فرديناند فون صار شاعر وكاتب نمساوى ولد سنة 1822 بمدينة فيبنا وتوفى عام 1902 وقد كتب الشاعر عدة مسرحيات تاريخية ولكنها لم تلاق نجاحا كبيرا كما كان يتوقع لها أما الذي دفع قرديناند الى مصاف الشعراء الكبار فهو شعره الغنائى الجميل وأشهر مجموعة له هي " مراثي فيينا ثم قصصه الرائعة لا سيما " أقاصيص من النمسا وقد اتبع فيها أسلوب الكاتب الروسي ترجنييف وأغلب هذه القصص يمت الى حياة الشاعر بسبب قريب او بعيد .
وهذه القصة التى قدمنا قسما منها فى العدد الاول من هذه السنة تعتبر من أروع قصص الانسانية وقراؤنا الكرام يذكرون جيدا أن الكاتب عند تقديمه لقصته بين أن قصده هو التأكيد بأن اللذة والالم يحركان كل قلب بشرى وان مأساة العالم الكبرى تحدث بيننا فى كل مكان " فاحداث القصة لا تتعلق بعظيم من العظماء دوخ العالم واثر فيه بل هي مسرحها مقاطع الحجر وابطالها العملة الكادحين
وصل هوبر العامل المهدود القوى من أثر حمى أصابته وهو فى الجندية إلى الكوخ رقم سبعة حيث وجد " ترتشكا " تخيط سترة وسألها عن المسؤول عن مقاطع الحجر هذه ولما رآه عند العودة من السوقرا رأى فيه القلب المتحجر والسلوك المتنافي مع أبسط الاحاسيس البشرية . فسكت لذلك وصمم على البقاء ونام ليلته تلك . وفي الصباح نهض للعمل أى تكسير الحجر مع ترتشكا وأثناء الشغل وقع التعارف بينه وبينها فأعلمته ان المشرف هو زوج امها وانه يستغلها الى حد بعيد ولا يتركها تمضى لحال سبيلها بخلا منه وشحا وهكذا وقع التعارف بينه وبينها وفي الطريق بعد الرجوع من العمل تحادثا وتعاطفا .
تابع
ووصلا الى الكوخ . كان الآخرون جالسين ، يأكلون في صحيفات تلفه ، حول الموقد ، وقد وقف المشرف قربه ، وشمر اكمامه وارتدى واقية . كان في تلك اللحظة مشغولا بتقطيع لحمة كبيرة مقلية . استقبلت الداخلين رائحتها الشهية ، ودفعت جورج الى أن يتنفس الصعداء لا اراديا . وكان الآخرون بدورهم قد علقوا عيونهم بقطعة اللحم الدسمة ، وبدأوا يتناولون قطعة منها على التوالى ويلتقفونها قبل ان تستقر في الكف . وكان البعض يضع ثمنها قبل تناولها دون تردد ، وقد اعتاد المشرف انه يسجل اسماء اغلبهم فى كتيب .
اخذ جورج صحيفة من ترتشكا وتقدم بها نحو الموقد . فنظر اليه المشرف مستغربا ، ثم تذكر وقال - و ى ! قزم الامس ! هل قمت بشيء ؟ - نعم . لقد كسرت الحجر . - والآن تود ان تأكل . ماذا تريد ؛ - البرغل والبطاطا رجاء !
وضع المشرف المطلوب في الصحيفة ، واخذ منه الورقة النقدية التي قدمها جورج اليه . ثم قال . - ستأخذ ايضا قطعة من اللحم المقلي كان ذلك اغراء عظيما بالنسبة للسكين ، الا انه تذكر كلمات ترتشكا ونصحتها له ، وقال ، بينما انطلق المشرف يحز اللحم بالسكين - لا . اني لا آكل اللحم . - ماذا ! اتبخل بذلك على نفسك ؟ مع هذا الضعف الذي اعتراك يجب أن تسر حين تجد لجسمك الاكل الشهي .
وهنا شعرت ترتشكا ان من واجبها أن تدافع عن جورج أمام هذا الالحاح الحاد . فاقتربت قائلة :
- انه مصاب بالحمى ، ومن الجائز ان يضيره اللحم الدسم . فصرخ الرجل - اسكتى ! من قال لك انك مسؤولة عما يصيره او ينفعه ؟ لا تتدخلى فيما لا يعنيك
ثم التفت الى جورج واستطرد : - اذا ، هل تريد ام لا ؟ وقعت الكلمات فى سمعه كانها امر بعدم التخلى عن الطعام الشهى ورفضه ، الا انه جمع شجاعته وقال في خوف !
- هي على حق . لا يجوز لي ان آكل اللحم . فصاح الآخر ، حنقا ، وهو يرمي بالسكين جانبا - فليكن ذلك ! انى لن اتوسل اليك ! وظل جورج واقفا بين يديه ، فسأله - ماذا تنتظر بعد ؟
اجاب الآخر متلعثما : - اعطني الباقي فرفع المشرف صوته - اجل ، اجل ، اجل ! اتظن اني ساحتفظ بقروشك القذرة ؟
وبذلك رمى له الباقي قطعا نحاسية ، ثم ادار له ظهره احتقارا واستهانة . فالتقط جورج القطع المبعثرة والصحيفة في احدى يديه ، وانتبذ مكانا فى زاوية واخذ يلتقم اكله ، وكان قد برد الى حد ما . وكان فى اثناء ذلك ينظر الى المشرف الذي اخرج زجاجة خضراء
واترع كأسا ، لمن رغب في ذلك ، ظلت تدور من فم الى آخر ، وكلما فرغت ملئت من جديد . اما جورج فكان يعلل نفسه بالماء ، بمقتصى كلام ترتشكا . وكانت هذه قد تناولت طعامها ومضت تغسل المواعين ، امتثالا لارادة المشرف . وتجمع الاخرون فى الخارج تحت ظل الكوخ ليناموا ما تبقى من ساعة الاستراحة . واما المشرف فقد اخرج من جوف الموقد مقلاة ، تتربعها دجاجة شهية ووضعها فوق المائدة قرب الصحن وادوات الاكل وزجاجة الخمر . وحين تهيأ للاكل بهدوء ، وقع نظره على جورج الذي كان يفكر فى صمت ، وقد وضع الصحيفة بين رجليه . لقد راودته فكرة مساعدة ترتشكا ، ولكن خوفه من الرجل طرد من رأسه هذه الفكرة ، فصاح فيه المشرف
- لم أنت جالس هنا في بلاهة ؟ الحق بالآخرين ، فليس بى حاجة الى جاسوس يتطلع ، فى حسد وفضول ، الى اللقمة في فمي
ارتعدت اوصال جورج ، واندفع خارج الكوخ . واضطجع فوق الارض الموقدة ، لانه لم يجد مكانا فى الظل . وبعد لحظات دق المشرف الجرس ايذانا بابتداء العمل . اما هو نفسه فقد توجه الى مكانه الخاص خلف الحاجز ليستريح .
وتمدد الرجال وتتثاءبوا ولبوا النداء في تردد . ولكن البعض منهم تقلب على الجهة الاخرى واستمر في نومه . اما جورج فقد مضى برفقة ترتشكا الى المحجر ، حيث اديا واجبهما المرهق حتى المساء .
