لى مع حشاد رحمه الله ذكريات خليق بى ان اسميها "مواقف" من حقه على ان اسجلها لمن لم يكتب له شهودها ، لانها تبدى جوانب من عظمة هذا الرجل الخالد .
وقد طالما حدثتني نفسى بان استجيب لهذه الرغبة ، واثارت لي من تلك الذكريات او المواقف اكثر من حافز ، ولكن عوائق كانت تقوم في كل مرة فتحول دون ذلك .
وفى هذا الشهر ، شهر ديسمبر ١٩٥٧ ، تحل بنا في تونس ، وتمر باحرار العالم كلهم ، وعماله اجمعين ، ذكرى من ذكريات هذا الرجل الحر ، والزعيم النقابي العالمى .. شهيد الكفاح التحريرى التونسى ، وضحية الاغتيال ( الاحمر ) (١) الجبان ، المرحوم : ( فرحات حشاد ) .
تحل هذه الذكرى فتثير من كامن تلك الذكريات ما تثير ، فتشير النفس من جديد بكتابتها ، وبانعم ما به تشير ..
ها انذا - اذن - اخط اليك يا قارئى بعض تلك الذكريات الخوالد فى نفسي ، راجيا ان تدلك على ما قدرت ان تدلك عليه من جوانب حشاد ، التى لن تنشيء فى نفسك الشعور بعظمته انشاء ، ولكنها تشهد بان تلك العظمة حق ، وتؤيدها تاييد الثقة واليقين ، وان لم تكن من قبل موضع الشك ، ومحط الارتياب .
١) مؤتمر ليلة القدر .. وحقوق الانسان :
كان اولها موقفا وطنيا جليلا .. انه من ملحقات (مؤتمر ليلة القدر) الذي اعلن فيه الوطنيون التونسيون كلهم حكم الاعدام .. على الاستعمار في تونس ، بلسان رئيس المؤتمر ، شيخ قضاة المحاكم التونسية المرحوم " العروسى الحداد".
لقد قامت الحركة الوطنية في تونس على اساس من الحكمة والتعقل ، وكان من تعقلها ان لا تفترض الحلول التى تقترحها للمشكلة التونسية افتراضا ، بل تتخذ خطوات ايجابية ، يمكن قبولها ، ويمكن إدخالها حيز التنفيذ فى الحال .
بيد انها بالرغم من هذا التعقل الذى كاد يضع قيم البعض من قادة الامة فى الميزان ، لما كان يتسم به ظاهرا من تسامح في حقوق الوطن المضاعة ، فقد كان الفرنسيون يحاولون في اكثر المناسبات ان يفتحوا لها باب المساومات ، او يثيروا حولها من كوامن الاحقاد بين بعض عناصر الامة ما يرجون معه مد نفس الحضور الفرنسي ، او - في الاقل - تضليل التونسيين عن هدفهم الاسمى الذى قرروا من اجيال ان لا يرضوا به بديلا .. " الاستقلال " .
وجريا على هذه السياسة الضالة المضلة ، كان الساسة الفرنسيون الاعلون يصمون اذانهم عن كل طلب يمس الاستقلال من قريب او بعيد ، ويلقون فى روع العالم كله ، بما يبثون فيه من دعاوات : ان الوطنيين التونسيين متطرفون ، فهم لا يقدمون من العروض الا ما يستحيل تلبيته ، لانه يهدد الحضور الفرنسي في تونس ، ولاشك ان فرنسا لا تقبل بحال ان يوضع هذا الحضور موضع النقاش
واستبدت هذه الفكرة بالساسة فى فرنسا ، فاستلهموا من نظام " الكومنويلث " ونظام " الكومنفورم " نظاما يضمن للحضور الفرنسى الدوام ، ويهيئ له سبيلا الى الخلود في كل ارض وطئتها اقدام الفرنسيين ونالها حكمهم ، فاذا هم يصممون خطة ( الوحدة الفرنسية ) ويسعون سعيهم لادماج تونس - طوعا او كرها . فى بوتقتها .
