة المصطنعة

Share

- 2 - ( * )

2 - أوانى مجلس الشراب :

عنصر آخر من عناصر رحلة الجمال عند أبي نواس ألا وهو إناء الخمرة ، وتعني ( بالأناء ) ما يستعمل للشرب أو للحفاظ على الخمرة .

 يذكر أبو نواس آنية عديدة ، منها خاصة وقد يخصه بوصف . وتحد من استعمالات الابريق مثلا : ( قامت بابريقها  ..)  ( فارسلت من فم الابريق . . ) ( ص 6 ) ( قرقرة الابريق ) ( ص 701 ) ( أباريق مفدمات ) ( ص 116 ) ( إبريقنا منتصب تارة ) . وتارة ( مبتترك جاث ) ( ص 25 ) ( فى أباريق الزجاج ) ( ص 58 ) ( شكانا الى الابريق من طول نومنا القدح ) ( ص 44 ) . . وقد يشير أبو نواس الى مادة صنع الابريق فيقول : ( أباريق من لجين ) ( ص 183 ) ( أباريق فضة . . ) ( ص 176 ) . . . وقد يهتم بوصف شكل الابريق فيقول :

كان إبريقنا ظبي على شرف  قد مد منه لخوف القانص العنقا

(الديوان ص : 90 )

ونتوقف أحيانا عند تأكيد أبي نواس على بعض الصور والاشكال المرسومة على الأباريق ، يقول :

ترى إبريقنا كالطير سام له فرخان من در وسام

(الديوان ص : 693 )

أما الاناء الثاني المفضل عند أبي نواس فهو " الكأس " ونلاحظ كذلك استعمالات عديدة منها : ( تدركه كأس ) ( ص 119 ) ( ترى فى حوافى الكأس

أعينها بيضا  ص 696  و  الكأس من ياقوتة بيضاء  ص 704  كؤوس اللجين ص 163 كأس محفرة الجوانب والقرار . . ص 77  وتشرق فى الكأس من تلألئها بمحكمات من التصاوير " ) ص 146 ( . .

وقد يذكر الشاعر أواني أخرى لشرب الخمرة مثل :  الأقداح  ، وقد ورد فى ذلك قوله :  تلوح به أيد وأقداح . .   ص 102  و  بين إبريق ، وزق وقدح  ص 107  أو  الزجاجات  مثل قوله :  كأنها فى زجاجها قبس  ص 162  أو  كان الزجاج البيض منها عرائس ص 100 أو  طاسات تبر . .  157  .

وبجانب آنية شرب الخمرة هناك وسائل الحفاظ عليها . من ذلك  الدن  و القز " و  الجرار  . فعن الدن نلاحظ الاستعمالات التالية : " استودعوها رواقيدا مزفتة . .  ص 34   والرواقيد : نوع من الدنان  أو قوله :  حتى تلاقي رب شاصيات ص 165  سكنت فى دنها . .  ص 36  أو  لساكنها دن به القار مسعر  ص 118  كأن هديرها فى الدن يحكى : قراة القس قابلة الصليب  ص 11  مخبأة فى الدن . .  ص 39   ما زلت أستل روح الدن  ص 92  دن شبح أوداجه . . ص 688 ؛ أما الزق فقد وردت أيضا من استعمالاته  نزفوا زقا  ص 122  أو  والزق يرميهم عما تضمنه . .  ص 686   ضع الزق جانبا  ص 120  و  جر زقا كانه رجل . .  ص 24 . ويذكر أبو نواس كذلك الجرار بشتى أحجامها وأشكالها ونلاحظ ذلك فى قوله مثلا : " شرب صافية من صدر خابية  ص 701   الحنتم والدنان . .  ص 85  والحنتم : الجر الخضراء

  وتتكامل هذه الآتية مع عناصر المكان والزمان لتضيف بقعة أخرى من لوحة    الجمال عند أبي نواس ؛ هذه اللوحة التى تأخذه الى دنى أخرى يغيب فيها التناقض .