وفي الايام التالية كان يجلسان جنبا الى جنب . كانت حالة جورج قد تحسنت حقا . فاستعاد قوته ، وانتهى عهد الفاقة المريرة التى قاسى منها الامرين . والظاهر ان نسيم الجبل المنعش وهواءه الصحي قد عجل نشفاء جسده المحموم . فكان يرفع المطرقة فى نشاط وحيوية وهو يروى لزميلته ذكرياته عن سنوات الخدمة العسكرية . ان تجاربه في تلك الفترة لم تشتمل على ما في حياة الجندى من مغامرات جريئه وحيل بارعة ، لان طبيعته الخائفة المنزوية لم تتح له التعرف الا على ظلال الحوادث الجانبية ، فى حين انه اتيح لغيره ان يتمتع باحلى ساعات العمر . وهكذا اقتصر حديثه على ايام الجندية ، التي جعلت منها يد العريف حدما رهيبا بالنسبة له ، فروى لها كيف كان يقف بعدته فى الثلج ، ويقطع المسافات الطويلة ويقيم فى المعسكرات الليلية تحت
الامطار والعواصف وخاصة كيف وقف مع فرقته امام فورما لفيراء عند حصار " فنيسيا ، حيث قضى الطاعون على المئات منهم في المياه الآسنة .
كانت ترتشكا تصغى إليه ، ولكنها لم تفهم الكثير مما قال ، او لعلها لم تفهم البتة ، فالاشياء التى دار الحديث حولها كانت بعيدة عن ادراكها . ثم انها لم تستطع ان تتصور مدينة فى قلب الماء ، كما ان كلمة " البحر " رسمت امام ناظريها كآبة غير واضحة . وبالرغم من هذا فقد شعرت بمرارة الظروف التى مرت بجورج طوال ايام حياته . وحكت له هي الاخرى عن الهموم والآلام التى انطبعت فى ذاكرتها وكشفت له عن اغوار وجودها الكئيب الرتيب . وبهذه الطريقة كان الواحد منهما يسلى الآخر من غير قصد . لقد سرهما ان يخرجا معا كل صباح ، والمطرقة فوق كتفيهما ، ويمضيا الى المحجر ، حيث يقضيان سوية اياما طويلة مشمسة . وما أكثر ما كان يغفلان عن دقات الجرس او يفزعان منها ، لانها كانت تنتزعهما من وحدتهما الحزينة الهادئة ، وتعيدهما الى الاجتماع بالجماعة المقفرة فى الكوخ .
ولكن الوقت الذى جمعهما ، وارتبطا فيه ببعضهما بعض اكثر ، على صعيد الفاقة المريرة والعذاب اليائس ، تماما كما يرتبط الاخرون على صعيد السرور والبهجة وغزارة الحياة - هذا الوقت لم يدم طويلا ، اذا لم يلبث المشرف ان احس بالعلاقة التى نشأت بينهما . فاما ان يكون العمال الآخرون قد وشوا بهما ، واما ان تكون طبيعته الشريرة هي التى اوحت اليه بذلك . وعلى اية حال فقد وقف ذات يوم خلفهما وصاح فيهما باعلى صوته .
- يكفي فنظرا اليه فى هلع ، واضاف - لم تبركان هنا متلاصقين كالضفادع امض انت ايها المتضور جوعا الى مكانك بين الآخرين واشار بيده الى القسم الاسفل من الحجر ، فامتثل جورج لامره فى صمت وحيرة ، والتفت المشرف الى ترتشكا وقال - وانت ايتها الجيفة النتنة الخائنة !
يبدو انك تشعرين بالعطف على هذا الكسيح التعس ! انتظرى ، سابعده عنك واطرده . لو رأيتك مرة أخرى تجالسينه ، فسيكون آخر يوم لاقامة النذل هنا . ولن اتركك انت ترين النور ابدا ! وهكذا حال بين اتصالهما بقسوة .
وفي صبيحة اليوم التالي اجبر جورج على العمل في الخط الاسفل . وحين كانا يلتقيان ساعة الظهيرة لم يكونا يتجاسران على تبادل النظرات ، فضلا عن الكلام ، لان المشرف كان يراقبهما بشدة ، وكان الاخرون ايضا يحرسونهما فى شماتة .
رغم ذلك كله فقد حدث ذات مساء ، فى يوم السبت ، ان توجه المشرف مع نداماه الى خمارة القرية القريبة ، بينما انشغل الباقون ، على عادتهم ، بلعب الورق ، وقامروا بالاجرة الاسبوعية التى كانوا قد استلموها يومئذ ، وكانت الاوراق الوسخة فى ايديهم تشكل الدائرة وان هى الا لحظة حتى تعالى الصياح والعربدة في تزايد مستمر . فتشجع جورج ودنا ، خفية ، من ترتشكا ، وكانت جالسة على صندوق عتيق فى زاوية النوم ، وقد اسندت راسها بيديها . قال لها ، هاما ، وهو يخرج من جيبه كيسا جلديا صغيرا :
- ترتشكا ! خذي ! هذا ما تبقى لك على من دين . ووضع فى حجرها بعض النقود . فاجابت آه ! دعها عندك . ستحتاج اليها فيما بعد ! قال في يأس - لاى شئ احتاجها ؟ لقد فقدت تعلقي بالحياة منذ ان منعت من العمل معك . فقالت بصوت خافت : - وانا ايضا ! وبعد لحظة بدأ جورج - لماذا فرق بيننا ؟ وماذا يهمه جلوسنا معا ، إذا كنا نقوم بعملنا اليومي على الوجه الاكمل :
تاهت نظراتها بعيدا ، واخيرا ، قالت - انه انسان نذل لا يستطيع ان يرى الاخر سعيدا وان يلاحظ آن كل واحد يحن الى قرب محبوبه .
عقب ذلك نهضت ترتشكا ، ورفعت غطاء الصندوق ، واخرجت منه ، ببطء ، سلطة من الصوف وسترة قطنية وحذاء ثقيلا ، ثم اخذت منديلا أحمر مهترئا وسبحة ذات صليب نحاسى ، ووضعت هذه الأشياء جميعها ، فى عناية ، فوق غطاء الصندوق بعد ان قفلته . فسألها جورج الذي كان ينظر إليها : - ماذا تفعلين هناك ؟
فأجابت- اريد ان انزل غدا الى " شوتفين " لاذهب الى الكنيسة . انه يكره ذلك طبعا ، فهو لا يعترف باله . وكم كان يعاقب امى ، لانها كانت تحرص على حضور الصلوات فى ايام الآحاد ، ولانها كانت تآخذني معها دائما . وما اقدره على وضع العثرات في طريقي ! انى لم اترك الكوخ منذ شهرين . ولكنى سأذهب غدا ، وليفعل ما يريد . فلست اريد ان انسي الصلاة بين قوم لا يعرفون الا الشراب ولعب الورق .
ونظر جورج امامه في شرود ، ثم قال - وانا الآخر لم ازر اية كنيسة منذ مدة طويلة . سيكون جميلا لو انى استطعت الذهاب معك غدا ! - اجل . سيكون جميلا ، ولكن غير ممكن .
واستطرد يقول : - آه ، لا ينبغي ان يلاحظ المشرف ذلك ، وحينئذ يمكن ان يذهب كل منا على حدة ونلتقي بعد ذلك . فكرت قليلا ، ثم قالت : - الحق معك . ان هذا لممكن ، ولكن يجب ان تذهب قبلى بمدة . هناك على يسار الكوخ طريق ضيقة مخفية تفضى الى الهضبة فى اسفل الجبل فيمكنك أن تنتظرني هناك عند الصليب الخشبى الذى يقوم فوقها .
ثم اضافت خائفة - والان امض فى سبيلك ، لكي لا يلاحظ الآخرون اننا تحدثنا . فسار الى فراشه الصلب ونام ، بهدوء ، وسط ضجيج اللاعبين وفرحة انتظار اليوم المقبل تهز وجدانه .
