( كنا نشرنا - فى العدد الممتاز - مقالا ممتعاً حول تطور مكة العمراني . بقلم الأستاذ أحمد ابراهيم الغزاوى عضو مجلس الشورى . وها نحن تتحف قراءنا - في هذا العدد - ببحث ضاف جامع حول تقدم مكة العلمي ، ببراعة الأستاذ نفسه ) .
إننا اذا استعرضنا حقب التاريخ التى تلينا رأينا خلالها صفحات قاتمة تستوقف النظر وتشتثير الشجون ، فقد حفلت بالأحداث والمفاجات ذات التأثير المباشر فى حياة الشعب عامة وفي تطور الحركة العلمية والعمرانية تقدما وتأخراً ونشاطا وركودا لا يمر بهما الباحث دون تريث واستبصار .
وقبل أن نعالج موضوعنا من حيث الخطوات التى أمكن لنا ان نجد السبيل امامها معبدا فى هذين الحقلين الخطيرين . لا بد لنا من ربط السلسلة فيما كانت عليه الوضعية بين فترتى الماضى والحاضر فى ايجاز واقتصار .
كانت العقود الاولى من هذا القرن فى الناحية العلمية ذات فتوح لم يكن للبلاد عهد بها - فانشات ابانها وخلالها المدارس التى يصح نسبيا ان توصف بأنها الأولى من نوعها ولا اخص بذلك ( مكة ) وحدها - وان كانت اوفر نصيبا من سواها من امهات المدن فى الحجاز ، واخذت تبث فى الناشئة روح الدرس والتعليم وما فتئت آن أخرجت من طلابها رجالا لا ينتمون الى اشياخ ذوى مكانة مرموقة فى المجتمع ولهم قدم راسخة فيما تولوا تدريسه فى تلك المدارس التى دأبت على أداء مهمتهارغم جميع العقبات والصعاب .
هؤلاء واولئك من طلبة واساتذة هم الذين استطاعوا أن يشغلوا كثيرا من مناصب القضاء والتعليم فى العاصمة وسواها حتى الان . وان كانت المدة
بين تخرجهم واشغالهم هذه المناصب قد تطاول بها الزمن حتى لمسنا الفراغ يتسع نطاقه كلما استأثرت المنية بفريق منهم او أثقلت السنون كواهل الآخرين وكان الى ذلك الخصب فى طلبة ( الحرمين الشريفين ) من وطنيين ومهاجرين أولئك الذين لم يكن لهم من عمل ولا ديدن الا مواصلة الدراسة فى حلقات تكتظ بالمئات منهم ليل نهار _ سواء ما كان منها وعظا وارشادا ، أوفقها وحديثا وتفسيراوكل ما يمت بصلة الى العلوم الدينية البحتة أو الرياضية المختلفة ولست ازعم أن كل ذلك كان الغاية التى لا مجال بعدها بالنسبة لبلاد يجب آن لا يزاحمها فى مقامها العلمى أي بلد آخر مهما علا صيته واتسعت رقعته وتمكن من قلوب اهله الشغف بالعلم والانكباب عليه والاختصاص فيه .
ولكن . هل حافظنا على ذلك المستوى الذي كنا ولا نزال نراه دون ما يليق بمهابط الوحى ، ومهوى افئدة الملايين من المسلمين ؟ وهل كانت برامج التعليم وافية بكل ما تدعو له الحاجة والمصلحة ؟ وهل كان التوجيه فى عنفوانه منصرفاً فى جملته وتفصيله الى اهداف محدودة تقوم الدعوة الى الله ( خالصه مخلصه ) في مقدمة ما يرمى اليه ويحرص عليه ؟ ام كان له من الشوائب الاخرى ما أخذ به ذات اليمين وذات الشمال ؟ !
كل هذه الاسئلة لا يجرؤ على الاجابة عليها إلا من لا يفرق بين ما يثير العجاج واللجاح - وبين ما يلزمنا ان نقتطف منه الثمرة يانعة جنية دون جدل او مرآء .