3 - العناصر البشرية :

فى نطاق هذه الدائرة التى بدأت تنغلق شيئا فشيئا بتدخل العنصر البشرى الذى يقوم مقام التسلية والرينة ، فلا يكون هناك فرق بينه وبين العناصر الشيئية الاخرى ؛ ويمكن أن نوزع العناصر البشرية الغزيرة العدد كما وكيفا خلال الخمريات حسب أربعة حقول دلالية ، يتمحور الاول حول  النديم  وما يشمله من أوصاف وخصائص ، وتقتبس هذه العينات

التعبيرية عنه :  دارت على فتية دان الزمان لهم ...  ص 6   ندمان يرى  غبنا عليه بأن يمسى ، وليس له انتشاء  ص 23  يا رب مجلس فتيان  سموت له . .  ص 701  لا تبك بعد تفرق الخلطاء  ص 704  فتية كاليسوف . . ص 3   ندمان صدق . .  ص 10   وفتية كمصابيح  الدجي غرر .  ص 38  فتية كنجوم الليل أوجههم . .  ص 4٥   ندمان ترادفه خمار.. ص 81   أدرها على الندمان نوحيه العهد . .  ص 687  فتبان صدق . .   ص 124  ونديم لم يزل ساقينا . .  ص 156 ، و نازعتها فتية ، غرا ، غطارفة . .  ص 75  . . ويتضح من  خلال هذه الاشارات حرص أبي نواس على الجانب الاخلاقي فى حضور النديم مثل الصدق وحسن المخالطة وكذلك الجانب الجمالى الجسدى ايضا فوصفهم احمانا  بالبياض  و النجوم وتتكامل هذه العناصر مع جمالية مجلس الشراب عند أبي نواس . أما الحقل الدلالى الثاني فيدور حول  الساقي أو الساقية  وما يقومان به من دور في سياق التلهية ورحلة العذاب واللذة . نلاحظ أيضا استعمالات مثل : من كف ذات حر فى زى ذى ذكر  ص 6  من كف ساقية كالريم حوراء . .  ص 34  وساق غرير الطرف والدل ، فاتن .  ص 119  من كف ذي غنج حلو شمائله . .  ص 696  تمد بها اليك يدا غلام .. ص 11  يدور بها ساق أغن ترى له على  مستدار الاذن صدغا معقربا  ص 22  يسعى عليهم بالكأس ذو نطف . .   ص 51 ناهيك ساقية فى حسن قد ، وفى ظرف ، وفي ادب . .   ص 72  كثيب علاه غصن بان اذا مشى تكاد له صم الجبال تنيب ..  ص 111  أقبل محمود الجمال ، مقرطق الى كأسها ، لا عيب فيه أريب . .   ص 111  يا حسنها من بنان ذي خنث تدعوك أجفانه إلى الريب . .   ص 162  . . وتشير هذه الاستعمالات الى التأكيد على الجانب الجمالي الجسدى وكذلك أساليب السقاية المتناسقة مع جو المرح والمداعبة والرشاقة ، وقد تتدخل ظاهرة اللباس  وما توحى به من أناقة ؛ ونشير أيضا إلى الايحاء بالجانب الجنسى وهو مع ينسجم مع نزوات الاباحية والتفسخ .

ونلاحظ أيضا خضور  المغني  أو  المغنية  فى مجالس شراب النواسي فسهم الصوت زيادة على الجانب الشكلى فى إثراء جمالية الرحلة الخمرية . ويعبر عن ذلك أبو نواس عديد المرات فيقول مثلا :  ومغن كلما شئت تغنى وأشارا . .  ص 65   هيجاء تسمعنا ، والعود يطربنا . .  ص 34  استماعي الغناء من كل خود ذات دل بطرفها السحار  ص 676  . .

أما التجمع الدلالي البشرى الرابع فيتعلق بغلمان الشهوة الجنسية أساسا ، ولا يحس النواسى بأى حرج فى الاصداح بذلك ، بل يطلق العنان لشذوذه . فى هذا السياق نلاحظ تواتر وحدات مثل : " يسعى بها خنث " ما فى خلقة دمث . .  701  بين دامى الخصر منكوت . .  ص 39  حتى إذا أخذت بوجنة صاحبي 78  ولا بد أن يزنوا . فقالت : أو الفدا بأبلج كالدينار فى طرفه فتر . .  ص 28  وظبي ، خلوب اللفظ ، حلو كلامه مقبله سهل ، وجانبه وعر . .  ص 101  . . وتكثر مثل هذه الوحدات فى الخمريات ، لتبعث مزيد الصخب والحيوية الى درجة الذهول والانطلاق العارم .