وفي صبيحة اليوم التالي كانت الارض تلتمع فى الق الشمس الوضئ عندما سلك جورج تلك الطريق التى وصفتها له ترتشكا . وعند الهضة بحث عن الصليب ، وسرعان ما لمحه يطل من بين اغصان الصنوير فى اعوجاج وانكسار . وها هو الان قد وصل اليه ، فجلس ، لانه لا يزال لديه متسع من الوقت ، فوق صخرة مغطاة بالطحلب ، استعملت كمواطئ للصلاة . وكانت سكينة الاحد تحف به من كل جانب ، حتى اسراب النحل المتعلقة باكمام والزهور المزرقة ، لم يسمع لها طنين . واصغي جورج بطريقة لا شعورية ، وحين اخذ يصيخ السمع ، بهدوء ، خيل اليه انه انه يسمع فى الفضاء اصداء النواقي البهيجة . وبدأت مرارة الانتظار تثقل عليه تدريجيا فقام واخذ يصعد ويهبط ، وهو يقطف ازهارا بيضا وصفرا من هنا وهناك
وهكذا اجتمعت في يده باقة من غير قصد . فحدق فيها وقال في نفسه : عندما تأتى ترتشكا سوف اقدم لها هذه الباقة . " ثم قطف سرخا طويلا وغرزه فى قبعته ، متمايلا كريشة مهتزة . وفى النهاية لمح ثوبا خفاقا فى اعلى التل . وبعد حين وصلت اليه ترتشكا . فاسرع يستقبلها في منتصف المنحدر . فقالت ، وهي تتنفس بسرعة : - ها انا قد جئت ! لقد تركني ، هذه المرة ، اذهب دون كلام كثير .
ووقف جورج امامها ينظر اليها . لقد خلعت اليوم منديل رأسها وارسلت شعرها الخفيف ، وكانت الوان المنديل الاحمر الذي لفته حول عنقها تنعكس على محياها مضيئة اياه . وكذلك السلطة الواسعة والثوب القطني جعلا مظهرها جميلا فاتنا . واخيرا قال جورج - ما اجمل منظرك اليوم ! فغضت طرفها وقد احمر محياها من حياء . وقالت وهي تضغط بيدها الثوب المنفوخ :
- هذه الاشياء كلها من مخلفات المرحومة انى الى قليلا ما ارتديها ولذلك تدوم طويلا !
قال جورج - خذي هذه الزهور . لقد اقتطفتها خلال انتظارى لك . فاخذت الباقة منه . وكان قد اخفاها خلفه قبل ذلك . وارادت ترتشكا ان تضعها عروة صدرها ، ولكنها كانت كبيرة ، فابقتها فى يدها التى التفت السبحة حولها . وتخطى الاثنان قرب المروج الخضر والمزارع الضيفة حيث تراكمت كوم القمح المحصود . الى ان وصلا الى سوق شوتفين وهناك وجدا كل شئ يضج بالحركة . ولا غرو ، فقد كان اليوم يوم الكنيسه . ، وكان الشارع الطويل العريض التى تتألف منه القرية ، يتنمل بالناس الذين يرتدون اجمل الثياب ويدفعون العربات الخفيفة . اما امام الكنبسة نفسها فكانت قد نصبت دكاكين خشبية . تحتوى على اشياء متنوعة معروضة للبيع : مناديل وغلايين ، امواس وجواهر مزيفة ، مواعين الطبخ المختلفة ، خبز مبتل ولعب الاطفال .
وقف الاثنان لحظة ، مندهشين ، امام هذه الاشياء الفاخرة . واحب جورج ان يشترى غلبونا ، فقد كان يدخن ايام الجندية ، غير ان الفاقة إضطرته ترك التدخين والاقلاع عنه . اما الان ، وقد كسب خبزه بعرقه ، ولم يتعاط الشراب ولم يلعب الورق مثل الاخرين ، فان فى مستطاعه ان يمتع نفسه بلذة التدخين . وحين اعرب لترتشكا عن رغبته ، قالت له ، ان عليه ان يتخذ قراره بشأن ذلك ، اما هي نفسها فإنها ستتقدمه على مهل . ثم اضافت :
- ان كنيسة القرية مزدحمة ، ولكن هناك كنيسة منعزلة تبعد نصف ساعة عن السوق ، وقد زرتها مرة واحب ان اذهب اليها اليوم للمرة الثانية .
كانت تعنى بذلك " ماريا شوتس الواقعة فى سفح صولقندشتاين وشق جورج طريقا لنفسه بين البهاليل والمساومين ، وابتاع غليونا صينيا جميلا ذا رسوم ملونة . وخلال ذلك وقع نظره على حلية لامعة من الجواهر الرخيصة ، وفكر ، كم ستحلو هذه الحلية في عنق ترتشكا ! وبما ان الثمن الذي طلبه البائع لم يكن مرتفعا جدا ، فقد طلب منه ان يلف له الحلية في كاغد . ووضعها فى جيبه وانتقل الى الدكان المجاور ، حيث اشترى
بالباقي قلبا من الكعك المبتل . ثم وثب الى اقرب محل واشترى تبغا واسرع باللحاق بها . واراها اولا الغليون ، فاعجبت به وقال وهو يقدم لها القلب :
- اما هذا فلك كان القلب مزينا بصورة مزركشة ، تشكل قلبا ثانيا قد اخترقه سهم ، وحول الكل باقة ورد . فتأملته ترتشكا فى صمت ، ثم اخفته بين الباقة والسبحة وابتسمت شاكرة .
وبعد لحظة قال جورج ، وهو يخرج من جيبه ، ببطء ، الطرد الصغير ، والجواهر تلتمع من فتحة الكاغد - لقد اشتريت لك ايضا شيئا آخر . فنظرت الى ذلك وقالت - كيف يمكنك ان تصرف كثيرا من اجلي ولكن محياها اشرق بالمفاجأة السارة والبهجة الخالصة
فاجاب في اخلاص - اود ان اضحي بكل شئ فى سبيلك . ضعيه حول عنقك في الحال ، فسوف يزيد في جمالك ! فقدمت له كل ما في يديها ، ووضعت العقد حول عنقها ، وبما انه كان ضيقا بعض الشئ ، وليس به قفل من الخلف ، فإنها لم تستطع فعل ذلك . فقال لها :
- دعينى افعل ذلك ! واعاد اليها الاشياء جميعها ، ولما استدارت رفع ضفيرة شعرها الاسود . واحكم قفل العقد . ثم قال ، وهو يلقى عليها من الخلف نظرة فرحة فاحصه :
- هكذا ! وواصلا سيرهما مبتهجين ، وبعد حين بلغا كنيسة تطل من بين اعالي الاشجار الوارفة الظلال . ولم يلتقيا فى طريقهما الا بزوار
قليلة بالذات دخل المعبد قسيس تبدو على وجهه ملامح خشنة ، واخذ يتلو الصلاة من غير اهتمام . فركعت ترتشكا في الصف الاخير ، ووضعت القلب والباقة امامها ، ثم شبكت يديها . اما جورج فقط وقف خلفها وقد اوحي الله هدوء المكان بمشاعر غريبة نابية . كان النور ينساب فى رقة ولطف عبر حنايا الشبابيك الضيقة المرتفعه . فسمع همهما القيس ودقات ناقوس معاونية الصغار . واقشعر بدنه للهيبة ، ولكنه لم يستطع الصلاة ، وظل ينظر الى ترتشكا وهى راكعة امامه مطاطئة الراس تحرك شفتيها في خفة . انتهت الصلاة بعد حين ، وبارك القس الحاضرين فانصرف الا ان ترتشكا تأخرت قليلا . ثم رسمت علامة الصليب وسارت فتبعها جورج. وعند اجتياز الباب اخذ وكيل الكنيسة يقرقع المفاتيح ضجرا وفي الخارج كان الضحى ياتلق بانواره البهيجية . وعلى بعد خطوات من الكنيسة كانت تمتد خمارة ، قد زينت باعراف الصنوبر ، كانها تدعو لزياتها وحين لاحظ جورج ان ترتشكا تتجه نحو السوق قال في هدوء
- اتريدين العودة الى البيت الآن ؟ فاجابت وهي تنظر الى فوق : - الى اين تريد ان نذهب ؟ - ان هناك خمارة في الجهة الاخرى ، اظن انه من حقنا ان نتمتع اليوم يا ترتشكا ! من يدري اننا نستطيع الذهاب سوية مرة اخرى
فتوقفت وقالت : - لا بأس . اذا كانت لك رغبة فى ذلك . طبعا ، ان المشرف سيعاقبني إن انا تأخرت كثيرا . انك على صواب من يدري هل نستطيع الخروج سوية مرة اخرى .
