السيد مدير مجلة " الفكر " المحترم تحية مخلصة
اطلعت بفائق الاعجاب ، على الملف الخاص بالادب الموريتانى ، والذي كان لمجلة " الفكر " شرف الريادة فى إعطاء نظرة اجمالية عنه . وقدرت دعوتكم الاقلام للتبارى فى نقد هذا العدد ، وابراز خصائص الادب الموريتانى ، وتحديد آفاقه المنتظرة ليكون رافدا نوعيا فى نهر الادب العربى . وقد أحسنتم صنعا بتخصيص قسم كبير من الملف للبحوث التى جاءت فى شكل مدخل الى معرفة الخطوط الكبرى للحياة الفكرية والأدبية لموريتانيا عبر الماضى مع إطلالة على الحاضر .
أود أن أشر بوجه التحديد الى البحث القيم الذي قدمه السيد محمد الحافظ من أحمد حول " المحاضر " ودورها التثقيفى فى تاريخ موريتانيا ، متوجها اليه بالشكر على التنويه بمراكز كان لها عمل تعليمي يتغلغل كالشبكة فى المجتمع وتذكرنا هذه " المحاضر " بالكتاتيب والمدارس الدينية التى كانت متواجدة فى المشرق حتى العقود الاولى من القرن العشرين ، والتى لا يمكن التقييم الاحصائي للأمية فى البلاد الاسلامية الا بعد أخذ دور هذه الكتاتيب التعليمي بعين الاعتبار ، لان هذه الكتاتيب كانت متوغلة فى الارياف ، ولدى قبائل البدو وفي شرايين الاحياء فى المدن ، شاملة الذكور والاناث ، مما يدعو الى التساؤل هل كانت الأمية فى القرن التاسع عشر ، ولدى الجنسين ، أكثر انتشارا فى البلاد الاسلامية العربية أم في أروبا . واعتقد أن النتيجة لن تكون فى صالح الاخيرة ، وبنسبة عالية فى الفارق .
مهما يكن من أمر فاني أسطر هذه الكلمة ، واختار بحث السيد ابن أحمد
بوجه التحديد ، بسبب الجملة التالية التى وردت فى بحثه ، وترتبط بفكرة جانبية لا علاقة لها مباشرة بموضوعه ، وهى : " فنجد أن المحضرة ودورها فى النهضة الادبية الموريتانية فى الوقت الذى كان الادب العربي يعيش فترة امتحان عصيب ، نتيجة لخضوع الغالبية العظمى من وطننا العربى للحكم العثماني المتعفن الذي قتل الملكات وأخمد جذوة الابتكار ، فى هذه الفترة التى وسمت في التاريخ العربي المعاصر بفترة الانحطاط . فى هذه المرحلة المظلمة من الحضارة العربية ... الخ " .
اعتقد أن الأخ محمد الحافظ بن أحمد ، وقد اجاد فى تناوله موضوع المحاضر والتعريف بوجه من أوجه الثقافة الموريتانية ، انساق فيما يتعلق بالتقييم العام للادب العربى ، مع احدى المقولات التفتيتية التى استنبطتها عقول المستعمرين والصهاينة والصحافة العربية المسخرة المأجورة التى كانت تصدر فى اروبا فى القرن التاسع عشر ، لتسديد الضربة القاضية والاخيرة للعالم الاسلامى والعربى ، متمثلا بالسلطنة العثمانية ، بعدما تهيأ له استعمار المغرب العربى ، وأعني مقولة " عصور الانحطاط " التى أخذت بها أيضا بعض الاقلام المحلية المشرقية ، اما بدافع الحقد الدفين على التاريخ الاسلامى ، أو بدافع من الانجراف غير المسؤول ، وبالتالي بحسن نية . وأجزم أن الاخ ابن أحمد لم تصدر عنه فمثل هذه العبارة التقييمية الا بحكم التقليد الاتباعي .
