" ص -٨- قطع متوسط . مطبعة دار الطباعة والنشر بعمان "
اتاح لنا الاستاذ الشاعر عيسى الناعورى ، فرصة ثمينة نستمتع فيها بارتياد افاق جديدة نضرة عطرة من الشعر العربي الرائع المعاصر ، هو شعر الشاعر العربي المهجرى الفذ ايليا ابي ماضي
والواقع ان الشاعر اذا كان قديرا فى الكتابة ، موهوبا فيها ، فانه اقدر على تحليل الشاعرية المحلقة من سواه . . وعيسى الناعورى من هؤلاء الأدباء النادرين الذين جمعوا إلى موهبة الشعر موهبة النثر وقد جاء تحليله لشاعرية ايليا ابي ماضي في كتابه هذا الذهبى ، انصع دليل على ما ذهبنا اليه .
وسنجول معه فى كتابه حتى نوفى الى نهايته . . وكتاب الاستاذ الناعورى ، كما حدثنا عنه ) مجموعة مقالات واحاديث حول ادب الشاعر ايليا ، كتبها فى اوقات مختلفة . . وقد ربط بينها وجمعها فى هذا الكتاب ( ومع ان مادة الكتاب فى الأساس متفرقة ، فقد استطاعت ريشة المؤلف الساحرة ان تؤلف بين خيوطها فتخرج لنا منها هذه البردة الرائعة النسج والألوان .
فهذه ) نظرة عامة فى شعر ابى ماضي ( يشرح لنا فيها المؤلف مراحل نمو شاعرية ابي ماضي في دواوينه الاربعة ، وقد جعل ذروة نضجه - لانضوجه كما جاء فى الكتاب ديوانه الثالث ) الجداول ( ، " الغنى بجياد القصائد التى تمتاز بالشعور الانساني الشامل مع لطافة الاسلوب ، وجمال الصور ، مما يندران يجتمع لشاعر واحد " . . ويروى لنا المؤلف رأيه فى الديوان الرابع " الخمائل " اذ يقول : " انه نكسة الى الوراء فاكثره من شعر المناسبات الذى كان ابو ماضي شديد الحرب له . .
ولست أرى رأي المؤلف الناقد فيما ذهب اليه . . فقد روى بنفسه قصائد ومقطوعات سامقة البيان من ديوان " الخمائل الذى يتسم باتزان النظرة ، ووضوح البيان وبالانسياب فى الاسلوب كما ينساب الجدول الرقراق يسير هادئا على الارض المستوية
بعد ان تكسر على الصخور الشواهق وارتمي في أحضان الاخاديد هدارا متدفقا . وما يضير شعر المناسبات شئ اذا جاء قويا دفاقا محلق الاجنحة في آفاق من الاهداف والمعاني والبيان فشعر المتنبي وابي تمام اكثره من هذا القبيل ، ومع ذلك فقد بقى شعرهما مشرقا على توالى الاجيال والقرون ولو لم يكن فى " الخمائل " سوى قصيدة ) الشاعر والسلطان الجائر ( لكفته فخرا وازدهاء
ويرى المؤلف فى شعر ابى ماضي ، المثالية الانسانية الراشدة ، فانه يهدف بقصائده الى توجيه العالم اجمع نحو المثل الصالحة ، ونحو الخير والحق والجمال . و الى تقوية الضعيف ، وتعليم الجاهل ، وانعاش الفقير ، واسعاف المظلوم ، وتحرير المستعبد " وهذا الذي يقوله المؤلف واقع وملموس فى قصائد شاعرنا الألمعى ، يحس به كل قارئ وكل متأمل فى تضاعيف أشعاره ، فلا تكاد قصيدة من قصائده الغر تخلو من هذه النغمة ذات الجرس الايقاعى البعيد الأثر فى اغوار النفوس وهو ما اكسبه اكبر قدر ممكن من المعجبين فى انحاء العالم العربى اجمع .