4 - وسائل زينة الحانة وآلات الطرب :

زيادة على العناصر السابقة يحرص النواسي وخلانه على زينة معينة للحانة تسهم فى خلق الجو الرائع ، جو الجنة المصطنعة العائمة فى الوهم ووخز الغرائز .

نلاحظ تواتر ذكر عنصر  الاضاءة  فى دائرة القصف . ويؤكد أبو نواس على الضوء الخافت الهادىء الذى يخفى ساطع الاشياء ويدغدغ الحواس ، وتحوم استعمالات أبى نواس اللغوية حول  السراج  و  المصباح و  المسراج  كما يتجلى ذلك فى الوحدات التالية :  رأيت عندنا ضوء السراج . .  ص 118   وجاء بمصباح له فأناره . .  ص  111  مرذا فرح ، يسعى بمسرجة . .   ص 48   ضوء مصباح . .  ص 108  .. وهكذا تبدو حلقة أبى نواس بقعة ضائعة فى رحاب العالم ، يحيط بها الظلام والسكون من كل جانب ، فلا وجود إذن إلا لأبى نواس وأصحابه على أرض اللعنة !!

أما وسيلة الزينة الثانية الطاغية فهى أنواع الزهور المتعددة وقد تعلق على الجدار أو فى مواضع من الجسد أو تهمل على القاع . . نسوق بالذكر هذه العينات :  وقوف ريحانة على أذن . .  ص 52  ريحانة ونرجسة . .  ص 160  أضغاث ريحان جنى ويابس . .  ص 37   كأن إكليله تاج ابن ماية إذ راح معتصبا بالورد والآس . .  ص 160  مجلس حفت جوانبه بالنرجس الغض ، والنسرين والآس . .  ص  211  طرف الريحان أجناس . . ص 217  ساق عليه حلة من ياسمين وعلى الاذنين منه وردتا أذريون  ص 70 تكون زينة المجلس طبيعية محضا وذلك خلال الرياض والبساتين .

تضاف لهذه العناصر البشرية والمادية آلات الموسيقى والطرب المتنوعة ، وتقتبس بعضها : " الأوتار " ( ص : 223،214،71،40،703،192 ، 676 ، 678 ) وكذلك " الناى " ( ص : 207،98،81،192 ) و " المزهر" (ص :111 ، 81 ، 682 ، 137 ) و " العود " ( ص : 160،98،104 ، 217 ، 705، 84 ، 195، 198 ) ويذكر " الدف " ( ص : 31،207، 217) أو " الطنبور " ( ص : 676،146 ) ونلاحظ غلبة ذكر " الأوتار " ثم يليه "الناى والمزهر " وهى آلات شائعة الاستعمال فى العصر العباسى .

5 - تركيبة العناصر الاطارية فى جنة أبى نواس :

التوزيع الكمى للعناصر :

نلاحظ فى نطاق مقياس التواتر لهذه العناصر سيطرة عنصرى المكان والزمان فى النصوص الخمرية ، وهذا يدل على توجه حساسية أبى نواس أساسيا إلى الاطار المكانى - الزمانى العام المحيط بجلسة الخمرة ، ولا تقل العناصر البشرية أهمية عن السابقة مما يثبت أن العنصر الانسانى الذى يأخذ له قيمة العامل الشيئى يفضل أبو نواس تواجده داخل عتمه القصف ويبرهن كذلك على أن رحلة النواسى اللذيذة لها وجهان : وجه الشهوة المادية مع الخمرة ، ثم الشهوة الجنسية مع ضروب الغذاء الجنسى ، وقد لا يكتمل الاول دون الثانى ، وتلي هذه العناصر وسائل الشراب المتنوعة التى تحمل احيانا تصاوير وأشكالا زخرفية فارسية ، ثم نجد بعدها وسائل زينة الحانه وآلات الموسيقى ، ويبدو هذا التوزيع الكمي طبيعيا اذ أن اشباع الرغبة الحسية الحمالية عند أبى نواس لا يتم الا بانصهار الجزئى مع الكلى المهيمن على جو الأنس واللذة .