وهكذا سارا في اتجاه الخمارة التى انتصبت امام تل لطيف المنظر . وثمة تعالت زانة كبيرة عتبقية ونشرت اغصانها فوق عدد من الموائد والمصراط الصلبة ، ولكن لم يكن احد جالسا اليها . كان كل شئ هنا هادئا منعزلا ، اما في الداخل فكان الضجيح والحركة . وبالتالى اطل صاحب الخمارة من الباب ، وكانت اكمام قميصه بيضاء كالثلج ، وفوق رأسه قعة خضراء مخملية . واقترب وهو ينظر الى الضيفين من جانب ، فلم يسبق له ان رآهما ، حاملا ما طلبه جورج من لحم وخبز وخمر في
كاس كبيرة ذات مقبض . ووضع كل ذلك فوق المائدة التى جلسا اليها وطلب دفع الثمن فى التو ، ثم عاد مسرعا الى الخمارة . وقدم جورج الصحن الى ترتشكا ، فقطعت اللحم قطعا صغيرة . ثم كسرا الخبز وبدا يأكلا سوية . وكانت ترتشكا تستعمل السكين بمثابة شوكة ، لان صاحب الخمارة جلب شوكة واحدة فقط . وتمتعا بالخمرة سوية ايضا والكاس تدور بينهما وبعد الانتهاء من الاكل اشعل جورج غليونه ، واخذ يتابع سحب الدخان ، منتشيا ، وهي تصاعد امام ناظريه فى الفضاء الضاحى ، خفيفة مزرقة . قال لها وهو يضع يده فوق يدها :
- ارأيت يا ترتشكا ! ما كنا نحلم نهار الامس بالجلوس هنا مبتهجين اجابت : - اجل . لم اكن احلم بذلك ! وخلال ذلك كانت الظهيرة قد اقبلت . وتصاعدت فجأة اصوات الابواق والشبابات . وبعد قليل خرج صاحب الخمارة ، وهو يقول للخادم الذى كان يتبعه :
- لقد اقبل اهل العرس . اسرعوا ! ينبغي ان تغطى الموائد . ونفذ الامر فى الحين ، لان الوقت قد آن ، وما اسرع ما ظهر الركب ، يحف به اطفال القرية متصايحين ، كان الموسيقيون فى المقدمة ، ووراءهم العروسان الشابان ، وخلف هذين زمرة الاقارب وكثير من المدعوين الى الحفلة وعدد من الفضوليين . وان هى الا لحظة حتى شغلت الموائد ، والقى الحصار عليها ، وبدأوا يأكلون ويشربون فى طرب وبهجة . وانطلق الموسيقيون يعزفون ارق الانغام ، وينفخون بحماس حتى اوشكت انفاسهم ان تخبو . وكان لبطلينا احاسيس غريبة متجاوبة وسط هذه البهجة الطاغية
لقد اندهشا ، اول وهلة ، لذلك الاختلاط المتنوع ، الا ان ترتشكا لم تستطع بعد أن تحول نظرها عن العروسة ، فقد كانت هذه في منتهى الجمال والفتنة والرقة ، ولا ريب انها كانت ابنة فلاح موسر ، اذ كانت ترتدى مشدا حاصرا اسود مخمليا اظهر محاسن قدها الرفيع ، وقد لفت حول جيدها سلسلة ذهبية بمقدار خمس او ست مرات ، وتربع شعرها الاشقر ، الذى تدلت منه ضفيرتان طويلتان ، اكليل مرتفع ، استدار حول
محياها الزاهي كتاب صغير . وكان العريس كذلك شابا حضريا تحلى شقته العليا شوارب على عادة الفلاحين ، وفوق راسه قبعة يزينها الريش ولحى الوعول ، جلبت انتباه جورج . وشيئا فشيئا بدا الاحساس بالوحدة يطغي على مشاعر الاثنين في زحمة الناس ، وكان البعض منهم يصب عليهما نظرات شزراء حاقدة . كما لو انه يريد ان يسألهما : " عم تبحثان هنا ، ومادا تريدان ؟ .
واخيرا التفتت ترتشكا الى جورج ، وقالت : - تعال ! فلنذهب ، فلا قيمة لنا بين الناس لنجلس هناك على حافة الغابة ، حيث يمكننا مشاهدة - كل شئ وسماع الموسيقى .
ففرح بذلك ، وتقدما نحو غابة الصنوبر السوداء التي كانت تحد المرح المتفتح وجلسا فوق مرتفع صغير ، واصغيا الى الانغام التى كانت تساب الهما فى لطف ورقة وسلاسة وعذوبة . ثم ساد الهدوء فجاة ، ورأيا كيف وقف الجمع حول المائدة ، يشكلون نصف دائرة . فأن الكمان من جديد . وصاحت ترتشكا
- ان العريسين يرقصان وهذا ما حدث بالفعل . فقد كان العريسان يرقصان بايقاع ثابت ودوران رائع فوق حلية الهضبة الممرعة . واستطردت ترتشكا تقول ، وهي تستند الى كتف جورج دون ان تشعر بذلك
- انظر ! كم يدوران في بهجة - قال وكانه يحلم ، ودون ان ينظر الى حيث تنظر اجل . انهم ناس سعداء ! لو امكننا نحن ايضا الاحتفال بزفافنا ! قالت بصوت خافت وهي تمد يدها نحو زهرة حمراء عند قدميها - دعك من هذا ! فعاد يقول : - ريزي ! كانت هذه هي المرة الاولى التى يطلق عليها هذه التسمية
- ريزي - كم أحبك ! ولم تنبس ، غير ان النظرة التى رمت بها اليه بدت كبحر يتلاطم سعادة . وحين ارتفع صوت الكمان عاليا في الجهة الاخرى ، والعريسان يرقصان وسط الخيمة والهتاف والتصفيق المنبعث نحوهما مشجعا حينئذ جذبها بقوة الى صدره ، وانضمت شفاههما على قبلة طويلة عميقة .
-3-
هل ينبغي لى ، انا الذي اخذت على عاتقى رواية هذه القصة فى دقة وامانة وصدق ، ان اتحدث عن السعادة التى غمرت قلب الحبيبين منذ تلك اللحظة ؟ اظن ان من حقي التنازل عن ذلك ، لا لان الكلمات لا يمكنها ان توفق فى التعبير عن المشاعر التى ارتهما فجاة الق الوجود ونعم الحياة الثرة فحسب ، وانما لان كل من خبر سحر الحب وروعته يستطيع ان يرسم لنفسه سعادة جورج وترتشكا كما يهوى فؤاده . ومن الطبيعي انه كان عليهما ان يكتما هذه السعادة في حذر وخوف ، كما لو ان الحب جريمة . واياما كان الامر فقد ظلت هذه السعادة تنمو وتنضر في اعماق اعماقهما . وكانا راضيين بالقناعة التى تعودت عليها طبيعتهما ، عندما يتاح لهما اللقاء في الصباح ، عند الظهيرة او فى المساء ، حيث يتبادلان البسمة المسروة او يتصافحان بسرعة . لقد بدا لهما ان المشرف لم يعد يعيرهما اهتماما كبيرا . ومن ثم بدأ يقل خوفهما من انه قد يعلم او يظن انهما ينزلان معا إلى " شوتفين " . اجل ، ان جورج ، عندما كان ينقل بالعربة الحصى من المحجر ، كان يتجاسر ، احيانا ، على الصعود الى ترتشكا ، وثمة يختفى العالم ويتوارى فى معانقة الحبيبين
وفي لحظة كهذه دوت خلفهما فجأة خطوات مقتربة ، وما ان ابتعدا عن بعضهما بعض فزعين ، حتى وقع نظرهما على المشرف . كان واقفا خلفهما بوجه كالح شامت مغتاظ . وصاح : - لزمتكما ايها البذلان ! هكذا تطيعان اوامرى ، وتعتقدان انني لن الاحظ اعمالكما . كنت اعلم تماما انكما قضيتما يوم الاحد الماضى سوية ، لكني اردت أن اكتشف امر كما بفعلة جديدة . . قد حان وقت عقابكما . وبذلك مسك جورج من قفاه ودحرجه فوق الارض بضع خطوات ، بحيث تطاير الرمل والحصى .
