* قد يبدو فى أسئلتى - استاذ أرنلداز - نية " محاكمة " الاستشراق لانحصارها فيما بينه وبين الحركة الاستعمارية من صلة . هذه النية - إن وجدت - قليلة الأهمية إذا ما قورنت بامكانية وجود الأسئلة نفسها كظاهرة تاريخية نتجت عن وعى جديد غايته مراجعة المعايير والاعتبارات الثقافية واكتشاف ما وراءها من بسيكولوجية العلاقة : مستعمر / مستعمر .
ولنبدأ - على الوجه التقليدى - بدوافع استشراقكم .
كان استشراقى بادىء الأمر بدافع الاطلاع وحب الغريب ، فكرت - وكنت لا ازال طالبا - فى التوجه الى الفلسفة الهندية معرضا بذلك عن الفلسفة الكلاسيكية ، ولكن أحد أساتذتى عرض على فكرة التوجه الى فلسفة العرب فاخدت برأيه ، وكل رغبتى اذ ذاك كانت تتمثل فى أن أخرج من الاطار الغربى وأسافر الى الشرق وهو ما حدث فعلا . بعد ذلك وجدتنى أواجه الموضوع مواجهة غيرت من مشاريعى وبحوثى . اكتشفت أولا أن الفلسفة فى حد ذاتها ليست أهم ما يهتم به وان التفكير الاسلامى كتفكير ديني يختلف مظاهره اكثر خصوصية وأجدر بالاهتمام . وهو تفكير يجب التعرف عليه قبل الوصول الى فلاسفة الاسلام أنفسهم والا كان هؤلاء مجرد ورثة لليونانيين أو وسطاء بينهم وبين أهل القرون الوسطى من اللاتينيين . هجرت اذن الفلاسفة واتخذت الطريق المعاكسة بقيادة لوى ماسينيون Louis Massignon وطه حسين وفاستون فيات ( Gaston Wiet ) الذى كان مديرا لمتحف القاهرة آنذاك . الى هؤلاء الثلاثة يرجع الفضل فى تغيير وجهتى .
انكببت بعد ذلك على علوم الدين مارا بفقه اللغة فبالفقهاء ، ثم اهتممت اهتماما خاصا حين أصبحت مجهزا بتفاسير القرآن حتى وصلت مدفوعا ومقادا بطه حسين الى ابن حزم الذى خصصت له عدة سنوات من بحثى . بعد
عرص أطروحتى رجعت الى الفلاسفة فوجدتهم أكثر وضوحا فى ذهنى مما كانوا عليه فى البداية ، وأفضت بى الطريق الى الصوفيين فكان لهم من أعمالى نصيب وافر ولكنى لم افردهم بالعناية . هكذا ابتعدت عن هدفى الاول وغيرت نظرتى اليه ولكنه هو الذى دفعنى الى ما وصلت اليه . . إلا أن اختصاصى الحقيقى يتصل بتفكير أهل السنة . وهو تفكير أعجب به لما فيه من قوة الاستدلال . كما أهتم بمفاهيم أصحابه وبطريقتهم فى استنطاق القرآن استنطاقا متنوعا غير متوقع غالبا . واذا كانت صورة الفلاسفة قد ظهرت لى فى شكل جديد لم أره عند الشروع فى البحث فان الآخرين ممن مررت بهم أعنى علماء الدين والصوفيين والنحويين تميزوا فى ذهنى بعقل مستقل ثرى بما قد لا يتوقع من الرأى والاكتشاف ، بل ويحمل بذرة لتفكير يتصل من بعض النواحى بتفكيرنا نحن عبر القرون الوسطى . هذا اكتشاف قمت به .
* فكرة " الغريب " (L,EXOTIQUE) لا تخلو من اهمية الرمز ، خصوصا عندما كانت تقترن بمعنى الدونية ...
صحيح . ولكنى استعملت الكلمة هنا فى معنى الخروج من محيط بيئتى وأجوائها الذهنية لا فى معنى الفولكلور .