وجاءت كلمة الامة موحدة صريحة فى رفض الوحدة مع فرنسا ، وكان لهذه الوحدة الوطنية ما بعدها ، فصفا الجو بين سائر العناصر الوطنية التونسية ، وانبثق هكذا عن مشروع " الوحدة الفرنسية " مشروع لم يحسب الفرنسيون له حسابا هو مشروع " الوحدة التونسية "
لقد تقاربت بين التونسيين خطط المقاومة شيئا فشيئا ، وتهيأ الجو بالاخارة لعقد مؤتمر سياسي مشترك ، يتسع حتى يشمل " الديوان السياسي" للحزب الحر الدستوري التونسي ، و" اللجنة التنفيذية " للحزب الحر الدستورى التونسي ، والمنظمات القومية التى اخذت تنبت فى الحقل الاجتماعي التونسي كالجامعة العامة
للموظفين التونسيين والاتحاد العام التونسى للشغل ، بقيادة الزعيم النقابى " فرحات حشاد" . بل وحتى تشمل بعض من لم تكن لهم هوية سياسية واضحة من " المستقلين " كما يسمونهم .
ان فرنسا طالما عملت لتوسيع الهوة بين الوطنيين التونسيين خاصة ، وطالما اتخذت من تعدد تلك العناصر نسبيا سلاحا تطعن به قادة الامة ، وتعوق به خططهم تعويقا .. او ليس من التعقل ان يفلوا سلاحها هذا بعمل مشترك يجابهونها به ، ليسفهوا احلامها فى ايجاد الفرقة بينهم على حساب الوطن المقدس ؟
وتم عقد المؤتمر السياسى الموسع المشترك ، في الثالث والعشرين من اوت ١٩٤٦ - الموافق للسابع والعشرين من رمضان ١٣٦٥ - ومن اجل تاريخه الرمضاني هذا عرف باسم ( مؤتمر ليلة القدر ) .
ولعل اطرف ما يحمل هذا المؤتمر الوطني الكبير من دلالات ، ما يشير اليه عقده تحت رئاسة المرحوم العروسي الحداد وهو شيخ هم ، قضى شطرا من حياته فى رئاسة المحاكم الجنائية .
وقد دعى هذا القاضى الجنائى في هذه المرة لا ليرأس جلسة قضائية تصدر حكما بالاعدام على جان من الجناة بعينه ، بل ليرأس مجمعا يصدر الحكم على النظام الاستعمارى من اسه بالفساد ، وليعلن رأى الشعب التونسى كله صريحا ما امكنت الصراحة ، بانه لن يحتمل نظام الحماية ، وكابوسها الاستعمارى ...
أجل ، ان " مؤتمر ليلة القدر " قد كان صفعة لسدنة الاستعمار الفرنسى ، اذ أسفر عن وثيقة حكمية جازمة تصرح - بعد عشرين " حيثية " قضائية - بان المؤتمر يرى : " ان نظام الحماية نظام سياسي واقتصادى لا يتفق مطلقا مع سيادة الشعب التونسى ومصالحه الحيوية ، وان هذا النظام نظام استعماري ، قضى على نفسه أمام العالم بالاخفاق ، بعد تجربة خمس وستين سنة ، كما يعلن عزم الشعب الثابت على استرجاع استقلاله التام ، والانضمام - كدولة ذات سيادة - الى جامعة الدول العربية ، وهيئة الامم المتحدة ... " (١)
لم يكد المؤتمرون يفرغون من تلاوة ميثاقهم عندما كبستهم السلط الفرنسية على عين المكان ، وداهمهم البوليس " فحجز ستين نفرا منهم اودعهم السجن العسكرى وطلبت المحكمة العسكرية رئيسهم السيد العروسي الحداد اليها لاجراء بحث مدقق معه .
