انه لمن المعروف عند المهتمين بدراسة الثقافة العربية الاسلامية في الغرب - والمقصود بالغرب افريقية ، وبلاد الاندلس وصقلية - ان الشعر العربى الذى ازدهر فى صقلية فى غضون الفتح الاسلامي لها ( 827-1061 ) م . وكذلك في الفترة التي تلته بعد أن استولى النورمانديون على الجزيرة ، لم يصل الينا منه الا النزر اليسير ، ولم نتلق من مختلف دواوين الشعراء الا ديوان ابن حمديس الذى نشره المستشرق الايطالى (C. Chiaparelli) سنة 1897 بروما وأعاد نشره وصححه وقدم له أخيرا الدكتور إحسان عباس ببيروت .
ويرجع فضل ما لدينا اليوم من شعر عربى - صقلى الى ابن القطاع الصقلى ( أبو القاسم على ابن جعفر ابن على التميمي السعدى ) الذي كان قد جمع فى " الدرة الخطيرة من شعراء الجزيرة " عشرين ألف بيت منسوبة الى مائة وسبعين شاعرا ، ولدوا بصقلية أو أقاموا فيها ردحا من الزمن , وللاسف الشديد لم يصل الى أيدينا من الدرة الخطيرة ، الا بعض المختارات المقتضبة التى جمع اشتاتها بعض اهل العلم والتصنيف الذين خلفوا ابن القطاع المذكور منهم :
ابن منجب الصيرفي في اختياره للدرة الخطيرة . والعماد الاصفهانى فى الخريدة ، وابن سعيد فى المغرب . وصاحب مختصر الدرة الخطيرة ( الذي لم نهتد الى اسمه والذى اختصر - على ما يظهر - اختيار الشيخ ابى اسحاق ابن أغلب للدرة ) وسبط بن الجوزى فى " مرآة الزمان "
أما خصائص هذا الشعر العربى الذى ازدهر بصقلية ابان العصرين الاسلامى والنورماندى الاول ( أى فى عصر روجار الثاني الذى فتح أبواب قصره على مصراعيها ( للادباء والشعراء ) ففي امكاننا أن نقسمه الى قسمين كبيرين يضم القسم الاول الشعراء الذين لا تتسم أبياتهم - سواء أكانت مدحا أم غزلا أم وصفا أم رثاء - بالطابع الصقلي - ولولا نسبة هؤلاء الشعراء أو اشارة المصادر الى انهم من الصقليين ، لما خطر ببالنا أنهم من أبناء الجزيرة أو المقيمين بها ، ، وذلك لعدم وجود أى اشارة ، فى أشعارهم ، لتلك البقعة التى فتحها أجدادهم واستولوا عليها زهاء قرنين ونصف من الزمان .
ومن شعراء صقلية الذين ينتمون الى هذه الطبقة أبو الحسن علي بن عبد الرحمن الصقلى المعروف بالبلنوبي نسبة الى (Villanova) وهي بلدة في غرب صقلية ) الذي هاجر الى مصر وأقام فيها فى الفترة التى كان اليازوري - وزير المستنصر - يقبض على زمام الحكم فيها ، أى من سنة 442 إلى 450 ه - والتى دبر الفاطمييون فى أثنائها مؤامرتهم الكبرى ضد القائم بأمر الله فى العراق ، وكان من نتائجها ذيوع اسم المستنصر فى بغداد - ولكي أدلل على ما ذكرته من عدم وجود أى ذكر لصقلية في شعره - فانى احيل الدارسين الى أبياته التى سبق أن نشرتها فى حوليات كلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة ، ليجدوها خالية من أى تنويه بالجزيرة بل العكس فان قارىء ابياته يشعر أنه يعيش فى جو مصرى - فقد سرد البلنوبى فيها حوادث تاريخية وقعت فى عصر المستنصر ، وعلى وجه الدقة روى نتائج المؤامرة المذكورة التى قام بتنفيذها البساسيرى ببغداد .