وشعر ايليا فى هذا الميدان منسجم ، ويكاد قارئه يشعر بأنه لا يقرأ شعرا وانما يتلو كلاما سهلا منثورا لولا القوافى والاوزان . . وقد سما شعر ابي ماضي عن اضرابه المغتربين فى فصاحة الاسلوب ونصاعة التراكيب والبعد بها قليلا آنا وكثيرا آنا عن مجالات العامية الركيكة المبتذلة . وقصيدتا ) ابتسم ( و ) الطين ( تنبئان بوضوح عن العاطفة الطيبة المستقرة فى جوانح شاعرنا والفياضة من قلبه الكبير الى شعره الثر المشرق
قال : السماء كيئية ! وتجهما قلت : ابتسم ، يكفى التجهم فى السما
نسي الطين ساعة انه طي ن حقير فصال تيها وعربد
وكسا الخزجمه ، فتباهى وحوى المال كيسه فتمرد
وكلمة : كيسة هنا عامية مبتذلة نقلتها ريشة الشاعر الى جو شعره المتسامي .
ولو قال : " جيبه مثلا لكانت العبارة أنقى واسمى . ولكن من دأب هؤلاء الشعراء
المهجريين أن يتناولو الكلمات المبتذلة فيقحموها اشعارهم ، لتكتسي برودا رائعة جديدة
من البئية الشعرية العبقة المضفاة عليها .
وما اروع هذا البيت فى قصيدة الطين فى مبناه وهدفه واسلوبه :
يا اخي ! لا تمل بوجهك عني ما انا فحمة ولا انت فرقد
ومن رائع شعره الانساني قصيدته ( الفقير ) :
قل للغني المستعز بماله مهلا ! فقد اسرفت فى الخيلاء
الى ان يقول :
انصراخاك فان فعلت كفيته ذل السؤال ومنة البخلاء
ونرى ان البيت الاخير من هذه القصيدة الذهبية الرنانة لا يخلو من مأخذ ، لقد هبطت فيه شاعريته الى المستوى العامي العادي ، ولو قال مثلا : فانك ان نصرته قومته ، وجعلت منه عضوا نافعا بانيا ، بدل ان يبقى أشل اليوم ، وضارا ، هداما ، غدا . . لكان المعنى أجمل واسمى واعمق . .
ويكشف لنا المؤلف عن مدى شغف شاعرنا بالحرية فيحلل لنا هذه العاطفة المتأججة بين شغاف ايليا ، ويضرب لنا الامثال بقصيدته ) السجينة ( وهى احدى قصائده الغر اللوامع وتطل من نوافذها العالية المعانى الروائع التى سجلتها ريشة تلك البدوية القحة الشديدة الحساسية بنعمة الحرية والانطلاق .