- انقل الحصى الى تحت ، انت يا حبل المشنقة ! ثم شد رزمتك وامض في سبيلك . فإن أراك مرة اخرى هنا ، لا ضربنك حتى تعوج وتكسح
وبعد ذلك دفع جورج نحو المنحدر خلف العربة . وقد رفع يده مهددا متوعدا . وكان جورج قد نهض واخذ يصلح من شانه فى وهن وتعب . ثم رجع المشرف الى ترتشكا وسلط عليها نظرات شريرة قاسية ، وحدق فيها طويلا ، واخيرا قال - اما انت فسأكلمك فيما بعد ! ثم ذهب وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة .
وصل جورج الى رفاقه دائخا شارد اللب . فافرغ العربة بحركة آلية . ثم جلس فوق حجرة وسرح بصره في الابعاد خالي الذهن . كانت السماء فى الصباح خفيفة الغيم ، اما الان فقد غام النهار واغبر . وكانت النسمات الخريفية تنساب عبر رؤوس اشجار الصنوبر . وتساقطت فوق الارض امطار باردة ناعمة . ولكن جورج لم يحس بقطراته التى كانت تصفع وجهه بشدة . فقد كانت تتراقص امام عينيه شارات نارية ، وجابت حنايا صدره قشعريرة كاوية . الا انه استعاد وعيه تدريجيا ، وتفاقم شعوره بالعار الذي حل به واختلط باحاسيس الجريمة التى ارتكبها ضده وضد ترتشكا هل اريد طرده وابعاده عن حبيبته بعد ان ارتبطا برباط الحب العميق وهل يجوز لاحد ان يفعل ذلك ؟ لا ، ابدا ! وكلما فكر في ذلك ازداد من حنق وثورة ، وهاجت نفسه التى تعودت الصبر والخوف فى مثل هذه المواقف . والتهبت فى جوانحه قوة عظيمة ، تقمصت روحه شجاعة مقدسة وقدرة على مقاومة اية قوة فى الارض فتجاسر على ارتكاب ظلم كهذا . واكتسب اساريره ، على مهل ، تعاببير اكيدة وطيدة راسخة . وتبدى فيها العزم الصارم والتمعت عيناه الكابيتان ببريق عجيب . وفي النهاية نهض وصعد الي ترتشكا ، وكانت قابعة تبكى ، بينما اخذ الآخرون يتطلعون فيه بدهشة
وقال لها بصوت فيه رنة عميقة جادة - لا تبكي يا ريزى فلم تجب ، فرفع رأسها فى حنان ورقة ، فاخذت تنحب بصوت اعلى ، فاعاد عليها : - لا تبكي ! لم يكن بد من ذلك ، وهذا احسن ، فنحن . الان نعرف ما يجب علينا ان نفعله .
تاهت نظراتها امامها - لقد طردنى ، فلا بد ان اذهب - وستذهبين انت معي . بدا وكانها لم تسمعه ، فاستطرد يقول - انهم لا يزالون يواصلون العمل فى مد الخط الحديدي ب " كراين تحت . سنجد عملا هناك .
فهزت راسها ببطء - الا تريدين يا ريزى ؟ انظرى ، هناك شئ آخر . لقد سمعت مرة ان الجنود الذين ادوا الخدمة العسكرية يستطيعون ان يكونوا احراس الخط الحديدى . ساقدم طلبا بذلك ، فلعل الحظ يساعدني ، فنستلم بيتا صغيرا مثل هذه البيوت التي تنتصب الى جانب الخط تحت ، نستطيع بعدها ان نعيش كزوج وزوجة . - ونظرا لانها لم تقم بحركة تدل على موافقتها ، وظلت تبكى بشدة ، فقد اضاف :
- واذا لم يتم ذلك ، فهذا حق ايضا ! اننا نريد ان نشتغل بضع سنوات بجد واجتهاد ، ونقتصد ما استطعنا الى ذلك سبيلا . - فقول كلمتك ياريزى
فتنهدت : - ان كل ما تقوله طيب وجميل ؛ ولكنك تنسى ان المشرف لن يتركني اذهب معك . - يجب ان يتركك تمضى معي ، فانت لم تعودي طفلة . ثم انه لا دخل له فيك . انك عاملتة مثل اية عامة اخرى ، تستطيعين ان تذهبى متى والى اين تريدين .
- صدقني انه لن يتركني اذهب - خاصة معك - لقد اخفيت عنك ذلك حتى الآن . واضافت بعد برهة ، وقد احمر وجهها فى سواد : - ويجب على اللحظة ان اخبرك بذلك . فعندما كانت امي لا تزال بقيد الحياة ، حاول غير مرة ان يغريني ، ملاطفا اياي ، لاقع في شباكه ،
غير انى كنت اتهرب منه واهدده باعلام امي بذلك . وفي الصيف الماضى رجع وحده ، ذات مساء ، من الخمارة وبدأ المحاولة من جديد وقال انه سيتزوجنى . ونظرا لانى لم اصغ اليه ، فقد اراد استعمال القوة معى ، بيد اني دافعت عن نفسي واعربت له عن رأي فيه . ومنذ ذلك الحين اصبح يكرهنى كرها شديدا وينتقم منى فى كل مناسبة .
شحب لون جورج ، وغاصت الدماء حتى من شفتيه ، والتاع صدره بحثا عن النفس . واخيرا نطق - يا له من شقي ! اتبقين عنده بعد هذا كله . ومادمت قد عرفت ذلك الآن ، فانك لن تبقى هنا . ستذهبين معي ، وله ان يحاول منعك !
فصاحت خائفة - لا تثق به . ففي مستطاعه ان يقتل من هو اضعف منه ! فاجاب جورج وقد استطالت قامته اكثر من اللازم كما ظهر - لقد هاجمني قبل من الخلف ، وانا لم اكن اتوقع منه ذلك . ولكن فليحاول ذلك مرة اخرى
فرفعت يديها واشتكت - يا الهى ! لا استطيع ان اراكما تتخاصمان . قال ، وهو يكبح جماح ثورته - لن يكون الامر ردئا الى هذه الدرجة . فلنذهب اليه الآن - حالا لنخبره بالقرار الذى اتخذناه . ولسوف ترين انه لن يقول شيئا . ومهما بلغ به الشر والنذاالة ، فانه ليس من حقه ولا في مقدوره ان يمنعك من ذلك .
كانت لا تزال رافعة يديها فى يأس . فقال حازما : - تشجعي يا ريزى ! اتريدين ان اذهب وحدى فالتجأت الى صدره وتعلقت بعنقه بشدة . فواصل حديثه وهو يبعد شعرها عن جبينها برفق - فلنذهب .