ومن الشعراء الذين حذوا حذو البلنوبي ولم يرد فى أشعارهم أى ذكر لصقلية بعض الامراء الكلبيين الذين قرضوا الشعر أثناء حكمهم للجزيرة ، كالامير ابي القاسم عبد الله بن سليمان يخلف الكلبى وجاء عنه فى " الدرة الخطيرة " لابن القطاع أنه " كان أحد الادباء المجيدين والشعراء المعدودين وممن جمعوا الى شرف المنصب غرائب العلم والادب ب - وتصرف في أنواع الشعر وأجاد فى التشبيهات ووصف الخمر وأضاف الى ذلك جودة النثر وله تأليفات وكتب ومصنفات في الرد على العلماء وتطبيق للشعراء " ونستدل من كلام ابن القطاع على أنه كان أديبا فذا ، لم يصلنا عنه للاسف الشديد الا بعض أبيات حيث أنه بدلا من أن يشيد بذكر صقلية وسرد حوادثها التاريخية والاشادة بامجادها ، فقد تحددت مادة شعره واقتصرت على الغزل والخمر والتشبيهات واللهو . واليكم بعض أبيات الامير الكلبى المذكور :
نعيمي أحلى بتلك الديار رواحى إلى لذة وابتكارى
فليت ليالي الصدود الطوال فداء ليالي الوصال القصار
زمان أبيت طليق الرقاد وأغدو خليا خليع العذار
لم يكن الهجر مما أخاف ولا العاذل الفظ ممن ادارى
اسابق صبحي بصبح الدنان واصرف ليلى بصرف العقار
الا رب يوم لنا بالبروج بخيل الضياء جواد القطار
كأن الشقيق بها وجنة بآخرها لمعة من عذار
كان البنفسج فى لونه اختلاط الظلام بضوء النهار
وسوسنها مثل بيض القباب باوساطها عمد من نضار
ترى النرجس الغض فوق الغصون مثل المصابيح فوق المنار
وأترجها كحقاق النضار تصفق أو كثدى الجوارى
اقمنا نسابق صرف الزمان بدار الى عيشنا المستعار
نجيب بصوت القنانى القيان اذا ما أجابت غناء القمارى
وتصبح عيداننا فى اصطخاب تلذ ، وأطيارنا في اشتجار
نشم الخدود شميم الرياض ونجني النهود اجتناء الثمار
ونسقي على النور مثل النجو م ومثل البدور اعتلت للمدار
عقار هي النار في نورها فلولا المزاج رمت بالشرار
نعمنا بها وكأن النجوم دراهم من فضة فى نثار
اذا ما لقيت الليالي بها فأنت على صرفها بالخيار
والشاعر يترك القارىء والمؤرخ في حيرة وشغف الى معرفة المكان الذي قرض فيه هذا الشعر ومتى تناوله ، كما أنه لم يخبرنا بشيء عن البروج التى يتكلم عنها ، حتى يجعلنا نشك أن ذلك الشعر قد قيل فى أى بقعة من العالم العربى سواء فى العراق أو الشام أو مصر أو المغرب ، إذ ليس له طابع يحدد سماته ، وذلك لاشتماله على كثير من المعاني التى تناولها شعراء العرب عامة . ويمكن تطبيق هذه الملاحظة على أغلبية معاصرى الامير أبى القاسم الكلبي مثل : أبى محمد ميمون بن الحسن الكلبى ، والامير أبى عبد الله محمد والوزير أبى الفضل عبد العزيز بن أحمد بن دانع الى غيرهم من الذين ورد ذكرهم وسجلت أبياتهم في المختصر المذكور للدرة الخطيرة .
أما الطبقة الثانية من الشعراء الصقليين فتختلف عن الاولى اذ تظهر فى أبياتهم سمات الطابع الصقلى جلية واضحة وهم يتناولون فيها وصف بعض
حوادث وقعت فى صقلية فى الفترة الاخيرة من العصر الاسلامى . وأول من ينتمي الى هذه الطبقة أبو الحسن على بن محمد بن الخياط الربعى الذى كان من جلة أصحاب التجيبي البرقي ، صاحب " شرح المختار من شعر بشار ، اختيار الخالديين " وقد أورد التجيبي الكثير من غرر شعر ابن الخياط الذى تحدث فيه الشاعر عن امراء من بني كلب كان قد اتصل بهم أثناء اقامتهم بصقلية ، وذلك مما يجعلنا نتعرف على بعض التفاصيل عن ولاة من بنى كلب ضرب المؤرخون الصفح عنهم في مؤلفاتهم - من أجل هذا نعتبر مقطعات ابن الخياط من أهم المصادر التى توافينا باخبار متعلقة بالولاة الذين قبضوا على زمام الحكم فى صقلية فى الفترة التى كان يحكم فيها ممثلو أسرة بنى كلب ، اى تلك السلالة التى ازدهرت أثناء حكمها للجزيرة الفنون والآداب كما ازدهرت الحالة الادارية والسياسية والاقتصادية فيها .