لبيت تخفق الارواح فيه أحب الي من قصر منيف
وليس غريبا على من يذهب فى حياته الى الشغف بالحرية والمساواة أن يكون من المؤمنين الداعين بحرارة الى بساطة الحياة ، حتى تخف وطأتها ، وحتى يحياها الناس طيبة هانئة ، لاهوات هائلة بين طبقاتها ، كما يشعر الجميع بسعادة الفرد والمجتمع وارفة الظلال شاملة . . ويمضى الشاعر بهذه الفلسفة الروحية حتى يصل بها او تصل به الى ما يسمى بالقناعة والرضا والتسليم فهو ممن قال فيهم المتنبي :
) وفي الناس من يرضى بميسور عيشه (
اسمع ابا ماضي وهو يصور قناعته المتأصلة الجذور :
رضيت نفسي بقسمتها فليراود غيري الشبها
انا من قوم اذا حزنوا وجدوا فى حزنهم طربا
واذا ما غاية صعبت هونوا بالترك ما صعبا
ثم اسمعه يجيد الايقاع على اوتار شاعريته بهذا المعنى اذ يقول فى معرض الغزل الرفيع :
يريد الحب ان نضحك فلنضحك مع الفجر
وان نركض فلنركض مع الجدول والنهر
وان نهتف فلنهتف مع البلبل والقمري
فمن يعلم بعد الي وم مايحدث او يجرى
وقد بلغت به القناعة الى حد انه لا يهتم الا بيومه وحاضره كما قال الشاعر القديم
ما مضى فات والمؤمل غيب . ولك الساعة التى انت فيها
والله در المؤلف اذ يجلولنا ) مفاتن الطبيعة ( فى شعرايليا وقد ايد نظرياته الدقيقة ، فى هذا الباب بمقطوعات خالدات من شعر ابي ماضي ، وهى مقطوعات تتماوج فيها تعابير الغاب والشعاع ، والضباب ، والنسيم ، وتترقرق فيها الجداول ، وترتفع فيها الهضاب ، وتتراقص فيها أشباح الظلال ، والظلام . . والاصل الذي جعل ايليا . وصحبه يتعشقون جمال الطبيعة المتجردة من مظاهر الصناعة البشرية قد كشفه المؤلف الحصيف فعزاه الى تململهم بمظاهر حياة المدن الامريكية الصاخبة التى انغمس فيها السكان واصبحوا كآلات صرف لاجمال فيها ولا احساس وفي اثناء مطالعتنا للقصائد التى يتمثل بها المؤلف من شعر ابي ماضى تكشف لناتكرار واضح لمعاني قصيدة ) الشاعر والسلطان الجائر ( فى القصيدة الاخرى : ) الطين (
ألك القصر دونه الحرس الشا كي ومن حوله الجدار المشيد ؟
فامنع الليل ان يمد رواقا فوقه . والضباب ان يتلبد
ومن امتع فصول الكتاب الذي كله متعة وفن وأدب عبق ، هذ الفصل المعقود حول قصيدة : ) الحكاية الازلية ( . فلقد اجاد الناعورى فى تحليل هذه القصيدة المطولة حتى سامي الشاعر في الروعة والابداع . فها هو شاعر رفيع الشاعرية يحلل شاعرا رفيع الشاعرية فى نثر فني ناصع رفيع العماد عميق الأتاد لقد برم شاب جميل بشبابه واستعجل الشيخوخة وبرم شيخ ضعيف بشيخوخته واحب العودة الى ايام الشباب الحلوة التى كل ما فيها امان وأحلام خلابة ، ويرمت شابة وسيمة بجمالها الفتان الذي عكر عليها صفو الحياة ، وبرمت شابة دميمة بدمامتها ، وبرم فقير بائس بفقره ، وبرم غني من تكاليف جمع المال وتنميته وحفظه وطلب واحد كل من هؤلاء ان يتبدل وضعه بالوضع الآخر واجيب كل الى طلبه ومع ذلك فقد بقيت الشكوى الانسانية الخالدة كما هى ذلك لان فى الدنيا شيخا وشابا ، وفقيرا وثريا ، وحسناء ، ودميمة . . كل منهم غير راض بحاله .