* ما رأيك إجمالا بعد هذا فى اعمال المستشرقين ؟
ثمه أعمال موضوعية بحتة غايتها تدقيق بعض المعلومات وعرضها ، وهو شأن أعظم مستشرقى القرن التاسع عشر الا أنهم لم يهتموا كلهم بالعالم العربى الاسلامى الذى تريد أن أخصه بالحديث . بعضهم اهتم باللغة الفارسية وبعضهم بالتركيه الى غير ذلك . على كل يأتى فى الطليعة فولدزيهر (GOLDZIHER) ولكن لا داعى للقول بأن ماسينيون كان الرجل الذى عرف الى جيلى حقيقة الاسلام عموما والحضارة العربية الاسلامية بوجه خاص وكان ملتزما . يأتى بعد ذلك أكابر المستشرقين الامريكيين والانقليزيين ، والجماعة الثانية بمن فيها كنيكلسون (NICHOLSON) مثلا أكثر وزنا . دون ذلك بالنسبة لى اعمال جيب (GIBB) لأنه ليس له مركز اهتمام واحد . ثم يجب الا ننسى الاسبانيين ومنهم بالاسيوس (ASIN PALACIOS) الذى قام بأعمال موضوعية تهم المستشرق وإن كنا قد نجد فيها رائحة النوايا الدينية . أذكر فى مستوى آخر أعمال الهولنديين وخاصة فى ميدان الشافعية . كل هؤلاء باستثناء ماسينيون عرفوا بالاسلام عن طريق الوثائق وطبع الآثار
والدراسات . هذا طبعا بقطع النظر عن المعاصرين . أعود الى ماسينيون : لقد جمع بين الموضوعية العلمية والالتزام . والتزامه يرجع الى ماضيه الشخص والناس على علم به الآن والى ميل تعاطفى الى الاسلام خلق فيه نوعا من التوتر عرفه فى الشرق والمغرب . لقد كان عبقريا دون شك وذا بصيرة غير معهودة ، فحرر الاستشراق ، استشراقنا المحصور فى العالم العربى الاسلامى ، من الدراسة العلمية الجافة المبالغة فى التدقيق ليبنيه على التعاطف والتفهم الباطنى . دون الاخلال بقواعد البحث . كلنا يعترف له بالفضل وخاصة أنا لصلتتى به .
* وتمة اعمال ليست لها هذه الموضوعية ولا هذا التعاطف :
طبيعى أن يكون فى كل زمن وخاصة فى الماضى علماء أقل موضوعية . الواقع أن الغرب اهتم بادىء الأمر بالعالم العربى الاسلامى من ناحيتين : ناحية الفلاسفة مع حصرهم فى البعض منهم كالفارابى وابن سينا والغزالى والتعريف بالاسلام رجوعا اليهم . وغاية أصحاب هذه النزعة معرفة ما نقله العرب من الافكار الفلسفية مع تصرفات مسيحية لم تستطع تغطية الاعجاب بهم لأنها ثانوية . الناحية الثانية ما ورثه الغرب عن الشرق من جدال دينى موجه ضد الاسلام وهو جدال انعكاسى . ولا يخفى أن بعض الدارسين يهتمون اليوم بهذا الجدال ، وذلك بتتبع ما كتب المسيحيون ضد الاسلام وردود المسلمين عليهم وهى أيضا ردود مهاجمة . أعتقد أن مثل هذا التتبع مفيد اذا ما وضع فى زمن من الصراع انعدمت فيه الموضوعية تاركة المجال للدفاع وللهجوم العقائديين أو بالاختصار للحرب . الحرب دوما كارثة ولكنها لما كانت حرب أفكار ساعدت على ربط صلات تلاشت فيما بعد ولعلها تحبى من جديد على صعيد آخر . لقد اتصل الغربيون بالاسلام خلال القرون الوسطى وهذا أمر محمود ولو أنهم لم يدركوا من حقيقته شيئا ! نستثنى من بين المجادلين بيار فينيرابل ( Pierre Le Venerable ) الذى كان ابن عصره ولا شك ولكنه حاول أن يفهم الاسلام . ففى حين كان يتساءل معاصروه هل أن الاسلام من الوثنه ( وقد أجبروا على تنزيهه لأنه ظاهر التوحيد ) أو أنه تجديد لليهودية أو ما إذا كان مجرد انحراف عن المسيحية وفرعا منشقا عنها دون أن يتمكنوا من الحاقه بصنف من أصناف التفكير المسيحى كتب هو أشياء تدل على ذهن متسع ورغبة حقيقية فى فهم الاسلام . إلا أن هذا الدين قد شوه ومسخ عبر القرون الوسطى عموما وبقى كذلك حتى القرن الثامن عشر.
