كانت الليلة حارة ثقيلة الجو . وكانت المدنية المقدسة قد خرجت من يوم قائظ ملتهب ، وكان الوادى كأنما يتنفس بدخان محرق لا تراه أمامك وان كنت تلمسه فى كل شئ ، فى الثياب المحمومة التى ترتديها ، والجدران الحارة ، والأثاث الحار
وكان صاحبينا وليكن اسمه - احمد - يعتاد النوم فى احدى هذه المقاهى المنتشرة خارج مكة من جهة المسفله ، إذ لم يكن ممن يتاح لهم حظ قضاء الصيف بالطائف .
وكان صاحب المقهى واسمه - العم بدوى - رجلا غريب الطباع فيه شئ من الجمود وكثير من اللؤم والشذوذ ، ولكنه كان يعامل زبائنه الدائمين بضرب غريب من المعاملة فهو لا يحتج على ما يبدو منهم مما يخالف - أصول الرقدية - التى يتقنها جيدا ولكنما كان يحتج احتجاجا صامتا يعرفه صاحبنا ويجد فيه مادة للفكاهة إذا كان صافى المزاج مما يعكر طبيعته الهادئة وخلقه الطروب .
وكانت للعم بدوى مع الفلاحين من البدو الذين يردن بمقهاه فى طريقهم إلى المدينة وعودتهم منها حوادث طريقة كثير من الشذوذ والطرافة وكان له
مع الحطابين حوادث اخرى ، وكان صاحبنا من نزلاء هذا الفندق الخلوى الزمن ويروى لاصدقائه انه فى طول هذه السنوات التى قضاها نزيلا بممهى العم بدوى لم يره يتفق مع احد الحطابين على صفقة من الصفقات التى يدخل فيها مساوما والتى تبدأ فى كل مرة بالمناقشة الآتية :
العم بدوي - ولد بدو الحطاب _ إيه العم بدوي _كم الحمل الحطاب - ريالين العم بدوى - وكأنه لم يسمع - نزله وخذ نصف ريال الخطاب - ينظر اليه شزرا ، ويمضي في سبيله دون جواب العم بدوي - انت خبل - خذ اثنى عشر قرشا الحطاب - يسهل الله العم بدوي - ريال الا ربع الخطاب - ما هو للبيع
العم بدوي - ايش هذا الفراش اللي تحت الحمل ؛ منين جايه يا حرامي ... وينطلق الحطاب لسبيله مشيعا بلعنات العم بدوي واتهاماته دون ان يلتفت إلى شئ من هذره .
وعلى الأيام عرفه البدو جميعا فكان الخبثاء منهم يجعلون من الحديث معه مادة للعبث والفكاهة ، وكان الاخرون لا يلقون اليه بالا فهو يساومهم ويرد على نفسه ويطلب انزال الحمل بنصف ريال ويزيده قرشا وقرشا من تلقاء نفسه والبدوي ينكث الأرض بعصاه ، وبصره على بعيره أو قافلته الصغيرة دون أن يلتفت إلى هذا الشيخ المخبول كما يسمونه . ويبأس العم بدوي من المساومة فينطلق في اتهاماته وسبابه إلى ان يجيء بدوى آخر وتعود الاسطوانة من جديد
اعتاد احمد افندى هذا حتى اصبح ليس بالجديد عليه ان يستيقظ صباح كل يوم على هذة الموسيقى البلدية . وكان تؤوما لا يفارق سريره المشرط بالخسف الا بعد ان تعتني الشمس وتغمره بفيض من اشعتها فكان العم يد يدوي يترك موضعه الظليل ويجلس فى ظل احدى الموائد الخشبية المهدمه والكراسى العتيقة ويسند رأسه بيديه وينطلق فى التفكير كانما دهمته مصيبة أوصلت به نكبة لا قبل له باحتمالها ويستيقظ احمد افندى فيرى العم بدوى على هذه الحالة فيعرف انه هو وحده المقصود بها فلا يحرك ساكنا للاعتذار والاسترضاء .
وعلى الايام رضي العم بدوي باحمد أفندي زبونا دائما ورضى احمد أفندي بالعم بدوى وبما فى تصرفاته من شذوذ ، ولكنه رضاء اكراه أو رضاء لابد منه مادام كلا الاثنين لا يستغنى عن الآخر فلا العم بدوى بمستطيع التفريط في هذا الزبون الدائم ولا أحمد افندي بقادر على النوم في المدينة أو الرضاء بمقهي غير هذا الذي تتوفر فيه الشروط المطلوبة من بعد الضجيج ورقة فى الهواء وخلو من البعوض
وكان احمد أفندى فى هذه النيلة التى قدمنا الحديث عنها فى صدر الكلام مصابا بحمى خفيفة اثر اجهاد عنيف وقرر ان يبيت فى البيت فى رعاية جدته العجوز وابنة عمه ولكنه أيقن بعد ان امضي ساعة كاملة تحت - الناموسية الكة - ان النوم لا يمكن ان يطرق اجفانه لا إذا استلقى على سريره المعتاد فى هواء الطلق . والا إذا كحل عينيه برؤية العم بدوي ومقهاه العتيد .