واتجها ببطء نحو الكوخ ، هى بقلب خائف فزع من الاشياء التى رأتها مقبلة ، وهو رابط الجاش . وحين دخلا الى الكوخ ، وجدا المشرف جالسا الى المائدة يقشر البطاطا بسكين فى يده . فنظر اليهما مندهشا ، الا ان هذه الدهشة لم تلبث ان تحولت الى غضب وغيظ . فارتفع قليلا ، وقد اسند مقبض السكين الى المائدة ، وكانه يستعد للهجوم - ماذا تريدان ، انتما الاثنين ؟
اجاب جورج بلهجة هادئة . - لقد طردتنى من العمل . وقد جئت لآخذ عفشى واخبرك بأن ترتشكا ستذهب معى .
قام المشرف بحركة كانه يريد ان يهجم عليه ، ولكنه ارتد خائفا رغما عنه ، حين لمح الجد والعزم اللذين ارتسما على وجه جورج . واخيرا قال : - ليس لي جواب على ذلك مطلقا .
- لست في حاجة إلى جواب . فترتشكا حرة عزباء تستطيع ان تفعل ما تريد . وتتابعت انفاس المشرف ، فاستطرد جورج ، وقد استدار يبحث عن كيسه : - خذي كل ما يخصك وتعالى !
كان صدر الآخر يعلو ويهبط بشدة . يظهر انه لم يعرف من اين يبدأ ، ولكنه ، فى حيرته هذه ، قد سلط على ترتشكا نظرات قاسية ، فلم تستطع اخفاء خوفها وارتباكها . وما ان اتجهت الى الصندوق وثب اليها ودفع بها الى القبو الذى كان بابه نصف مفتوح ، ثم قفل الباب ووضع المفتاح في جيبه . واخذ جسمه يرتعد من شدة الهيجان . وقال وهو يجلس الى المائدة ثانية
- هذا هو جوابي وعاد يواصل عمله فى هدوء مصطنع . لقد حدث ذلك بسرعة وبصورة
غير متوقعة ، بحيث ان جورج لم يستطع ان يحول دون ما حدث . الا انه تمالك نفسه فى التو ، وعلق كيسه دون عجلة فوق كتفه . ثم تقدم نحو المشرف بخطوات بطيئة . وقال في هدوء
اخرج ترتشكا ! كان المشرف يقشر البطاطا اخرج ترتشكا ! وارتعدت يدا المشرف ، وحين اعاد جورج طلبه للمرة الثانية بالحاح اشد ، وثب رافعا قبضة يده . وصاح : - اذهب الآن ! - اذهب ، والا - والا ماذا ؟ واضاف جورج فى ثبات . - لست اخافك وان كنت اقوى منى .
في المرة السابقة كانت لك معي لعبة هينة ، لاني كنت ضعيفا مثل ترتشكا الآن . ولكنى اقف لك الآن الآن العين بالعين . كان وجه المشرف قبيح المنظر ، ترتسم عليه علامات الكراهية والنقمة والجبن الكسيح ، وتموج صاعدة هابطة ، وافتر نفسا ، وامتدت يداه في ارتباب ، ولاحظ جورج ذلك فازداد من ثبات وقوة وعزم وقال
- لذا انصحك باعطائي حق اختيارا ، والا فسوف آخذه بالقوة . وفي اثناء ذلك كان قد تجمع بعض الرجال فى الكوخ ، لان وقت الغداء كان قد اقترب ، وكان لحضورهم اثر بالغ على المشرف ، اذ انه شعر بنوع من الاطمئنان ، واستحال جبنه جرأة وقحة ، وقد احس به على مضض خوفا من ان يلاحظه الآخرون . وقال :
- ان النذل يتجاسر على تهديدى ، لاني سجنت المرأة الدنيئة ، لكي لا تهرب معه . وتصاعدت الدماء في عروق جورج لا اراديا . - لا تشتمنا ، فنحن شرفاء . وليس من حقك ان تسجن ترتشكا ، ولو كانت دنيئة .
- كيف ؟ ليس من حقي ؟ انها ربيبتي وقد نشأت في كنفي . - ويا للاسف ! ولا اقول اكثر من هذا . انى اريد ان اترفق بك أمام هؤلاء قال ذلك وهو يشير الى الرجال الذين كانوا يراقبون الخصام المتزايد فى فرحة صامتة .
- اتسمعون الكلب ؟ انه يريد ان يترفق بي خذوه واخرجوه من هنا ! تبادل الرجال النظرات ، ولكنهم لم يحركوا ساكنا . ومن خلف باب القبو كان يتصاعد انين وعويل حاد . وقال جورج ، وقد اشتد هياجه - الا ترى ؟ لا احد يفكر في مسي لذلك اقول لك للمرة الاخيرة اطلق سراح ترتشكا - والا فسوف آخذ المطرقة من هناك . ضربتان بها وينفلق الباب
- ماذا ؟ اتريد ان تحطم الباب ؟ ايها اللص ، ايها القرصان ! اخرج ، والا ابعث فى طلب رجال الدرك ! - ارسل من يحضرهم ، وسوف يتضح من منا على صواب قال جورج ذلك بعنف ، ثم اضاف :
- سوف يتضح لم سجنت ترتشكا ! وعندئذ يتضح ايضا كيف كنت تعاملها منذ الصغر ، وكيف تربصت بها دون حياء ، واحتفظت باجرها اليومي وبكل ماورثته عن امها ، وقد كنت انت المسؤول عن موتها اجل ، عندئذ يتضح كيف تعامل الضعفاء والعاجزين ، هنا ، وتقتات من عرق العمال ودمائهم ، هؤلاء العمال الذين وكل امرهم اليك
وتوقف جورج بصورة لا شعورية . ان صحة هذه التهم وقوتها قد اخرجت المشرف عن اطواره وذكرته بافعاله . فاحمر وجهه وازرق ، وخار كالثور الهائج ، وتطاير الزبد من فمه ، وبزغت عيناه - هكذا اندفع نحو جورج والسكين تهتز فى يده ، الا ان جورج كان قد مسك المطرقة ولوح به نحو الهاجم . ورنت ضربة صماء . اصابت المشرف في صدره فترنح وتهاوى محشرجا ، ودماء ثرة قانية تندفع من فمه .
ساد الصمت برهة ، فقد استولى على الحاضرين رعب ابكم قاتل . اما جورج فقد وقف هناك كداود على جثة غولياث . ونادى ، وهو يضرب قفل الباب ضربات متتالية :
- ريزي ! ريزي ! اخرجي يا ريزى ! فانت حرة . ان معذبنا مضطجع على الأرض . فخرجت مسرعة ، وحين وقع بصرها على المصاب ، صرخت وهي تلطم بيديها .
يا سوع ومريم ! لقد مات يا جورج ! جورج ، ماذا فعلت ؟ والان ستقاد الى المحكمة كقاتل ! - فليكن ذلك . سادافع عن نفسي . وعلى هؤلاء ان يشهدوا بانه كان يريد قتلي بالسكين . ثم التفت الى الرجال وقال : - اذهبوا انتم الى تحت واخبروهم بان العامل جورج هوبر قد قتل المشرف .
ولم يفعل احد ذلك الا بعد مدة طويلة . اما جورج فقد جلس مع ترتشكا امام الكوخ ، وبينما انفجرت هى بالبكاء والنحيب ، كان هو لا يزال متعالنا فخورا بفعلته التى ظهرت له بمثابة محكمة قضائية عادلة . ومن وقت لآخر كان يداعب وجنة ترتشكا بلطف معزيا اياها . واخيرا أقبل رجلان من موظفي الادارة يرافقهما رجل من رجال الدرك . وبعد ان رويت لهم الحادثة اخذوا يتشاورون فيما بينهم . فقال رجل الدرك - يجب ان يساق الى السجن ، هو مجاز وسيقدم الى المحكمة العسكرية فى مدينة " فيز نويشتات
وحيث ان جورج ابدى استعداده لذلك تلقائيا . فقد اخبر بانه لن يكبل بالقيود . اما ترتشكا الباكية فقد حاول رجل الدرك تهدئتها وتعزيتها ومواساتها ، اذ انه لم يكن يعتقد ، بعد كل ما سمع ، ان عاقبته ستكون وخيمة ، حتى انه سمح لها بالجلوس في مقدمة العربة التى حملتهما فيما بعد الى " فيز نويشتات ، - وهكذا سافرا عند المساء وهبوط
الظلام ، وذلك في الوقت الذي اخذت فيه الجثة ، وكانت الامطار تهطل باستمرار .