واذن الله جلت عظمته وتعالت حكمته أن تستقبل البلاد عهدها الزاهر في ظل الحكم الحاضر _ فاستوعبت الدوائر القضائية والعلمية كل من كان متأهلا للعمل فى حدود معرفته وكفاءته واختصاصه والتهمت الدوائر والدواوين الرسمية كل من أسعفته درايته - ومواهبه ودراساته ومطالعاته بأن يكون قادراً على تصريف العمل فى وظيفته التى لم يكن له سابق عهد بها فى الغالب الأعم .
وهنا تبدأ المقارنة بين اختيار كل من الطائفتين هذا الجانب او ذاك فماذا حدث فى هذا الاختيار ؟
لقد كانت الدواعي كلها متضافرة على الاغراء فى جانب الوظائف القلبية رغم كل ما بذلته الحكومة من جهد فى الاستهواء الى الجانب العلمى المحض والديني على وجه الخصوص فرأينا الصفوة الممتازة من الشباب تتوائب توائبا نحو المكاتب والمناصب مؤثرة اياها على كل ما يمكن ان ينتظرها من جلال ووقار وميزة واعتبار ورغد وهناء في المستقبل القريب او البعيد في الحقل العلمي البحت ! ! قد يكون من اهم الاسباب في ذلك أن الحياة نفسها قد أصبحت اليوم غيرها بالأمس ، فهى لإتمهل أحدا فى قوته ومطالب عيشه وضروريات اسرته حتى يفرغ من الكبابه على درسه ثم يتخذ سبيله الى السوق ليمارس البيع والشراء ويربح من كسبه وعرق جبينه ، ما يسدبه رمقه ويقيم آوده ، وان كان ذلك لا يتعذر على القلة النادرة كما كان هو شأن - السابقين الأولين من السلف الصالح -
لقد كان الطلبة فيما مضى فى ظروف لا نسبة بينها وبين الظروف التالية من حيث الرخص والغلاء - وكانوا إلى ذلك اكثر قناعة وأميل الى الزهد فيما يتنافس فيه المترفون - وكانوا لا يعدمون الاعانة فى قليل او كثير مما يحتاجون اليه من هنا وهناك من ذويهم تارة ومن زملائهم الاثرياء تارة أخرى - وكانوا بين امرين لا ثالث لهما - فاما الجهل المطبق ، والعمل المرهق وإما العلم فى أدنى منازله ، والأمل فى اصفى مناهله ، (ومن يشترى ذا علة بصحيح ؟)
وإن تعجب فعجب كل العجب : ان يجد الحرص كل الحرص متوفرا باوسع معانيه فى هذا العهد الزاهر ومن قبل جلالة المليك المفدى مباشرة على ان تنهض البلاد نهضة دينية خليقة بمقامها بين اقطار العالم - وملائمة لمكانتها فى قلوب الموحدين ومتصلة بماضيها العريق يوم كانت ( المنهل ) الاول الذي تلقي عنه فقهاء الامصار وعلماء الافاق كل ما نشروا الويثه فيما وراء البحار من
علوم التوحيد والفقه والحديث والتفسير وما الى ذلك من الثقافات العالية الممتازة : وان تجابه مع هذا الحرص والدأب والدعوة من قبل جلالته ماهو محل الاستغراب والحيرة فى آن واحد من قبل سواد الشعب ومثقفيه على الخصوص - فان الاقبال على هذا النحو وفي هذا السبيل لم يبلغ اي مستوى نغبط عليه - فما هي الغلة ياتري ؟