(2) التوزيع الكيفي للعناصر :

نلاحظ أن أبا نواس لا يكتفى بتكديس هذه العناصر فى مستوى كمي فحسب بل يحاول تجاوز المدلول إلى الدال وإضافة - نحويا العناصر المتممة للاصلية ، لذلك كثيرا ما نلاحظ الشاعر يضيف النعوت والاحوال والصفات للاسماء ويثير ظاهرة " الالوان والاشكال " وأحجام الاشياء أيضا. يتجلى ذلك فى أقواله : " الشمس ترحلت . . " ( ص 10) " الليل داج . . " ( ص 58)  " الليل معتكر . . "  ( ص 102 ) " هجيرة عبورية " ( ص 16) " ساق ظريف " ( ص 65)  " ذو غنة . . " ( ص 163) " إبريق فضة . ." (176)  " نقر عود . . " ( ص 160) " نقر الطنابير " ( ص 146) . . وبهذه العناصر الجزئية المتممة يتضح تعمق العد الجمالى عند أبى نواس فى رحلة العذاب واللذة .

(3) ظاهرة المزج فى التوزيع الكيفي :

نلاحظ أن ابا نواس يتجاوز أحيانا الظواهر الجمالية العادية فى ذوق عصره كى يمزج بين بعضها ، ونتحصل هكذا على تصورات لونية طريفة لحساسات أبى نواس ويمكن أن نضبط هذه الاساليب خاصة فى ميدانين : وهما ألوان الخمرة معكوسة على الكأس أو مختلطة بشعاع الشمس ، ثم الروائح المنبعثة من الخمرة خاصة .

فيما يتعلق بالمستوى الاول يمكن أن نلتقط الوحدات التالية : يوجد تجمع حول نوع من المزيج يتعلق بألوان بعض الطيور والاعضاء الجسدية ، نذكر منها : الشرب سلافا كعين الديك ، صافية " ( ص 43 ) وكذلك قوله :

صفراء ما تركت ، زرقاء إن مزجت   تسمو بخطين من حسن ولالاء "

( الديوان ص : 24)

صفراء تحكى التبر ، فى حافاته    عقد الحباب كلؤلؤ متبدد

(الديوان ص : 168)

سرابا إن تزاوجه بماء    تولد منهما درر كبار

(الديوان ص : 180)

فاذا الماء شجها ، خلت فيها    لؤلؤا فوق لؤلؤ مسلوكا

( الديوان ص : 23)

حتى اذا مزجت بالماء ، واختلطت   حاك المزاج لها من لؤلؤ فلكا

(الديوان ص : 89)

أما فى المستوى الثانى فاننا نلاحظ صفات وألوانا متعلقة بأنواع الزهور والغلال مسندة الى الخمرة ، نذكر منها :

تهدى الى الشرب طيبا عند نكهتها    لنفح مسك ، فتيق الفار ، مفتوت

( الديوان ص : 39)

ألا فاسقنى مسكية العرف ، مزة    على نرجس ، تعطيك أنفاسه الخمر

( الديوان ص : 145)

وأرسلتها فى الكأس راحا كريمة    تعطر بالريحان ، أحكمها الدهر

(الديوان ص : 100)

ريحانة من كف ريحانة   تزهو على الخيري والآسي

(الديوان ص : 106)

يالك من تفاحة غضة    طيبها حبي بأنفاسه

(الديوان ص : 107)

ولها رائحة المسك ، فان   مسها الشارب من كأس عبس

(الديوان ص : 67٥)

وهكذا تختلط هذه الالوان والايحاءات الشكلية مع العناصر الاطارية المذكورة فتزيد فى كثافة الضغط الجمالى حول مجالس أبى نواس ويزيده تخديرا وإرهاقا فى رحلة الجنة - الجحيم .

ويمكن أن نلخص عناصر تركيبة جنة أبى نواس فى الملاحظات التالية :

- يبرز عنصر " النور " أساسيا فى مجلس القصف ، نور خافت غالبا للمصباح ومتنوع متداخل للخمرة .

- يقتطع أبو نواس مجالسه من الحياة العادية ، بل يجردها من الدنيا وتناقضاتها لينعزل مع نفسه والخمرة وندمائه .

- يسعى أبو نواس فى مجالسه الى إشباع حواسه : حاسة الذوق والشم واللمس والسمع والبصر ، وتلتقى هذه الحواس لتولد أمزجة أخرى طريفة ورائعة .

- ينقلب الحضور البشرى فى مجالس أبى نواس الى تشيؤ لا أكثر ولا اقل . فيأخذ أشكال القصف واللهو والجمال .

- تبرز ضروب الأزهار وتختلط كما تحيط بالمجلس الى درجة السيطرة الكلية .

اشترك في نشرتنا البريدية