-4- سجن المخضر يشبه اى سجن آخر ، مع فارق واحد ، وهو ان المقيمين فيه يرتدون بدلات رسمية عتيقة . فكان فيه جنود من كل لون ورتبة وبما انهم كانوا يعتبرون انفسهم منتمين الى طبقة واحدة ، بل ربما اكثر من ذلك ، فقد كانوا متحدين فيما بينهم اكثر مما جرت به العادة في اي مكان آخر . ولم تكن معروفة بينهم اساليب التربية وطرق النظام التى تفرضها ، عادة ، المحافظة على الفروق الطبقية . ورغم هذا كله ، فكان سجنا من هذا النوع يظل مكانا حزينا مقفرا . ولا ينبغي ان يدهشنا ان جورج لم يكن مرتاحا كل الارتياح فى ذلك السجن بمدينة " فيز نويشتات . وكان مدير السجن ، يرافقه الحرس ، قد زج به ، بعد وهن من الليل ، فى مكان مظلم مزدحم ، وثمة اضطر الى النوم فوق سرير خشبي ، وشخير النيام يتصاعد حواليه لان كيس التبن لم يكن قد اعد له بعد ، وكانت شجاعته وثقته بنفسه قد انطفأت فورتهما خلال الرحلة الطويلة المتعبة . وتحولتا في اعماقه الى شكوى فزعة وعتاب صارخ . وحين تسرب بصيص من نور عبر النوافذ المدفونة ، واضيئت الجدران العارية القذرة تدريجيا ومعها وجوه زملائه المساجين ، عندها اتضح له وضعه اكثر وثقل على نفسه . وليس ذلك لانه كان خائفا من عواقب فعلته ، فهو قد هوجم فاضطر الى الدفاع عن نفسه ، وانما لان صورة القتيل تراءت له ، فقد لمحه امامه شاحبا جامدا ملطخا بدمائه . واختلطت فى وعيه اليقظ مشاعر الندم والشفقه ، وارتجت اعماقه لانه قتل انسانا . وهذا كله جعله يشكو من ان كل ما حدث لم يكن منه بد . ومما زاد في سوء وضعه وترد حالته في السجن ، حيث تكالبت عليه الافكار ان الايام تمضى تلو الايام ، والاسابيع تلو الاسابيع ، دون ان يستنطق او يهتم به . والى هذا اخذت الهموم تسوره بشأن مستقبله ، واستبدت به الحيرة فى امر ترتشكا ، وكم كان يتعذب عندما يعاوده الحنين اليها ويرهقه التفكير فيها كانت المخلوقة التعسة قد عثرت على مكان قضت فيه ليلتها ، ذلك بمساعدة رجل الدرك ، وفي اليوم التالي وجدت عملا فى بناء دار جديدة . ورغم هذا فان اعماقها لم تعرف العزاء والسلوى . ولم يفكر أحد من اولئك الذين مروا بموقع البناء ورأوها صدفة تحمل الآجر او الدلو المملوء بالملاط ، لم يفكر في أنها تؤدي ذلك بألم عمق وقلب كسير . واعتادت ترتشكا ، كلما انتهت من
العمل فى المساء ، وفي ايام الآحاد والاعياد ، ان تدور حول الثكنة التى يوجد السجن بداخلها ، وتتطلع الى كل نافذة ذات شعرية ، علها تلمح وجه جورج في مكان ما ، بحيث انها تعرضت غير مرة للشتم والطرد من جانب الرقباء . وبالتالي توجهت ، مرغمة ، الى جنود الحرس بالباب والتمست منهم ان يدلوها على مكان السجين جورج هوبر ، لانها تريد ان تكلمه ، الا انها بطبيعة الحال لم تسمع منهم غير ضحكات الاستخفاف البذىء والمزاح الماجن ، الى ان رحمها فى النهاية ضابط تبدو عليه ملامح البر والاحسان ، واعرب لها عن استعداده للبحث عن السجين المذكور وتبليغه تحياتها له ، ولكنه لا يمكن ان يسمح لها بزيارته والتحدث اليه الا باذن من قاض المحكمة العسكرية . فينبغي لها اذا ان تذهب اليه ، وذلك فى الصباح ، لانه من الصعب العثور عليه طوال اليوم كله .
وفي يوم الاحد التالي ارتدت ترتشكا سلطتها الصوفية وثوبها القطني وتوجهت الى البيت الذى وصفه لها ضابط الصف . وهناك انتظرت طويلا في الممر ، فقد قيل لها ان القاضي لايزال نائما . واخيرا خرج هذا ، مرتديا ملابسه الكاملة ، وسألها بسرعة عما تريد . ولم يدعها تتم كلامها واخبرها بان السماح بالتحدث الى المساجين لا يكون الا في حالات نادرة ، وفيما عدا ذلك ينبغي لها ان تكون مطمئنة ، فإن الامر كله سيتم عن قريب . وعادت بقليل من العزاء ، ومرت الاسابيع تترى من غير ان يتخذ قرار بشأن جورج ، وذلك ، لمجرد قوله ، لان القاضي كان شابا مرحا مغرما بالحياة . فكانت جميلات المدينة اقرب الى قلبه من اعمال المحكمة ، لا سيما المعاملات التى تتعلق بالجنود المجازين دون ان يفصل فيها على عجل ، فانه يؤجلها بكل رغبة . وتفاقمت الهموم وتراكمت على ترتشكا فصممت على الذهاب اليه مرة اخرى ، ولكنه اشار عليها بانه لم يبق لها الا ان تتوجه الى عقيد الدائرة ، وهو على اية حال رجل شديد ، ولكنه رغم ذلك ساعد اناسا كثيرين ، وهكذا قررت ان تفعل هذا ايضا ، الا انها فى هذه المرة لم تنتظر فى الممر ، بل في غرفة الانتظار ، حيث وجدت الدفاء ، فقد كان الوقت شتاء . وفي النهاية سمعت قعقعات السيوف ، وخرج بعض الضباط من غرفة العقيد وساروا في ياس ظاهر . وبعد لحظة فتح الباب ثانية واطل منه رجل ذوهيبة ، مرمد الشارب ، وسألها ، فى جفوة ، عما تريد ، وما كادت تنفجر باكية حتى لانت اساريره
بعض الشئ . فادخلها وجلس يستمع الى قصتها . وبعد ان وجه اليها بعض الاسئلة ، طلب منها ان تروى له الحادثة بكل تفاصيلها ، فانطلقت تقص عليه ذلك في بساطة ويسر ، ولكنها اصابت كل الحقيقة ، بحيث ان العقيد ، الذى كان فى اثناء ذلك كثيرا ما يمسح شاربه ، رق لها وتأثر بكلامها تاثرا واضحا . وحين انتهت من رواية الحادثة ، نهض ووضع يده على كتفها فى حنان ولطف ، وقال لها ، ان عليها ان تهدئ من روعها ، ووعدها بان القضية بكاملها سيفرغ منها فى اقرب وقت ممكن ، وانه ليرجوا ان تتم في صالح جورج . فابتعدت عنه بقلب فرح ونفس مطمئنة . اما العقيد فقد اخذ ، للحظة ، يذرع الغرفة جيئة وذهابا ، مفكرا وكان بين الحين والاخر يضرب مهمازا باخيه فى هدوء . واخيرا ارسل جندية في طلب القاض العسكري . ومضت مدة طويلة قبل ان يدخل الشاب ، مجهدا ، وينحني امامه انحناءة خفيفة . وبدأ العقيد
- ايها السيد القاضى ! لقد سجن هنا ، قبل اربعة اشهر على التقريب ، مجاز يدعى جورج هوبر لاجراء التحقيق معه فى قضية تتعلق بالعرف العسكرى .