هذا وقد حان الوقت لدراسة وتحليل بعض قصائد علم من أعلام العربية وشاعر من أجل شعرائها وصقلى من اكثر الصقليين تمسكا وتعلقا بمسقط راسه سرقوسة على الشاطئ الشرقي للجزيرة - أعني ابن حمديس الذى عاش نحو ربع قرن في صقلية وغادرها قبيل الفتح النورماندى لها واتجه سنة 471 شطر الاندلس ثم حط رحاله فى اشبيلية فى عصر ملكها المعتمد بن عباد ولم يهجرها الا عند اعتقال ابن الامير الذى اشتهر بشدة الولوع بالادب والشعر . ولما قضى على آمال ابن حمديس في الاندلس بوفاة المعتمد سافر الشاعر الى افريقية حيث اتصل بالامير تميم بن المعز وابنه يحيى وحفيده علي ثم قصد بعد ذلك الى جزيرة ميورقة حيث توفي سنة 527 ، وقيل أن وفاته كانت فى بجاية .
سبق أن قلت أن الشاعر عاش بصقلية أربعة وعشرين عاما ، ولكن لا نبالغ اذا أضفنا أنه عاش طول حياته في ظلها لكثرة ما نجد في أبياته من الحنين اليها ومن العطف على سكانها ومن تشجيع مواطنيه الذين كانوا يكافحون ( بقصريانة وجرجنت ) ضد النورمانديين تحت قيادة ابن عباد الصقلى وبنى حمود . فاستمعوا اليه وهو يتحدث عن صقلية ويذكر أيام الشباب التى قضاها بها فى اللذة واللهو :
ذكرت صقلية والاسى يهيج للنفس تذكارها
ومنزلة للتصابى خلت وكان بنو الظرف عمارها
فان كنت أخرجت من جنة فانى أحدث أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكا حسبت دموعى أنهارها
ضحكت ابن عشرين من صبوة بكيت ابن ستين أوزارها
فلا تعظمن لديك الذنوب فما زال ربك غفارها
مما لا شك فيه ان البيئات الجديدة - اندلسية كانت او افريقية - والاقطار التى اختلف اليها الشاعر لم تكن تتجاوب مع قلبه ، ولم تكن تنسبيه " الوطن " كما اعتاد ابن حمديس ان يسمى صقلية فى بعض أبياته : كانت الغربة والشعور بها أقوى من أى مؤثر آخر كما هو ظاهر جلى فى الابيات الآتية :
الا فى ضمان الله دار بنوطس ودرت عليها معصرات الهواضب
أمثلها في خاطرى كل ساعة وأمري لها قطر الدموع السواكب
احن حنين النيب للموطن الذي مغاني غوانيه اليه جواذبي
ومن سار عن أرض ثوى قلبه بها تمنى له بالجسم اوبة آئب
وهناك قصائد - فى امكاننا أن نسميها قصائد " عهد الرجاء " نجد الشاعر يفتخر فيها بمواطنيه ويشجعهم على مقاومة الروم والدفاع عن بلاد صقلية التى استولى النورمانديون على بعضها .