وافلت حشاد من قبضة السلط ، كما اقلت غيره من العناصر الوطنية المتحركة فانتهى الى الشعب نبأ ماحدث فى تلك الليلة النابغية ، فاذا هو يعلن الاضراب ، واذا الاضراب ينجز رغم محاولات السلط الفرنسية ، ويمتد اياما ، واذا منظمات كثيرة تحس بخطورة موقفها ، فتتنادى الى اجتماعات سرية ترسم فيها الخطط للافراج عن الشخصيات المعتقلة .
وهكذا احست " جمعية حقوق الانسان " بتونس ان عليها ان تقول كلمة ، فدعت هى الاخرى عناصر شتى من المنظمات التونسية ليشهدوا اجتماعها السري ؛ فتم الاجتماع (١) وحضره ممثلو المنظمات التونسية التى كانت تبدى فى تلك الاونة نشاطا ما ، وخاصة منها التى شاركت فى مؤتمر ليلة القدر ، واخص من ذلك التى كان لها معتقلون (٢) .
ومن اغرب ما حدث فى هذا الاجتماع من شذود ، انه اول - وآخر - اجتماع - فيما عرفت - يعقد تحت رئاسة مزدوجة ؛ اذ كان المشتركون فيه خليطا من التونسيين والفرنسيين ، فخشيت جمعية حقوق الانسان الداعية له ان يفهم من اسناد الرئاسة فيه الى احد الشقين تحيز لهذا الشق ، فتفادت ذلك ببدعة الرئاسة المزدوجة ، ورشحت احد الفرنسيين للاشتراك مع من يترشح من التونسيين الرئاسة الاجتماع ، وترشح من التونسيين " الاستاذ الطيب الميلادي " فانتخب بالاجماع ليرأس النصف الاول من الاجتماع ..!!
وجاء دور الكلمات فتحدث المتحدثون ما شاءوا ، معبرين عن آراء منظماتهم في هذه الازمة ؛ ولكن واحدا منهم عبر عن رأى " الاتحاد العام التونسي للشغل " هذه المنظمة الاجتماعية الفتية ، فكان مثلا رائعا فى الاتزان والرصانة ، والصراحة والواقعية ، ومن ثم قوبلت كلمتاه : العربية والفرنسية باعجاب ، ملك على اكثر الحاضرين سبيل القول ، فظلوا يرددون ما جاء فى مقاله من معان ، هي انبل ما يصح ان يقال فى مثل هذا الموقف .. ولم يكن متكلمنا هذا الا الفقيد فرحات حشاد .
لقد وحد كلمة الحاضرين من التونسيين والفرنسيين على اختلاف نزعاتهم ، وتباين اتجاهاتهم واتجاهات منظماتهم ؛ وجعلهم يؤمنون على ما قال ، من ان " مؤتمر ليلة القدر " عمل مشروع ، لم يتجاوز فيه التونسيون حدود ما كان ينبغي لهم ان يقفوا عنده ، فمن حقهم كبشر ان يطالبوا بالحرية ، ويهتفوا بالاستقلال ، لان هذا اول ما يجب ان يعترف به من " حقوق الانسان " للتونسيين ولغير التونسيين من الاناسى ؛ فكيف يصبح جناية تستحق المقاومة ؟!
ومن اجل هذا فان ما قامت به السلط الفرنسية بتونس ، من مطاردة للمؤتمرين ليلة القدر ، يعتبر عملا لا إنسانيا ، لانه يقاوم رغبة مشروعة من رغبات الانسان ، خصوصا وان هذه المطاردة انتهت الى الزج بستين شخصية تونسية في سجن عسكرى ، طيلة ايام مقدسة ، هى ايام رمضان المعظم . مما قد يحرمهم شرف اداء واجباتهم الدينية على الوجه الاكمل . ولا شك ان الحرية الدينية حق آخر مشروع من حقوق الانسان يجب ان يحمي .