* ورينان (RENAN) ؟
فعلا ! يجب أن نقول اذن حتى القرن التاسع عشر . صحيح أن نظرة " رينان " الى الاسلام كانت متأصلة فى الخطا . لقد أفضت به آراؤه الشخصية الى ارتكاب غلطات فى فهم المسيحية وأخرى أدهى وأمر فى فهم الاسلام لبعده عنه مما سهل عليه التشوبه . وفى زعمه الذى رد عليه جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده شاهد على قصر فهمه : هو يرى أن أعظم ما فى الحضارة الاسلامية يتضارب مع الاسلام وهذا لا يدعم . فنحن اذا قارنا بين الفلاسفة والحنابلة مثلا وجدنا هؤلاء على ما هم عليه من تشدد أعظم وأثرى من الصورة التى يقدمها عن أهل السنة . أضف الى هذا اعتبارات عنصرية مسبقة تجاه العرب مأتاها الظواهر ولكنها لا تمت الى الموضوعية بصلة . إن العقل ليحتار كيف أن هذا المؤرخ لم يستخف بالفكر فحسب وانما استخف أيضا بالتاريخ.
* لهذه النزعات عموما صلة بالاستعمار ولا شك ؟
اذا كان لا بد من الحديث عن أيام الاستعمار فيجدر القول بأن الدراسات العربية الاسلامية التى قام بها الفرنسيون ابتداء من احتلال الجزائر كان يوجهها الشعور بأن فرنسا هى المسيطرة كما تكيفها أحيانا نوايا سياسية . أشير بهذا الى بعض المستشرقين الذين حاولوا زرع النزاع بين العرب أو بين هؤلاء والبربر ، كل حسب طريقته ومراميه . نذكر أيضا فى هذا الباب ما كان من الدراسات خاصا بالقوانين والاحكام الشرعية دون أن يتصف بالموضوعية ( وهذا لا يعنى انه كان ذاتيا ) ومأتاه أن أخطر مشكل صرف إليه جماعة القانون عنايتهم ملاءمة الشريعة الاسلامية مع القانون الفرنسى أو العكس تبعا للمقتضيات الادارية . وفى هذا اساءة تامة .
إلا أنه لو لم تكن هذه الملاقاة لخلا عهدنا هذا من ميزات الالتزام و " عيش الحال " . أكرر أن كل شر يحوى خيرا . ففى الحرب الجزائرية خير ، لا لأنها انتهت بحصول الجزائريين على ما رغبوا فيه ، بل لأنها دفعت الآخرين وخاصة الفرنسيين الى التفكير فى وجود هذا الشعب الذى لم يكونوا بتصورنه الا من خلال بائعى الزرابى .
أما الآن فنحن طبعا أكثر التزاما . لم نعد ندرس الاسلام كما ندرس مصر القديمة او ما كانت عليه أمريكا قبل اكتشافها . كلنا يدرك أن الاسلام دين حى وان هناك بلدانا إسلامية يجب النظر اليها بعين الاعتبار خصوصا وأن
التطور التاريخي فى الفترة الاخيرة قد قوى الروابط بين مختلف أجزاء العالم . إن المستشرق يعمل اليوم فى جو أكثر إنسانية ، إلا أنه أحيانا يمضى بعيدا عندما يتناول المسائل السياسية لا كمستعمر وإنما كرجل يهتم بالسياسة وبالعلاقات بين الشعوب . ألنا الحق فى عمل كهذا بدعوى الاستشراق ؟ أنا شخصيا لا أعتقد ذلك .