حماة اذا ابصرتهم فى كريهة رضيت من الآساد عن كل غاضب
اذا ضاربوا فى مأزق الضرب جردوا صواعق من ايديهم فى سحائب
لهم يوم طعن السمر ايد مبيحة كلى الاسد فى كراتهم للثعالب
تحب بهم قب يطيل صهيلها بارض اعاديهم نياح النوادب
اذا سكتوا فى غمرة الموت انطقوا على البيض بيض المرهفات القواضب
ترى شعل النيران فى خلج الظبا تذيق المنايا من اكف المواهب
ويلاحظ هنا ان الشاعر قد برع في الوصف حتى كان جديرا بأن يحمل لواء الزعامة بين شعراء هذا الفن - ولقد أتبع ابن حمديس هذا الوصف بالافتخار بمواطنيه الذين ظلوا فى صقلية - وبتحريضهم على الجهاد :
أولئك قوم لا تخاف انحرافهم عن الموت ان حامت أسود الكتائب
اذا ضل قوم من سبيل الهدى اهتدوا وأى ضلال للنجوم الثواقب
وكم منهم من صادق البأس مفكر اذاكر فى الاقدام لا في العواقب
اذا ما غزوا فى الروم كان دخولهم بطون الخلايا فى متون السلاهب
يموتون موت العز فى حومة الوغى اذا مات أهل الجبن بين الكواعب
حشوا من عجاجات الجهاد وسائدا تعد لهم فى الدفن تحت المناكب
فغاروا أفول الشهب في حفر البلا وابقوا على الدنيا سواد الغياهب
وفي قصيدة أخرى يدعو الشاعر مسلمي صقلية الى أن ينفضوا النوم عنهم وأن يوجهوا خيولهم نحو المعركة ضد الروم لسلامة الوطن وانتصار أبنائه :
بني الثغر لستم في الوغي من بني أمي اذا لم اصل بالعرب منكم على العجم
دعوا النوم انى خائف أن تدوسكم دواه وانتم فى الامانى مع الحلم
وكأس بأم الموت يسعى مديرها الى أهل كأس حثها بابنة الكرم
فردوا وجوه الخيل نحو كريهة مصرحة فى الروم بالثكل واليتم
وصولوا ببيض فى العجاج كأنها بروق بضرب الهام محمرة السجم
وبعد التشجيع على المقاومة ، أمل الشاعر فى انهزام العدو حتى لا يذوق " بنى الثغر " من الصقليين تلك الغربة التي سبق ان ذاقها هو :
ولله أرض ان عدمتم هواءها فاهواؤكم فى الارض منثورة النظم
وعزكم يفضى الى الذل والنوى من البين ترمي الشمل منكم بما ترمي
فان بلاد الناس ليست بلادكم ! ولا جارها والخلم كالجار والخلم
اعن ارضكم يغنيكم أرض غيركم وكم خالة جداء لم تغن عن أم
أخلى ! الذي ودى بودى وصلته لدى كما نيط الولي الى الوسم
تقيد من القطر العزيز بموطن ومت عند ربع من ربوعك أورسم
وإياك يوما أن تجرب غربة فلن يستخير العقل تجربة السم
ولكن سرعان ما تغلب اليأس على الشاعر بعد استيلاء النورمانديين على جزيرة صقلية اى على تلك الجنة المفقودة التى بكاها ابن حمديس بكاء مرا كأنه قد ضاقت به الارض على سعتها بعدها وكان ما لاقاه ، فى الاندلس من عطف ابن عباد وفى افريقية من احتفاء الامراء به لا يعد عندها شيئا مذكورا
لقدرت أرضى أن تعود لقومها فساءت ظنونى ثم أصبحت يائسا
وعزيت فيها النفس لما رأيتها تكابد داء قاتل السم ناحسا
وكيف ! وقد سيمت هوانا وصيرت مساجدها أيدى النصارى كنائسا
اذا شاءت الرهبان بالضرب انطقت مع الصبح والامساء فيها النواقسا
لئن كان أعيى كل طب علاجها فكم جرب فى السيف اعيى المداوسا
صقلية كاد الزمان بلادها وكانت على أهل الزمان محارسا
فكم أعين بالخوف أمست سواهرا وكانت بطيب الامر منهم نواعسا
من المفروض أن الشاعر لم يكن يعرف شيئا يقينا عن الحالة الحربية والسياسية والاجتماعية فى صقلية ، ولا بد لنا أن نعتبر كل ما ورد في هذه الابيات وفى الابيات التى تليها نتيجة لآلامه ومصائبه بعد سقوط الوطن وانهزام المواطنين .