وشيء ثالث لابد من التنديد به ، هو انتهاك حرمة من لا يصح فى اى بلد من بلاد العالم ان يمس بأدى ، من العجز ورجال الدين ؛ فان السلط لم تتورع عن ايداع بعض هؤلاء فى سجنها العسكري (١) ولا عن اجتلاب شيخ هرم محترم الى ساحة القضاء العسكرى ، لمناقشته الحساب على ما قام به من عمل إنساني مشروع ، عندما قبل رئاسة مؤتمر ليلة القدر ...
انه لا سبيل الى الصبر على موقف السلط من المؤتمر والمؤتمرين ، ولا يكون لهذا الاجتماع جدوى اذا هو لم يعلن للحكومة عن استياء الحاضرين فيه - كمنظمات او كافراد يجتمعون تحت لواء " حقوق الانسان " - مما قابلت به المؤتمرين من مقاومة اكتست صبغة العنف ، وما اتخذته ضدهم من مواقف لا تفسر الا بانها كبت لحقوق الانسان ..
هكذا الهبت كلمة حشاد حماس الحاضرين ، فرددوها موافقين ، ثم صمموا على ان يكتبوا بمضمونها لائحة احتجاج يوجه الى المراجع ذات النظر على اعتقال من اعتقل ، ويقع الاصداع به غدا .. يوم عيد الفطر .. الذي ينتظرهم فيه ذووهم ليقضوا معهم عيدا سعيدا ..
الى هنا كان سير الاجتماع عاديا ، وكان كل ما جرى فيه يجرى في منتهى اليسر .. ولكن ممثلى " الحزب الشيوعي التونسي " اللذين طرآ على الاجتماع (١) قد عقدا امره ، وحاولا ان يحولا مجراه ..
ذلك ان الحزب الشيوعي كان مدعوا لهذا الاجتماع ، لما كان يبديه فى تلك الفترة من نشاط ، وكان طبيعيا ان يكون له ممثل يحضر الاجتماع من اوله ، لان هذا الحزب كان حريصا دائما على اثبات وجوده ، غير ان شيئين غير طبيعيين حدثا : ١) حضور اثنين آخرين من ممثليه في منتصف الاجتماع ٢) موقفهما الشاذ الذى كان صدمة للمجتمعين كلهم ، وبالاخص للتونسيين منهم .
يبدو ان ممثل الحزب الشيوعي الذى حضر منذ اول الاجتماع ليس الا عنصرا ثانويا فى الحزب ، فهو حاضر لاثبات الوجود الشيوعى ، وليحيط قادة الحزب فيما بعد بما حدث فى غيبتهم .. اما هؤلاء القادة .. هؤلاء المسؤولون الرئيسيون فى الحزب الشيوعى التونسى الذين كان عليهم ان يحضروا ، فيبدو انهم يريدون ان يقال الكثير عن اهتمامهم بالازمة التى تتخبط فيها البلاد من ايام ، لذلك حضر اثنان منهم بعد الاوان ، معتذرين بوفرة الاشغال ، معلنين ان اى شغل لا يصح ان يصد الشيوعيين عن هذه الاجتماعات الحيوية ، وان ذلك ما دعاهما الى الحضور رغم التأخر .
حضرا ليدسا انف حزبهما في مقررات الاجتماع .. ليخرقا اجماع المجمعين ويحولا المجتمعين عن وجهتهم ، ويحولا بينهم وبين الغاية التى انتهوا اليها ، ليدلا بذلك على ان الحزب الشيوعي التونسى هو الذى يوجه التونسيين لا سواه .. وكان كلام حشاد الذى ردده المتكلمون ممن سمعهم المتأخران او لم يسمعا ،
كلاما منطقيا مهما اصطبغ بالعاطفية ؛ فكان ضروريا ليوجه المجتمعون غير وجهته أن يخالف ، وكان طبيعيا ان يبدو كل ما يخالف الكلام المنطقي الصريح لغوا لا يعبأ به ، وتعقيدا لا طائل تحته ، لذلك سقط المتأخران من حيث ارادا الصعود ، واضافا الى مواقف حزبهما موقفا جديدا يثير الشك فى حسن نواياه ، ويضفى على ما يدعيه من تقدمية ظلالا من الريب .
