هذا غيض من فيض قريحة شيخ الأدب السعودي ، في شعره ونثره . . جادت به نفسيته الكريمة ، فكان فى حقيقة معناه روح تشجيع كريم
عنوان جميل . . وجوهر صقيل . . وهو ديوان شعري أصيل ، ومجد طريف واثيل . . ومن حقه ان يعوذ بالله من الشيطان الرجيم . . وان يحتفظ به . . كاحدى الذخائر النفيسة . . الغالية . . فهو كالدر النضيد . . واللؤلؤ الفريد . . لا من حيث . . . ( الكم ) فان الكثرة . . ليست على كل حال مما يقاس به الجيد من الردىء ؟ ! وانما من حيث ( الكيف) ! . . فقد أوجز وأعجز . . وشنف وطرز ، وما أريد ان أزعم القدرة على النقد . . او التقريظ . . فما يملك ذلك الا ( الاكفاء ) والراسخون فى العلم . . وانما بوسعى أن اعبر عما كان لقراءتى اياه من الصدى فى نفسى كقارىء . . وقارىء فقط ! .
ان استاذنا الكبير - أبا نبيه - بارك الله فى حياته ، وضاعف له الجزاء الاوفى على حسناته - لم يزل محل الرعاية والتقدير . . منذ منحه الله جل وعلا هذا الدأب والثبات . . والجهاد المتواصل فى سبيل ( التوعية ) العامة . في الحين الذي كان الاشتغال بذلك . . ضربا من الفراغ . . أو ( الهواية ) . . وبذل فى انشاء واصدار هذا ( المنهل العذب ) الكثير الزحام . . من عرقه وشبابه وماله . . ونشاطه ما يغبط عليه . . أو يحسد ! وانه لفوز كبير . . ونجاح عظيم
. . أنه برغم كل المثبطات . . والمنغصات . . استطاع بعون الله وتوفيقه أن يكون أول
الرواد . . والداعين الى الخير والى سبل الرشاد . . بل أول صاحب( مجلة ) عتيدة بدأت تشق طريقها الى الحياة فى خير بقاع الارض واقدسها على الاطلاق . . فما كان ذلك بالسهل ولا بالممكن لولا الاستعانة بالله - وحسن النية . . والتجرد من المكاسب المادية . . والتطلع الى المآرب الذاتية . . فكافح وجاهد . . وصابر وثابر . . وحمل العبء الثقيل . . وما تعثر به ولا تراجع . . حتى فى اشد الظروف اعذارا له . . واجحافا به . . وتهافتا عليه ! .
هذا - مع كل ما احتوى عليه ( المنهل ) من معاضدة للنهضة الحديثة . . وتجاوب مع كل تطور حسن . . وتقدم ملموس . . ومع ما هو مكلف به فى عمله الرسمى . . من مهام لا بد له أن يقوم بها - فى حدود مسئولياته . .
وأرانى - وقد ألمحت قليلا - وبايجاز ببعض ما تحسن الاشادة به فى مجرى هذا الاستعراض السريع . . مضطرا الى الدخول فيما قدمت بين يديه بهذا التمهيد . . وهو الاغتباط والازدهاء . . معا . . بدوانه الجديد . . " الانصاريات " . . فقد ( أفضل ) فأهدى الى اخيه نسخة مكرمة منه . . وتصفحت بعض مقطوعاته . . فأطربنى كثيرا ما اودعه فيها من طموحه وبثه من سبحات روحه ، وأخذت اترنم بذلك . . معتزا ! . وأكرره فى شجو وشجن مهتزا "
وكان منخلا . . . أو مختارا . . او مشتارا . . . فلا تقرأ فيه الا ما يهزك سماعه . . ويطربك ايقاعه ! لا سيما تلك " العقيقية " الرائعة . . التى لا بد له او عليه من ان يذكر بها سائل الانصار . . وكل من تجرى فى عروقه دماء اجداده من العرب الاحرار . . يذكر بها هؤلاء واولئك . . بما كان عليه هذا ( العقيق) . . ابان مجدهم الغابر . . وكيف كان - منتجعا للقادة والذادة . . وذوى الاقدار العالية من الامراء والعلماء . . وحتى الفنانين ومن الذين اخذ عنهم الناس من كل جيل وقبيل فى طول البلاد وعرضها . .
وما كان لى - أن أقرظ . . هذا الديوان . . وقد تناول ذلك من هم خير منى وأبلغ بيانا . . وأوسع ميدانا . . من غير حيف
ولا جنف . . وانما هى خوالج الصدر . وهمسات الوجدان . . ومرجحات الميزان
لقد عرفت الاستاذ الانصارى وهو بعد فى غضاضة الصبا . . وبلهنية الشباب . . فما تمثلت فيه الا " صبا " معنى . . او كلفا مهنى . . بالعلم والادب . . وما بلوت من اخلاقه ومعاشراته . . ومسامراته الا كل ما هو مشرق . . ومغدق . . وبالرغم من كل ما عانى ويعانى . . فى سبيله . . لم يزل ثابتا على ما اتجه اليه وعاش له . . ودافع عنه . . وحرص عليه وبشر ، به ، من مجد العرب وسؤدد الاسلام .
