جميل صدقى الزهاوى .. لا ينحصر شعره فى العلوم والفلسفة بل يشمل نشاطه كل ميادين الشعر وجوانبه
يرى بعض النقاد أن شعر المرحوم جميل صدقي الزهاوى من ذلك الشعر الذي يسمى بالشعر التعليمي ، لكنى أعتقد أن هذا الرأي مجانب للصواب .. ذلك أن الشعر التعليمي لا تجد فيه نبضا لروح الشاعر أو أحاسيسه فكل ما هنالك أن يأتي المتبحر فى علم الفقه أو النحو أو الأصول أو الذي وعت ذاكرته مفردات كثيرة من اللغة فينظمها فى أرجوزة من الأراجيز كما فعل ابن مالك فى ألفيته المشهورة والتي يحفظ أكثرها دارسو علم النحو على الطريقة القديمة أو كما فعل ابن دريد في مقصورته المعروفة التى ضمنها بعض نصائحه والتى أصبحت كالأمثال المشهورة . فقد جاء فيها :
وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثا حسنا لمن وعى
وكما فعل آبان بن عبد الحميد اللاحقى حين نظم كتاب - كلية و دمنة - والشيخ إبراهيم الأحدب حين نظم كتاب مجمع الأمثال للميدانى ، ويقال إن إبراهيم الفزارى نظم قصيدة طويلة فى الفلك والنجوم بلغت آلافا من الابيات وقد سمى هذا اللون بالشعر التعليمي لأن قصد ناظميه يكمن في أحد أمرين : إما ان يريدوا إظهار قدرتهم واطلاعهم على العلم الذي
نظموا فيه ، وإما أن يريدوا من الناس أن يحفظوا الفن الذي نظموا فيه عن ظهر قلب فإن حفظ الشعر أسهل على الذاكرة من حفظ النثر . وعل أى حال فإن مثل هؤلاء العلماء وإن كانوا قد أحبوا العلوم التى نظموها فى أراجيزهم لكنه حب لم يصل إلى أحاسيسهم كما نجد ذلك في ما أنشده المعري في لزومياته فإنك تجد فى شعره حرارة المتأثر فيما نظم من آراء فلسفية ، من ذلك قوله :
يا ظالما عقد اليدين مصليا
من دون ظلمك يعقد الزنار
أتظن أنك للمحاسن كاسب
وخبىء أمرك شره وشنار
ليل بلا نور أجن بمهمه
حبس الأدلة ليس فيه منار
وهي الحياة فعفة أو فتنة
ثم الممات فجنة أو نار
في هذه الأبيات يعلن فيلسوفنا غضبه على أولئك الذين يرتكبون كل فاحشة ولا يتوقفون عن ظلم ثم يؤدون الفرائض الدينية ، معتقدين أن تأدية الفرائض تمحو جرائمهم التى يرتكبونها طول حياتهم .