ترى ما هى البدعة التى خرقا بها الاجماع ؟
لقد قالا : ان ما انتهى اليه المجتمعون ليبعث على الارتياح ، لانه بادرة جديدة فى حسن التفاهم ، تسمح لقضايانا ان تعالج بالاشتراك بين جميع المنظمات ، في جو من الحرية التى طالما دعا اليها الحزب الشيوعى ، وفي ظل " حقوق الانسان " التي طالما عمل هذا الحزب لكى تتوفر للجميع ...
وفتح هذا الكلام المعسول شهية الحاضرين فازدادوا انصاتا الى المتكلم يضيف : ونحن نوافق بالخصوص على اعداد اللائحة الاحتجاجية المقترحة ، ولكن .. واشرأبت النفوس الى هذا الاستدراك ولكنها لم تتوقع ان ينقض كل ما كان يقال قبله ، فاذا هو يفعل ...
... ولكن ... يرى الحزب الشيوعى التونسى الذي يريد ان يسير ابدا فى الوضوح ... انه لا يمكن اعداد هذه اللائحة قبل الاتفاق على الاساس الذي ستبنى عليه .
يجب ان نكون متفقين قبل كل شيء على ( مدلول " الاستقلال" ) الذي نؤيد المعتقلين بالسجن العسكرى فى المطالبة به ، ونعتبر مؤتمرهم الذي سموه " مؤتمر ليلة القدر " شرعيا لانه نادى به ، واتخذه هدفا له ...
ونظر بعض الحاضرين الى بعض نظر الحيرة والاستفهام : أكان حقا بيننا سوء تفاهم عندما اتفقنا على ان الاستقلال شيء ضروري للانسان ، وان المطالبة به امر مشروع بلا ريب ؟
أيصح ان يكون للاستقلال مدلولات تختلف عند شخص عنها عند آخر ؟ أم تكون هذه البدعة التى ابتدعها المتكلم سفسطائية القرن العشرين ، يراد بها اللعب بالالفاظ او بمدلولات تشبه الالفاظ ، لتظهر بهلوانية الذين يقومون بها ، ويشهد لهم بعض البله بالبراعة ؟!
واخيرا ، وبعد انتهى الاجتماع او كاد ، اذ لم يبق منه إلا تحرير اللائـحة ، فتحت " دورة جديدة " ... للتناقش فى ( مدلول الاستقلال ) حسب رغبة الشيوعيين المحترمة ..
واعجب ما فى الامر ان النقاش قد كشف فى كلمة " استقلال " عن اكثر من مدلول .. !
هناك قوم يفهمون ان الاستقلال هو التخلص من الحكم الفرنسي نهائيا ، والعيش بمعزل عنها . وهذا المفهوم يعتبر فى نظر الحزب الشيوعي التونسي خطأ
فادحا ، وخطرا جسيما ... على تونس ، وسيرا بالتونسيين الى ما لا يريدون من الاهداف ؛ لان هذا الاستقلال يساوى الفوضى ، ولا نتيجة له الا سيطرة الراسمالية على الشعب ، الذى نبعد به هكذا عن الجو الديموقراطى الذي كان يعيش فيه وهو متصل بفرنسا ..
اما المدلول الصحيح للاستقلال ، فهو - كما قال ممثلو الحزب الشيوعي - ان يتولى التونسيون الحكم في بلادهم ، دون ان يقطعوا ما كان بينهم وبين الفرنسيين من روابط ، تحفظ على التونسيين جوهم الديموقراطى ، وتضمن لهم التقدمية التى يحرص عليها الحزب الشيوعي ، ويتقى بها الارتكاس فى حماة الرأسمالية التى لا يسمح الشيوعيون التونسيون لانفسهم بالمصادقة على لائحة قد تجعل لها يوما سيادة على الشعب ..
وطال النقاش ، وانتصف الليل ، وانطلق المدفع مبشرا بعيد الفطر .. فلم يعد للحاضرين من التونسيين صبر على مثل هذا النقاش الاجوف ..