* نعود إلى نقطة هامة : أنت ترى إذن أن هناك توازيا بين الاستعمار والاستشراق ؟
من الثابت أن الاستعمار حفظ الاستشراق ورعاه . وليس فى قولى ما يعنى ان الاستشراق ينعدم لو لم تكن هذه الرعاية . ذاك ما نلاحظه فى خصوص العلاقه بين انجلترا والشرق الادنى أو الهند وبين هولاندا واندونيسيا وبين فرنسا والمغرب أو سوريا ولبنان بعد ذلك وبين أسبانيا والمغرب الاقصى وحتى بين ايطاليا ومستعمراتها . هذه العلاقة أنتجت بحوثا قد تخلو من النزاهة ولكنها على كل بحوث . فكما أن البحوث العلمية تطورت أثناء الحرب استفاد الشرق ولا شك من عهد الاستعمار واستثمره .
* ليس من التشدد أو الإحراج ، ولكن نريد أن نعرف ما إذا مهد بعض المستشرقين للاستعمار وأعانوه :
اسمع ! بصراحة لا أرى ذلك ، على أنه قد يكون استعمل هذا أو ذاك فى خدمة حكومته لأداء مهمة ما ، ولكن يصعب أن نعرف من كان ينتمى الى المصالح السرية . ليس مستحيلا أن يكون من المستشرقين الفرنسيين من قام بهذه المغامرة . ويبدو أن الانقليزيين عرفوا بها أكثر .
كل ما يمكن الجزم به على وجه العموم أنه كانت للمستشرقين نظريات تتعلق بالمستعمرات : منهم من يريد المحافظة عليها ومنهم من لا يكترث باستغلالها بقدر ما يهتم بشهرة بلده ومنهم من يرى أن فى الاستعمار فوائد للمستعمر ومنهم أيضا من له أفكار تقدمية فكان يتنبأ بتحرر الشعوب . وقد كثر الآن طبعا القائلون بأن الاستعمار لم يخلق ليدوم . يقال إنه انتهى !
كانت هناك على حد تعبير البعض رسالة " تحضيرية " لما أصاب العالم العربى الاسلامى من تخلف فى وقت ما . من جهتى لا أريد أن أصادمك ولكنى اعتقد أن المستعمر قد عرض شيئا من بضاعته وأفاد بعض الافادة . فمن
المعلمين مثلا الذين استقروا بالمغرب من أدى مهمته على احسن وجه وقدم للنشء ما يجب تقديمه . ولما كان الحديث محصورا على الاستشراق لا سبيل الى انكار التسهيلات التى أدتها هذه الحركة للمستعمر فى أيامه . ومع أننا الآن نعمل فى مستوى آخر جديد وجب علينا الاعتراف بفضل السابقين .
* ألا ترى أن أهل البلدان العربية الاسلامية يبالغون فى تقدير أعمال المستشرقين ؟ من ذلك مثلا انهم يبررون انكباب هؤلاء على القديم كدراسة الفقه ولا يسمحون به لأنفسهم :
ان دراسة الماضى واجبة متأكدة اللهم إلا أن تنحصر الحضارة فى الصناعة ، وهو أمر مستحيل ، لهذا لا تضايقنى أبدا دراسة الاسلام . لست فقيها ولكنى لا أهاجم فقهاء اليوم اذا كان فى معارفهم ما يوضح المشاكل ويكشف عن أصولها . لست ضد الفقه لأنه ماض أو تراثى قديم ولكنى ضده كلما جمد الفكر وعرقل سبيله ، كلما استحال الى مجرد المعرفة والنقل .
أما فى خصوص تقدير الاعمال فيكفى أن ننظر الى اتجاه التاريخ : إن البلدان العربية الاسلامية تنتج الآن من المثقفين وأهل الفكر والرأى انتاجا وافرا . وأملى أن أرى منهم من يحاضر فى جامعاتنا حتى يتم التبادل والحوار .