ان السبب الرئيسى فى ذلك ينحصر فى نظر المفكرين فى أن الناس اخذوا يختارون لانفسهم ما هو ادنى الى الرفاهية وراحة البال فلا كد ولا نصب ؛ ولا مشقة ولا تعب . انهم اذا حاولوا الالتحاق بالاقسام الدينية كبدتهم (عرق القربة ) فى الدراسة والتحصيل ، ثم هم بعد ذلك متعرضون لاختبارات جمة لاهوادة فيها ومطالبون بواجبات هامة لامناص منها وهم يطمئنوا بعد الى انهم سيجدون من رغد العيش وبحبوحة الرزق ما وجده ويجده سواهم من طوائف الموظفين وغيرهم من عامة المحترفين ، وعندى ان فى هذا التصور خطأ لا بد من تصحيحه حالا ، ولابد من تدارك مافات والمبادرة الى سد النقص الملموس فى هذه الناحية ، وليكن القصد الاول قبل كل شىء وجه الله سبحانه وتعالى وهو الذى يعلم خائنة الاعين وما يخفى الصدور . وانه للقادر على انجاز وعده - و ( من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب)
وكل ميزة وكرامة يمكن ان تتوافر لمن يحمل امانة العلم الديني ولمن يعمل بما علم ولمن يعلم الناس الفرائض والسنن ولمن يدعو دعوة الحق ويرفع عقيدته بالوعظ والارشاد - لهى ، اليوم اقرب اليه من حبل الوريد فى ظل جلالة الملك (عبد العزيز ) الأول ، امده الله بنصره وتوفيقه وفما يختص به جلالته العلماء وطلبة العلم من تكريم وتشريف ، وعطف وتقدير اكبر مشجع واعظم برهان على ذلك .
ان الجماهير الغفيرة من الاميين الذين لا يستطيعون لكبر سنهم أو ضرورة عملهم او تطلب ارزاقهم ان ينخرطوا فى صفوف المدارس والذين
يتطلعون الى من يعظهم ويرشدهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويبصرهم بامور دينهم واحكام شريعتهم _ ان هؤلاء وغيرهم من قصاد الحواضر ووفاد الحج والمناسك - كلهم في حاجة قصوى الى الحلقات التى يجب ان تعج بها المساجد فى اعقاب الصلوات ولا سيما فى الصباح الباكر وفيما بين العشاءين وبعدهما وقد قال صلى الله عليه وسلم (ان الله سبحانه وملائكته واهل سمواته وارضه حتى النملة فى جحرها وحتى الحوت فى البحر ليصلون على معلم الناس الخير . وليبارك الله فى اولئك النفر الذين يواصلون الليل بالنهار فى ملء هذا الفراغ - وانهم على قلة عددهم لأحق خلق الله بالشكر والثناء والغبطة والرضاء ( والله لا يضيع أجر العاملين )
اننا نشكر الله تعالى على مننه الكبرى وعلى ان هيأ لنا فى هذا العصر السعودي الرغيد ان نرى البعثات المتنوعة والمدارس العليا والثانوية والابتدائية والتحضيرية والمدارس العسكرية واللاسلكية والشرطية والمصانع والحقول والشركات وان نستخدم ( اجهزة الراديو ) والكهرباء والسيارات والطائرات وكل ما يعد من مظاهر العمران الحديث
ولا ينبغي ان نتجاوز موضوعنا قبل ان ننوه بالجهود الكبيرة والنتائج الطيبة التى قامت بها وحصلت عليها ( دار الأيتام والصنائع )و (المدارس الليلية ) التى انضم اليها عدد عظيم من الطلبة والذين يعز عليهم أن لا تسمح لهم اوقاتهم بالدراسة خلال النهار وقيامها لهم بمهمتى التثقيف والتهذيب . وانه لمشروع نافع مفيد يثاب عليه كل من فكر فيه وساعد عليه ودعا اليه . غير انه على نفعه وفائدته لن يستوعب الجميع ولا يغنى عما يجب أن يتحقق فى حلقات المساجد للامر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر آداب الدين وشريعة الاسلام وعقائد التوحيد واحكام الحظر والاباحة وتعليم العامة ما ينبغي أن لا يجهلوه ويجب أن يعلموه ( لها بقية )