ففرك القاضى جبينه بحركة لا شعورية - جورج هوبر . - نعم ، نعم ، هذا صحيح . اظن ان الامر يتعلق بقضية - هو ذاك . ان الامر يتعلق بذلك . واحب ان ينتهى التحقيق فى قضيته . قال القاضي وهو يجتر نفسا - لا شئ اهون من هذا . انها قضية عادية غالبا ما تحدث بين اشخاص من هذا النوع . وفي حالة كهذه يرسل الرجل عدة مرات الى الشارع وبذلك تنتهى المسألة ! - لا . ايها الفاضل !
كان هذا جواب العقيد ، واستمر يقول - اذا ، لكانت المرافعة سطحية وغير عادلة . بالعكس ، انه ليهمنى ان تبحث القضية وتعالج بدقة وتآن في اقصر مدة ممكنة . واني لاسمح لنفسي ان الاحظ ، من غير تعد على حقوقك الشرعية ، ان هناك ، كما اعتقد ، روابط خاصة تلعب دورها في هذه المسألة .
وعند هذه الكلمات عقد ما بين حاجبيه ، فادرك القاضي قصده ، وانحني انحناءة عميقة ، ثم انصرف . ومضى رأسا الى مكتبه . وحيث انه لم تكن تعوزه النظرة الثاقبة والمهارة الفائقة . فلم يمضي وقت طويل حتى اجرى التحقيق مع جورج واستنطق الشهود ، وكان من بينهم ترتشكا ايضا واجتمع قضاة المحكمة العسكرية واصدروا الحكم التالي : جورج هوبر المجاز من الفيلق الثاني عشر ، قد ثبتت عليه جريمة القتل ، وحكم عليه بالسجن الشاق لمدة سنة واحدة . ولكن بما ان التحقيق قد اثبت انه كان فى حالة دفاع عن نفسه ، ونظرا لوجود اسباب اخرى تستلزم تخفيف العقوبة عنه ، لا سيما سيرته الحسنة ايام الخدمة العسكرية ، فإن المدة الطويلة التى قضاها فى السجن بدائرة التحقيقات الجنائية تعتبر عقابا له . لقد خجل القاضي نفسه ، واحمر وجهه قليلا ، حين كتب هذه العبارة الاخيرة ، ولكن وجهه ازداد من احمرار عندما قدم ، صبيحة اليوم التالي ، وثيقة الحكم الى العقيد للتوقيع عليها .
وبعد ان قرأ هذه الورقة ، ربت على كتفه ، وقال - هكذا نرى ان خيطا رفيعا من سعادة قد يساعد على اداء الوظيفة . ومع هذا فقد صافحه وودعه بلطف .
وبعد يومين ، فبعث العقيد في طلب جورج وترتشكا . ونظر اليهما طويلا في صمت ، ثم سألهما عن هذا وذاك ، وختم سؤاله بان نصحهما بالبقاء في المدينة ليكونا قريبين منه . ووعدهما بانه سيبحث لهما عن عمل مناسب يعيشان منه . وبالتالي اكد لهما انه سيتصل بهما فيما بعد . وما ان ترك الاثنان الغرفة ، يتمتمان بكلمات الشكر الخجولة ، حتى اخذ يروح ويجيء في الغرفة ، ووقع المهماز يرن حواليه . فقد كانت ثمة افكار غريبة تدور في رأسه وتضطرب في اعماقه . كان ، قبل سنوات عدة ، قد احب فتاة رشيقة شقراء ، وكان سعيدا بذلك الحب . ولم يشق بسببه فيما بعد ، لان الجميلة تأبت عليه واستخفت بحبه ورفضت عواطفه ، فلو كان الامر كذلك لتعزت عنها نفسه اليافعة القوية المتكبرة ، وانما لان ميوله الصادقة قد خدعت واستغلت بصورة فاحشة ، الامر الذي ملأ قلبه مرار دائمة وحدا مرضا على الجنس اللطيف ، ذلك الحقد الذى لم يستطع اخفاءه ، حتى انه حمل ، فيما بعد ، على غريزة الحب وادعى انه لا وجود للحب الا في قصص الشعراء المجانين ، اما في واقع الحياة فلا يوجد اثر له . والآن ، وبعد ان احتفظ لنفسه وللاخرين لهذا الرأي ، رغم اعتراض هادى
تصاعد فى اعماقه ، الان تصدى له الحب ، فجأة ، بكل عمقه واخلاصه وتفانيه وحنانه ، متمثلا فى هذين المحبين التعيسين - واجتاحت حنايا صدره رجفة لا توصف وحياء صموت . واختلط بذلك كله شئ من الحسد ، ولكنه عزم ، ما دام الامر فى يده ، على الاهتمام بالاثنين والعمل على اسعادهما مدى الحياة
وهناك ، حيث يمتد الخط الحديدى الاسود بمحاذاة نهر " المور الخرار ، مارا بالمروج الخضر والمراعي البديعة ، منعطفا حول قصر ايرنهاوزن ، الذى يطل من فوق هضبة مشجرة على مكان يحمل نفس الاسم . - هناك انتصب بيت وحيد لحراسة الخط الحديدى ، وخلف حقل صغير زرعت فيه الذرة والخضار ، وامام الباب المحفوف بسياج كثيف تفتحت ازهار الخباز وعباد الشمس برؤوسه الكبيرة . فى هذا القطاع الصغير الذى سحر المارين بلطفه وهدوئه ، كان يعيش جورج وترتشكا منذ خمس عشرة سنة ، وهذا شئ لم يتجاسرا على التطلع اليه سابقا ، وليس من الضرورى ان نذكر بصفة خاصة ان العقيد قد ساعدهما فى ذلك . ان المرء لا يكاد يلاحظ ان السن قد تقدمت بهما . انهما كانا يقومان بواجبهما سوية ويؤديان وظيفتهما التى تحملهما ليل نهار مسؤولية كبيرة وبالرغم من هذا كله فانهما يجدان الوقت الكافي لزراعة الحقل والعناية بالماعز والدجاج المنقنق ، وتربية طفليهما ذوى الشعر الاشقر ، وقد ولدا بعد مضي فترة من عمر الابوين ونشأ خلف السياج اجل ، لقد اتيح لجورج وترتشكا ايضا ان يجلسا امام الباب ، احدهما ممسكا بيد الآخر ، ويقضيا ساعات المساء في خلوة ، متأملين انحدار الشمس الغاربة . وكانا يمجدان باستمرار ، ذلك اليوم الذى التقيا فيه لاول مرة فوق تل " سيميرينغ " . وتتلاحق عليهما صور الماضى بكل الآمه ومسراته - حتى تلك اللحظة التى اصابهما القدر فيها بضربة رهيبة - ومع ذلك كانت سببا فى سعادتهما . وحين يتمدد فى صحو صدريهما ظل غائم اسود ، يسرعان بمناداة طفليهما ، فيتعلقان بذراعيهم لاعبين مداعبين ، وهما ينظران الى الدنيا ، فى وداعة ، بعيونهما الصبيانية الواسعة ، كانهما ليسا مقبلين على تقلبات الدهر التى تنتقل بالوراثة من جيل إلى جيل ، ما دام ثمة بشر يتنفسون فوق الارض الطاعنة السن