اما الحاضرون من الفرنسيين فقد وقع هذا الكلام على نفوسهم بردا وسلاما ، لانه ينقذهم من الهوة التى وقعوا فيها عندما وافقوا على لائحة الاحتجاج ... كان يجب ان يكونوا هم الذين يقولون مثل هذا القول ، ويفسرون الاستقلال مثل هذا التفسير ... لان اقل ما فيه انه يمس مشروع " الوحدة الفرنسية" .
وتبلبلت الافكار ، وانتهى الاجتماع الى مأزق حرج .. ولكن فرحات حشاد عرف كيف ينقذه .
لقد تصيد فرصة اقترح فيها مقترح ان يترك بحث هذا المدلول للجنة الخاصة التى يجب انشاؤها لتحبير اللائحة ، تفاديا من كثرة الآراء بين المجتمعين ؛ واقترح فيها آخر ان يكون حشاد نفسه من بين اعضاء اللجنة ، فقام المرحوم دون تردد ليحتمل قسطه من المسؤولية فى هذا الاجتماع بشجاعة .. واختلى باعضاء اللجنة - التى كان منهم الشيوعيون طبعا - فما خرجوا الا واللائحة محبرة على وجه ارضى الجميع ، دون ان يقع مساس بالموقف الذى اراد حشاد من المجتمعين ان يتخذوه ، والتاييد الذي رجا ان يكتسبه من " جمعية حقوق الانسان " ، والمؤازرة لمؤتمر ليلة القدر التى سعى لان ينالها من المجتمعين ، والتى اغتصبها بكلمته من ممثلى المنظمات الذين استمعوا اليه اغتصابا ، بحسن بيانه ، وجلاء منطقة ، رحمة الله عليه .
٢) - القرار المشؤوم ... ويوم فلسطين :
وكان ثانى مواقف حشاد التى اتحدث عنها فى هذه الذكرى يوم صدور " القرار المشؤوم ..." بتقسيم فلسطين .
ان الكفاح كان مستعرا بين العرب وبني صهيون عندما رفعت قضية فلسطين الى منظمة الامم المتحدة ...
وكانت المنظمة حديثة عهد نسبيا بالوجود ؛ فهي تتلمس القضايا التي تحوج الى الحل لتجد لنفسها عملا تبرر به وجودها ، وتقيم الدليل على انها ليست كسلفها غير المأسوف على ذهابها : " عصبة الامم "
ولم يكن لها بد لكي تدل على جدواها وتحمل الناس على الايمان بعدالة احكامها - من ان تضرب على ايدى الظالمين ان استطاعت ، او تسلك سبيل " الحلول الوسطى " التى يحمل فيها الخصمان - في كل نزاع - على التنازل عن بعض ما يريدان تحقيقه من رغاب ..
كانت " فلسطين " كبش الفداء ، بحل قيل إنه من تلك الحلول الوسطى .. انه كان حلا وسطا فى نظر اكثر المنتصبين يومذاك على كراسي الامم المتحدة ، لانه قال لاولئك الصهاينة الذين يملأون ارجاء العالم بصراخهم المطالب بالارض المقدسة كلها : " ايها الصهاينة ! صه ، لن تكون لكم فلسطين كلها ، فللعرب فيها حق صراح " . كما قال لاولئك العرب الذين يستقرون في الارض المقدسة منذ آلاف السنين : " ايها العرب ! اغربوا عن شطر فلسطين ، فانه ليس لكم بحق ... بل هو لبنـي صهيون " .