مقولة " عصور الانحطاط " المزعومة ، اصبحت كقميص عثمان في أيدى اعداء الاسلام ، ولكن هذا القميص الجديد له خصائص عجيبة . فالبعض يجعلها فترة " ميني " وتقتصر على العهد الاسلامى العثمانى ، والبعض يجعلها ستة قرون لتشمل العهدين الاسلاميين العثمانى والمملوكى ، والبعض يمثل الحقد الاكبر ويجعلها فترة " ماكسى " تغطى عشرة قرون ( كقول مثل هذا الشاعر: ألف من الاعوام مظلمة !؟) ، ليدينوا تقريبا كل التاريخ الاسلامى ، مسبقين ، على سبيل الحيطة ، شريحة ضيقة يمكن الانقضاض عليها لاحقا ليعودوا بنا الى الجاهلية الاولى ، متناسين أن العهد الايوبى هو الذى مرغ عنفوان الغزاة ، وأن العهد المملوكى هو الذى طهر الارض الاسلامية العربية من المستوطنين الصليبيين المحتلين وكسر شوكة التتار الوثنيين ، المتحالفين مع الاولين لتشكيل كماشة إفنائية ، وساهم فى اجتذابهم الى الاسلام لاحقا ليصبحوا اخوانا لنا ، وأن العهد العثماني هو الذي استأنف عصر الفتوحات والهداية بعدما توقفت هذه منذ القرن الثالث الهجرى ، وحرر ثغور المغرب العربى ، وشطآن البحر الاحمر ، ومناطق الخليج ، وأزاح كابوس التهديد البيزنطى لبلاد الشام
إلى الابد ، وحقق الكيان الوحدوى الاسلامى للمرة الثانية فى التاريخ . وهذا سر الحقد الاستعمارى الكبير الكامن وراء مقولة "عصور الانحطاط " التى تبتغي تفتيت كياننا الروحى .
وفيما يتعلق بالادب بالذات ، من المعروف أن المنهج العلمي يستتبع منا ان لا نصوغ " قالبا " قيميا نرفعه لنستر جهلنا بمفردات الوقائع . بل يقتضى ان نجرد ما في المكتبات العامة والخاصة من مخطوطات لنستقرىء منها بالتدريج احكاما توصيفية . وهناك الآلاف منها تتعلق بالعهد العثمانى ، والعهود السابقة ، فهل استنفدنا جردها وتحديد معالمها ومواصفاتها ؟ أليست كتب الادب العام ، المؤلفة فى معظمها فى لبنان أو غيره ، والتى تتحدث عن " عصور الانحطاط " ، لا تفرد لكل ادب المغرب العربى صفحة واحدة !
وفي هذه الاحكام التوصيفية ، يجب تفادى المطب التالي : عدم الحكم بالنقصان ، لعدم وجود لون من الالوان فى الرسم مثلا ، ليس فى العهد العثماني أو فيما قبله ، تصوير ورسوم بالمعنى الاروبى ، بينما ازدهرت هذه الفنون في اروبا : إذن نحن متخلفون . مثل هذا الحكم يمكن تسفيهه بمنطق معاكس . ليس فى البلدان الاروبية فن كتابات وخطوط مع انها كانت مزدهرة لدينا فى كافة العهد الاسلامي ولا سيما العهدين المملوكى والعثمانى : إذن أروبا متخلفة . وبندرج هذا التحذير على بقية القطاعات : الجوامع ، التكايا ، المدارس ، المدائح النبوية ، الشعر الصوفى ... لدينا . والكنائس ، والمسارح والتمثيليات ... فى أوربا . بمعنى أن هناك مسارات نوعية تتحكم بها الارضية الثقافية إلى حد كبير .
كلمة حق اردت أن أشير اليها ، متمنيا للأخ ابن أحمد دفعا جديدا فى بحوثه ، وللأدب الموريتانى المزيد من الانطلاق يرفد بجدوله الصافى نهر الأدب العربى ، بعيدا عن المزالق والوصفات الجاهزة المستوردة عن عداء كياننا الروحى .
والشكر كل الشكر لمجلة " الفكر " مشكاة الثقافة الواعية .