وكذلك يجزئ الله - كل من اخلص فيه . ودعا اليه . . ولم يرد بجهاده غير وجهه الكريم . . وكان من حقه على مواطنيه . . وقد سار ( بالمنهل الاغر ) هذا الشوط الطويل . . وكتب لنا به صفحة شائقة رائعة فى سجل عصرنا الراهن بالنسبة لما كان متداولا من المجلات العربية قديمها وحديثها . . فى شتى الاقطار العربية . . أن يزفوا اليه ( التهانى) . . من " طيبة " منشئها الاول الى " مكة " منشئها الثانى . . أو من كل مكان قرأت فيه واطلعت عليه . . فى ارجاء هذه المملكة الفتية الناهضة . . ذلك انها كانت الاولى من نوعها . . وأنها حفلت بكل طريف وطارف وتلييد من امجاد العرب ومفاخر الاسلام . . فى مهابط الوحى . . ومن مهاد الرسالة . . وبين ( ضرائر ) مغريات ! وعمات وخالات ! واخوات وبنات ! كلهن وجدن فى ( بيئات ) ذات سبق فى كل مجال . . فما لبث صاحب المنهل . . يسابقهن . . ويرقى . . وينافسهن ويبقى ! حتى احتل منزلته العليا . . التى هو احق بها وأولى ! .
ولم يكتف استاذنا ( الانصارى) .
أحسن الله مثوبته . . بذلك . . فأخذ يؤلف ما تفرق من ( آثار المدينة المنورة) . وما لم يكن قبله . . من تاريخ ( جدة) . . فاصدرها فى اجمل الحلى والحلل . . وعلى احدث طراز . . فازدانت بهما ( المكتبة العربية) . . وعلى كل سفر منهما أضواء الماضى والحاضر والمستقبل . . وجال وصال فى باب ( القصة) . . وأصدر كتابه ( التوامان ) وعالج فيه ما لا غنى عنه من اصلاح المجتمع الاسلامى . . ثم التفت الى ( لغة الكتابة والادب ) فصحح ما كان شائعا من الاغلاط والاخطاء اللغوية فى الدواوين او فى الادب . . والى ( التراجم) . . فحفظ ما خشى ضياعه من سير رجال العلم فى المدينة المنورة . . ممن ادركهم وعرف فضلهم وفضائلهم . . ثم عاج على ( الامكنة المجهولة فى الحجاز وتهامة) . . فحقق ودقق. . واسمع وامتع . . ووفى بما دون سبعة اسفار . . لكل واحد منها اثره البالغ . ونفعه العظيم . . مغالبا بذلك العوائق . والمشاغل . . ومقتنصا من وقته المستغرق جله فى ( مجلة المنهل ) ما اتاح له بتوفيق الله هذا المقام المحمود . . والاثر الباقي المشهود . .
ولقد قرأت له بعض القصائد . . في أحيان متفرقة . . وطربت بها . . وهي عابرة سائرة . . اما اليوم . . وقد تخير بعد الارتباع . . وجمع ما ترتاح له الافئدة . . وتصغى اليه الاسماع . . فقد آمنت انه ( رب الصناعتين ) . . وانه من كبار الشعراء - طبعا القدامى - ولا فخر وانه صاحب الاحساس المرهف . . والخيال الخصب . . والرقة الآسرة . . وانه جمع بين التعمق اللغوي . . والتفوق البحترى وما ارسل القول فى ذلك جزافا . . ولا كفافا . . ولكن تقديرا وانصافا . . واكبارا
واعترافا . . وأحيل كل من لم يحظ بقراءة هذا الديوان الى رياضه الفواحة . . وعنادله الصداحة . وأنا ضمين بعد ذلك أن يعيد ( أبو نبيه ) طبعه مرة اخرى ! ويضيق بي المقال لو ذهبت أدلل على ذلك بالقصيدة الواحدة . . أو بالبيت المفرد . . مطمئنا الى ان فى الاطلاع عليه والتمتع به ما يغنى عن ذلك . . متمثلا بقول الشاعر
وليس يصح فى الاذهان شئ إذا احتاج النها إلى دليل
وهنا لا اجد بدا من اننى - وقد تجاوزت الستين - معذور ان استحسن واصطفى واعتز بهذا الانتاج . . الذى يزخر بالمعاني الزاكية الزاهية . . ويعيد لنا ذكريات الادب العربى فى عصوره الذهبية . . ومهما وصف الكاتب ( الجمال) - فى كلامه فانه لا يمثله كما هو في حليته وأكمامه ! وكما هو فى تألقه . . واشراقه وابتسامه فكيف بي احاول ذلك . . وما عندى ما يستعجل به القارىء الكريم . . وقديما قال المعرى فى ميمسته الخالدة :
سبحان من وهب الحظو ظ فلا عتاب ، ولاملامه
أعمى واعشى ثم ذو بصر وزرقاء اليمانه
فبارك الله فيك أبا ( نبيه) . . وزادك بسطة فى العلم والجسم ورضى عنك وأرضاك بما كابدت وجاهدت . . وكتبت وحررت . . ودونت وخلدت . . ولك منى أخلص الدعاء بأن يهبك الله - واخويك النصوحين - العون والهداية والتوفيق والصحة والعافية . . ليرى المسلمون والعرب ( تاريخ مكة المكرمة ) فى حلته القشيبة . . وزينته الباهرة . . واحاطته الشاملة . . وما ذلك على الله بعزيز