وغضب العرب وانصارهم غضبة مضربه لهذا الحكم الجائر ، ولم يعترفوا حتى اليوم - بالقرار الذى اصدرته المنظمة بتقسيم فلسطين .. وسماه عبد الرحمن عزام : الامين العام لجامعة الدول العربية يومذاك .. (القرار المشؤوم ) فشاعت فيه هذه التسمية ، التى لم تزل - حتى اليوم ايضا - تغذي ايمان العرب - والفلسطينيين منهم على التخصيص الخالص في فلسطين ، وبانها " جوهر فرد " لا يقبل القسمة .. ووطن مقدس لا يقبل التفويت .. وان افلت بعضه من ايديهم فسيعود ، لانه انما افلت منهم بسبب " قرار مشؤوم " جائز ، وسيعودون اليه لانه لهم لا لسواهم ... وما برحوا يرددون نشيد ، هرون هاشم رشيد :
عائدون ، عائدون
اننا لعائدون
فالحدود لن تكون
والقلاع والحصون
فاصرخوا يا نازحون :
" اننا لعائدون " (١)
هذه الصرخة هى رجع العرب اليوم فى انتظار الفرصة المؤاتية لنقض " القرار المشؤوم " واسترداد ما فات الى حين ، من ارض فلسطين .. اما يوم صدور ذاك القرار فقد كان رجعه في العالم الاسلامي والعربى والشرقي كلية قويا شديد الاثر كاد يزلزل اقدام الامم المتحدة ، ويزعزع موقفها ، اذ شكك أمما شتى فى عدالتها . وكان في مقدمة تلك الامم طبعا امم الشرق والعروبة والاسلام .
ولم يكن لتونس بد من ان تتحرك في مثل هذا الظرف ، لان دم العروبة السارى فى شرايين ابنائها ، ومكانة الاسلام من قلوبهم . ونزعتهم الشرقية ، قد تحركت جميعا بهذا الموقف الذي قضى على فلسطين بالشطر ؛ وعلى ابنائها العرب بالتشريد ..
ان موقفا يتخذه التونسيون في مثل هذا الظرف ليعتبر انسانيا قبل كل شيء فكيف يتخلف عنه التونسيون وهم الذين ما تخلفوا قط عن موقف من مواقف الشرف ، التى تؤكد انسانيتهم واسلاميتهم وعروبتهم ؟
واعلن عن ( يوم فلسطين ).. يوم الاضراب التضامني مع اخواننا المشردين عن دورهم ، المفضى عليهم بالتيه ، اللاجئين الى خيام يسكنونها آمادا ليس لها حدود . لكن كيف انتشرت الدعوة لتحقيق هذا الاضراب .. كيف تهيأ لتونس ان تضرب في ذلك اليوم اضرابا تاما عاما شاملا ... بالرغم من حزم المسؤولين يومذاك فى كبت الحركة .. ؟
صدرت التعليمات بتحقيق ( يوم فلسطين ) فما اسرع ما استجابت العناصر الوثيقة الصلة بالاسلام والعروبة والشرق على التخصيص ، فاذا شيوخ من الزيتونيين (٢) وجمع من طلبة التعليم العالى فى الزيتونة يجندون انفسهم لبث الدعوة الى الاضراب على اوسع نطاق .. واذا قلمان اثنان يكتبان النصوص ، ويد معينة تخطها ، وغرفة متواضعة من غرف احدى المدارس تستر العاملين على نسخها ،
ومطبعة حجرية حقيرة تؤدى وظيفة النسخ ، واثنان او ثلاثة من اولئك الطلبة يقومون بالعمل ، وفوج قليل العدد يحرس المكان من الاعين (١) وطالبان او ثلاثة ايضا (٢) يتبرعون بالصاق المطبوعات على جدر العاصمة وحل ما فيها من اعمدة ...