هم حددوا القبح فكان الجمال وعرفوا الخير فكان الطلاح
وكما هيمن الاستاذ الناعوري على دفة البيان وواتاه التوفيق في تحليل قصيدة ) الحكاية الازلية ( فكذلك شأنه فى القصيدة الثانية المشهورة لشاعرنا أبي ماضي : ) الطلاسم فقد أوسعها تحليلا جميلا وعرضا وجلاءا رائقا فائقا . . وقد اورد المؤلف وجهات نظر القراء والنقاد في ناظم هذه القصيدة ، ورد على كل منهم بما يراه فمنهم من يقول إن الشاعر ) لا أدرى ( محتار بلغت به الحيرة الى الشك المتناهى . . ومنهم من يقول انه كالبدوى الساذج الذي يدخل مدينة عظيمة فتبهره بروعتها ويصير فيها مندهشا ويرى المؤلف ان الشاعر ليس لا ادريا ولابدويا ساذجا يدخل مدينة لأول وهلة . ولكنه قد وصل الى المعرفة باسرار الحياة والكون ، واراد لقرائه أن يعرفوهما كما عرفها من طريق البحث والتنقيب والتفكير المنظم العميق وانالا ارى هذا الذي يراه الاستاذ الفاضل
فاني استشف من قصيدة ( الطلاسم ) هذه غير ما استشفه . . رى انها فى أجملتها وتفصيلها اعتراف من الشاعر بعجزه وعجز الانسانية مهما سمت فى التفكير وتوغلت فى التنقيب وتعمقت فى الفلسفة ، عن الوصول الى سرائر الحياة والكون وكنه الخالق العظيم وكان هذا من الشاعر ايليا ابي ماضى نتيجة للبحث العميق والتفكير المتواصل الذي رجع به كما بدأ ( العجز عن درك الادراك ادراك ) . . وقد أشار القران المجيد إلى عدم انتاج تفكير مثل هذا فى هذه الشؤون العليا المحجبة عن علم الانسان المحدود : ) ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق انفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ( وقد دلنا على هذا المعنى الذي هدفت اليه قصيدة ( الطلاسم ) هذه قول الشاعر في خاتمة مطاف بحثه اللامنتج وفي ختام قصيدته
انني جئت وامضى وانا لاأعلم
انا لغز ، وذهابي كمجيئي طلسم
والذى اوجد هذا اللغز ) لغزا اعظم (
لا تجادل ذو الحجى من قال :
إني لست ادرى
ويقدم لنا المؤلف النابه فى " نثار متفرق " نماذج ساطعة من شعر الاجتماع والعاطفة لابى ماضى . . ومن أجمل هذه المقطوعات : ( هي ) . . وتلخص لنا قصة فتية وفتيات سمروا فى دار سيد ، وقد سأل مقيم السمر المرح ، فتى جميل الطلعة ، عن حبيبته ، فيجيبه الفتى بسرد مظاهر تفانيها فى حبه ويقول انها لا تماثلها غادة حاضرة . . واذ ذاك تثور النفوس وتتحرك السيوف غضبا وحقدا على هذا الفتى الطائش الارعن . . ويتلفت اليه صاحب الدعوة فى ازدراء ويقول له : لقد وصفت اخلاق حبيبتك بما يدخل فى دائرة المحال والاغراق ، فسمها لنا . . فيقول له : انها أمي .
هذا كله جميل في تبيان فضائل الامهات في أسلوب لطيف مؤثر على غير ما اعتاد الشعراء ان ينظموا من شعر الامهات " كما يقول الاستاذ الناعورى . . الاأن تحريك السيوف لا اراه منسجما مع جو المسرحية الفاتنة . . فالفتى لم يشتم احدا فى المجلس ، ولم يقل هجرا وانما نطق بالقول المعتاد فى وصف الحبيب المعنى عمن يحبه
اما القصيدة التي انشأها ايليا في حفلة تكريمه بسورية عام ١٩٤٩ م والتي اختتم بها المؤلف كتابه النفيس فهى من الدرر الغوالى فى جبين الشعر الغربي ، ويكفيها قوله
عجبا لقومي ، والعدو ببابهم كيف استطابوا اللهو والالعابا ؟
وهو بهذا يشير الى الاحداث القريبة جدا من يوم اقامة حفلة تكريمه . انه يشير الى ما حاق بالعرب ابان صيالهم مع الصهاينة مع فى فلسطين العربية الخالدة حينما انثلمت كبرياء مجدهم بفعل تجمعات هؤلاء المشردين الاوغاد ، وانصارهم . . وسؤال ابي ماضى هنا سؤال لا يزال يجول فى فم الزمان حتى يستطيع العرب الاجابة عنه بما يغسل العار ويرد الشرف المثلوم