وليس من شك أن شاعرنا محق فى غضبته ، فإن كل الفرائض الدينية شرعت لتعلم الناس بأن يبتعدوا عن الفحشاء والمنكر ولكن الكثير من الناس لا يفهمون هذه المعاني السامية المقصودة من الشريعة السمحاء ولكي لا يقال عنا بأننا لا نستشهد إلا بالعباقرة الماضيين فإني أرى بأن نلتقي بشاعرة معاصرة لها مكانتها فى دنيا البحث والفكر والأدب . وفي تنشئة أجيالنا الصاعدة ، تلك هي الشاعرة الموهوبة نازك الملائكة فاسمعها وهي تقول :
فإذا غنت العصافير وافترت
ثغور الأزهار فوق ثرانا
وتمشى الأحياء فوق بقايانا
وداسوا عظامنا ودمانا
فهو ثأر الطبيعة البارد المر
وسخرية الزمان العاتي
وحقود الحياة لا بد للميت
منها في عالم الأموات
يا جموع الأحياء في الأرض هيهات
يعود الماضي الجميل إليكم
فاغنموا ليلكم وغنوا فمن يدري ؟
لعل الصباح يقضى عليكم
علها الليلة الأخيرة من عمركم
في الوجود يا أحياء
ليس منكم من يضمن الغد فاشدوا
فقريبا يضيع هذا المساء
واضح أن الشاعرة في هذه القطعة متأثرة بالفكرة القائلة بأن جزءا كبيرا من التراب الذي تدوسه أقدامنا ونبني عليه قصورنا الشامخة هو من رفات آبائنا وأجدادنا فإذا كان هذا مصيرنا المحتوم ، فلماذا لا نستمتع فى حياتنا بصورة مشروعة فيما يحل ويجمل . فأبو العلاء المعرى ونازك الملائكة وأمثالهما من الذين يضمنون أشعارهم آراء فلسفية لا يمكن ان نعد شعرهم من اللون التعليمي لأنك تحس في آثارهم نبضا قويا مستمدا من احاسيسهم ومشاعرهم . وفي اعتقادى أن المرحوم الزهاوى من هذه
الفئة التى تأثرت مشاعرهم بعجائب هذا الكون ، وإن كانت قصائده مملوءة بالمصطلحات العلمية المعاصرة غير أنك تحس بأنها جاءت مدفوعة بأفكاره متأثرة بعقله فهو يتساءل في حيرة تدل على صراع شديد فى نفسه مثل قوله :
لا تقبل الأجرام عدا
كلا ولا الأبعاد حدا
العقل يرجع خائبا
عنها وإن لم يأل جهدا
مسترشدا بعلومه
فيها إذا ما ضل يهدى
والعقل يعلم من
سياحته التى أولته مجدا
إن المجرة لم تكن
إلا عوالم فقن عدا
ففي هذه القطعة دليل على ما ذهبت إليه من أن الزهاوى فى كثير من شعره العلمي لا ينظم المسائل العلمية من دون إحساس أو اهتمام وإنما ينظر فيها نظرات عميقة ويدعو قارئه إلى مشاركته في تلك النظرات فكأنه يطلب منه أن يرده إلى الصواب إذا كان مخطئا أو يؤيده إذا كان مصيبا وهذه القصيدة تجرى كلها على هذا النسق ويقول أيضا :
تحوى السماء نجوما ذات أنظمة
من الشموس كثارا ليس تنحصر
نخالها ثابتات وهى مسرعة
كأنها الخيل فى بيداء تحتضر
وكل شمس لها جرم بنسبته
يجري الأثير إليها فهى تستعر
وهو الذى يوسع الأجسام قاطبة
دفعا عليها به الأجسام تنهمر
وللأثير يد فى الكون قاهرة
تدحرجت بعصاها هذه الأكر
على ان شعره لا ينحصر فى الحديث عن العلوم والفلسفة وإن اشتهر بذلك فإن له نشاطا في كل ميادين الشعر وجوانبه كالرثاء والغزل والهجاء . فهو شاعر مطبوع يعد من اركان نهضتنا الآدبية الحديثة ، وإذا ما أردنا أن نتعرف على رحلته في هذه الدنيا فإننا نجد الحديث فيها واسعا لا تحتمله هذه العجالة القصيرة ، فذلك لأن أديبنا هذا من الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس منذ طفولته وحتى مفارقته للحياة فقد قال عن نفسه كنت في صباي اسمى " المجنون " لحركاتى غير المألوفة ، وفي شبابى " الطائش " لنزعتى إلى الطرب ، وفي كهولتي " الجرىء " لمقاومتي الاستبداد وفي شيخوختي " الزنديق " لمجاهرتي بآرائى الفلسفية .
لم يقتصر نشاطه على الشعر فقط وإن كانت له عدة دواوين وإنما كتب المقالات ونشرها فى كبريات الصحف العربية .
كان لشعره ونثره أكبر الأثر لدى كل المثقفين فى كل الوطن العربي وقد ولد سنة 1863 وتوفى سنة 1936 م ... رحمه الله وطيب ثراه .