واطمأن الجماعة الى ان الدعوة الى الاضراب قد غزت كل مكان .. ولكن موضعا فردا ما يزال حرما آمنا ، كانما يحميه شيء من قداسة عن ان يدخل يوما عالم الاضراب ، مع انه مركز حساس ، لو وفقنا الى حمل ذويه على المساهمة في اضرابنا هذا لكان نصرنا مؤزرا ؛ ولغزونا هذا المعقل غزوا نرجو ان يكون له ما بعده فى الاعمال الوطنية نفسها .. هذا الموضع هو ( السوق المركزية ) بالحاضرة .. ان باعته وعماله لمن العاملين المخلصين فى الحقل الوطني ، فما لهم ولهذا الزهد فى الاضرابات ؟ ولم لا ندعوهم الى ما دعونا اليه سائر التونسيين .. الى التجربة بهذا الاضراب (يوم فلسطين) ؟ ثم متى يضربون اذا لم يضربوا فى هذه المناسبة القومية الكبرى ؟
كان التفكير في مثل هذا ضربا من الجنون .. ولكن جنون الشباب ينفق عن الحيلة دائما ... !! وهذا ما حدث فى هذه المرة بالذات .. فعلى بعد خطوات من محراب ( جامع الزيتونة ) دار حديث " السوق المركزية " هذا فاذا اسم ( حشاد ) يبزغ كالنجم ، ويلمع كالامل ...
" لا قبل لنا باقناع باعة هذه السوق بالاضراب .. ولكن اذا كان لابد من ذلك فلنذاكر زعيم العمال .. فرحات حشاد .. " وتسلل الجماعة بعد الدرس من جامعهم يريدون مركز " الاتحاد العام التونسى للشغل " القريب منهم ...
ودخل فوج صغير من بينهم يبحث عن حشاد ، وما كاد افرادا يخطون اول خطوة داخل نادى الاتحاد ، حتى رأوا فى البيت المقابل جمعا صغيرا من العمال يتصدرهم رجل امامه " راقنة " لعلها لاتينية الحرف ، فهو يستمع الى واحد ممن حوله ، ويوقع عليها بشيء من البطء ملحوظ .
وسلم الوافدون على الجماعة ووقفوا امام الكاتب ، فتوقف ليرد التحية ويستوضح امر مقدمهم .. فقال قائل منهم : - انستطيع التحدث اليكم على انفراد ؟ - وما حاجتكم .. تفضلوا لا تتحرجوا كلنا هنا اخوة . وتشجع الوافد الشاب ، فما يضيره ان يتحدث اليه عن امر الاضراب امام هؤلاء العمال الكادحين المساكين ، بل اليس يهمه ان يتسامع الناس كلهم باضراب بيوم فلسطين ؟ هذه اذن فرصة هيأنها المصادقة .. عصفوران بحجرة .. اخبار " سي" فرحات ، والاعلان لهؤلاء العملة ..
وانفرجت شفتا الشاب عن حديث الاضراب المقرر فاستمهله حشاد ، ونهض من مكانه ، وتقدم الجماعة حتى صعد بهم الى علو النادي . وفي " قاعة محمد على " جلس واجلسهم عن يمينه ويساره ، واستمع الى رأيهم في تواضع ثم شجعهم على خطتهم تلك ايما تشجيع .
ولعله عرف فى حديثهم الاخلاص والجد ، فما خرجوا من عنده حتى دبروا معه الامر وحملوا قائمة في اسماء الذين ينبغى الاتصال بهم في السوق المركزية لينجح لاضراب فيها ، كما حملوا نصائح غاليات ، ووعدا صريحا بمساعدتهم فى هذا الموقف الذي اعلن حشاد أنه موقفه ايضا ، كشخص يهمه امر من سيشردون من فلسطين .
وجاء (يوم فلسطين) .. واضرب الشعب التونسى كله ، واضربت ( السوق المركزية ، لاول مرة .. لان فرحات حشاد اراد لها الاضراب ، وعرف كيف يدعوها اليه ، ومتى .
واشهد اني اذ بلوت حشاد فى هذه المرة فما خيب الظن فيه ، قد اكبرته كما اكبره اولئك الزملاء واحللته من نفسى محل الاجلال والتكرمة .
لا احسب ان مجال القول ما زال يتسع للتحدث بمواقف اخرى كانت لي مع هذا الفقيد ، لذلك ادخرها لما عسى ان يسنح من فرص تذكر بعظمة هذا المكافح الصامت الخالد ، اغدق الله عليه شآبيب رحمته ورضوانه .