أرى بلدي قد سامه الروم ذلة وكان بقومى عزة متقاعسا
وكانت بلاد الكفر تلبس خوفه فأضحى لذاك الخوف منهن لابسا
عدمت أسودا منهم عربية ترى بين أيديها العلوج فرائسا
فلم ترعينى مثلهم فى كتيبة مضارب أبطال الحروب مداعسا
أما ملئت غزوا " قلورية " بهم واردوا بطاريقا بها وأشاوسا
هم فتحوا أغلاقها بسيوفهم وهم تركوا الانوار فيها حنادسا
وساقوا بأيدي السبي بيضا حواسرا تخال عليهن الشعور برانسا
هذه كانت الحالة كما تخيلها الشاعر ايام الجهاد ، أما بعد سقوط صقلية وانهزام كتائب المسلمين ، فقد تصور ابن حمديس ان الاعداء أى ، جيوش النورمانديين :
مشوا فى بلاد أهلها تحت أرضها وما مارسوا منهم ابيا ممارسا
ولو شققت تلك القبور لا نهضت اليهم من الاجداث أسدا عوابسا
ولكن رأيت الغيل ان غاب ليثه تبختر فى أرجائه الذئب مائسا
ان شعر الحنين قديم قدم الشعر العربى نفسه ، وكل واحد لم ينس ولن ينسى ما قراه وما حفظه فى هذا الموضوع سواء أكان فى عصر امرئ القيس ( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ) أم فى عصر المتنبى ( احن الى اهلى وأهوى لقائهم ... ) أم فى العصر الحديث ... ولكن حنين ابن حمديس من أصدق ما قيل فى هذا الباب وأبلغه على مر العصور فهو صادر عن نفس معذبة ذاقت الغربة وقلب محطم قاسى الشقاء والهوان والالم والاسى على تلك الديار الصقلية التى كانت عامرة بمواطنيه وأصحابه وأفراد عائلته فأصبحت بعد الفتح النورماندي كما رسمها الشاعر في شعره في حالة الذل والانحطاط وعبر الشاعر عن هذا الشعور فى البيت الذى سبق أن ذكرناه :
أرى بلدى قد سامه الروم ذلة وكان بقومي عزه متقاعسا
يتبين لنا مما سبق ان الحوادث التى كانت تدور فى افريقية لم تكن ذات أثر مهم فى نفسه ، وبالاحرى لم يكن لها أثر واضح فى شعره ، وان وجد فانما
هو أثر باهت يستطيع الانسان العثور عليه فى هذا المديح أو فى ذاك الرثاء ، ولكن القدر أبى الا أن يشاهد الشاعر ايام آخر ملوك صنهاجة " الحسن بن على " انهزام اسطول الملك روجار النورماندى الذى طمح الى الاستيلاء على الساحل التونسي سنة ( 517 ه 1122 م ) ونزل النورمانديون فى مكان الديماس - حدود قرية البقالطة في أيامنا هذه - وتصادم بالجند الصنهاجى وبعد مقاتلة عنيفة تفللت صفوف جيوش النصارى . هذا كان ما ينتظره ابن حمديس الذى كان وقتئذ قد بلغ من السن نحو السبعين ، وبالرغم من شيخوخته وجد القوة الكافية والانفعال المناسب لسرد الحوادث المذكورة في قصيدة عصماء مدح بها آخر ملوك صلهاجة :
ابى الله الا ان يكون لك النصر وان يهدم الايمان ما شاده الكفر
وان يرجع الاعلاج بعد علاجها خزايا على آثارها الذل والقهر
ليهنك فتح اولغ السيف فيهم ولاح بوجه الدين من ذكره بشر
بسعد كساك الله منه مهابة واشراق نور منه تقتبس الزهر
واستطرد الشاعر من ذلك الوصف الى تصوير بارع للمعركة :
بنو الاصفر اصفرت حذارا وجوههم فأيديهم من كل ما طلبوا صفر
تنادوا كأسراب القطا فى بلادهم وكان لهم من كل قاصية نفر
ولما تناهى جمعهم ركبوا به قرا , زاخر الاذى آفاقه غبر
تولت جنود الله بالريح حربهم وليس لمخلوق على حربها صبر
فكم من فريق منهم إذ تفرقوا له غرق فى زخرة الموج أو أسر
وأشار ابن حمديس فى ذلك الى جهاد جنود الله وقال :
أعارب جدوا في جهاد أعاجم خنازير شبت حربها أسد هصر
اذا قيل يا أهل الحفائظ أقبلت ملبية فيها غطارفة غر
كتائب من كل القبائل أقبلت لفرض جهاد ما لتاركه عذر
اعز بهم ذو العرش دين محمد وضم عليه من كفالته حجر
اختم بهذه الابيات الكلام عن ابن حمديس الصقلي ، عن شيخ سرقوسة الذى لم يزل إلى أيامنا هذه مجهول الفضل مغموط الحق وتنتظر قصائده أن يهتم بها المتخصصون حتى تتكشف للناس عن كنوزها المدفونة وجواهرها المكنونة -