وارتدى ملابسه على عجل وانطلق من البيت يغذ السير فى هذا الطريق الطويل المتعرج الملئ بالاحجار والرمال وبعد لأى ظهرت له انوار المقهى وبدا له العم بدوى مقتعدا كرسيه فى انتظار الزبائن الغائبين .
واحضر العم بدوي فراش احمد افندي دون حديث ومهد هذا فراشه واستلقى عليه ، وكان السير الطويل قد انهك من جسمه وزاد حرارته ارتفاعا .
وكانت الليلة كما قدمنا شديدة الحر فلم تنطلق في جوها نسمة هادئة رطبة ولكن الجو كان الطف بعض الشئ منه فى البيت وتحت الكلة وبين طنين البعوض وحرارة الجدران .
ولا يدري أحمد افندي كم قضى من الليل ساهرا ولكنه يعرف ان النوم قد زاره أخيرا دون ان يكون ملتحفا باي غطاء .
واستيقظ احمد أفندي قبيل الفجر وقد زايلته الحمى واحس بشئ من البرد يريد البطانية والغطاء الصوفى الذى يحتفظ به فى فراشه لاخر الليل الذى يكون باردا دائما فى هذه المقاهى البعيدة عن العمران .
وماراع صاحبنا الا انه يجد نفسه ملتحفا بالبطانية القطنية اولا ومن فوقها البطانية الصوفية التحافا محكما وفكر وهو فى داخل الفراش من ترى فعل هذا ؟
انه لم يفعل ذلك بالتأكيد . لقد ترك البطانية تحت قدميه والغطاء الصوفي تحت رأسه فمن ذا الذي اشفق عليه في هذه الليلة واعتني به هذه العناية التى لا يعرفها الا فى الدار وبين خاصة الاهل والأقربين .
لاشك انه العم بدوى . جاء يتفقد المراكز كعادته فى الليل أو يضع الاباريق ويملأ الفارغ من الشراب فوجد أحمد أفندي مكشوفا فغطاه هذا الغطاء المحكم أو لعله سمع انينه وأدرك حماه فاخذته الشفقة عليه فقام له بما قام
وحمد احمد افندي للعم بدوي صنيعه الجميل ، وغير هذا من رأيه في العم بدوي ، واخذ يلوم نفسه على ما فرطت في جانب هذا الرجل الطيب وقرر بينه وبين نفسه ان يزيد للعم بدوي في الاجر وان يعتذر له عما سلف منه وان يحسن من معاملته جزاءا وفاقا على غايته به وعطفه عليه .
واستعادت اجفان أحمد افندي النوم مرة اخرى واستيقظ كعادته بعد ان ارتفعت الشمس وفتح عينيه وتذكر حوادث الليلة الماضية وماتم فيها وفجأة وقع
بصره على العم بدوى مستظلا كعادته بالمائدة المتهالكة محتجا على استغراق صاحبنا فى النوم .
وعلى غير عادة نادى احمد العم بدوي ليدفع له الاجر مضاعفا وجلس على السرير ومد يده إلى حيث اعتاد ان يضع ملابسه على طرف الكرسي ليستخرج حافظة النقود من داخل الكوت فاذا بيده تصطدم باليد الخشبية القاسية وكان العم بدوي قد وصل حين ذاك أحمد افندي في شكره على عنايته باسدال الغطاء عليه فى الليل والاعتذار له عما بدا منه من قصور وافاق صاحبنا من أحلامه وبحث عن ملابسه فلم يجدها .
وكان العم بدوي لم يدرك حتى الآن ما حل بصاحبه ، وبدأ احمد افندي يعود بفكره مرة اخرى إلى حوادث الليلة الماضية ويتذكر ماتم فيها ويوفق الحوادث ويلائم بينها وبين فقدان الملابس واخيرا صحا على صوت العم بدوي وهو يقول
ولكنى لم أسدل عليك الغطاء في الليل ؟ وتذكر صاحبنا ان من أسدل الغطاء كان غير العم بدوي . وقال ولكنه ظريف على كل حال .
نعم ظريف هذا اللص الذي اشفق عليه من البرد والحمي فاسدل عليه الغطاء واحكمه وخفف عنه ثقل ملابسه بما حوت من نقود ومتاع .
وغادر احمد أفندي المقهى بعد ان استعار من العم بدوي عباءة يستر بها جسمه إلى ان يصل إلى بيته وهو يردد . ولكنه ظريف على كل حال .

