أصدرت الدار التونسية للنشر كتيبا ذا (89) صفحة من الحجم الصغير يحتوى على (مذكرات) أبى القاسم الشابى.
وقد عنت لى أثناء مطالعته مجموعة من الملاحظات:
أذكر أني قرأت كثيرا من هذه المذكرات فى الجرائد والمجلات الادبية التونسة، كما اذكر انى قرأت اكثر من مرة ان السيد ابراهيم بو رقعه يحتفظ بهذه (المذكرات) عنده منذ حياة الشابى.
ولما عدت الى كتاب (مع الشابي) لمحمد الحليوى وجدته يقول (ص 126) إن ثلاث (مذكرات) نشرت - فى السنة الأولى من مجلة (العالم الأدبي) عام 1930 اى قبل وفاة الشابي باربع سنوات - بالعناون التاليه : "أغنيه الألم" و "صفحات دامية من حياة شاعر" و "أيها القلب". ]وهذا يدل على أن الشابي لم يعتبر هذه المذكرات شخصية خاصة بل اعتبرها اثرا ادبيا كتبها للنشر ونشر فى حياته بعضا منها[.
ولما توفى أبو القاسم نشر السيد ابراهيم بو رقعة أربع مذكرات منها فى مجلة (مكارم الأخلاق) الصادرة فى صفاقس سنة 1355 ه. ثم نشر مذكرتين فى جريدة (الأسبوع) سنة 1952 . وخمس مذكرات (؟) فى مجلة (الفكر) سنتى 1959-1960.
والكتيب الذي يضم مذكرات الشابي يحتوي على اثنتين وعشرين مذكرة تبدأ من 1 جانفي 1930 الى 6 فيفري من نفس السنة فهو لم يكن يسجل مذكراته بوما خلافا لما جاء فى صفحة ٩ من المقدمة حيث قيل عن هذه المذكرات إنها "مذكرات قيدها الشاعر فى كلمات يوما بعد يوم".
وجملة ما نشر من هذه المذكرات في الجرائد والمجلات 14 مذكرة حسب الحليوى (مع الشابي ص 126) وأبو القاسم محمد كرو فى كتابه "آثار الشابي وصداه فى الشرق" (ص 27-28) وإذن فالكتيب يضم 8 مذكرات فقط لم تنشر من قبل، من بينها مذكرة ذات أربعة أسطر.
ويقول الحليوى وكرو فى المرجعين السابقين ان المذكرات تبتدى بيوم جانفي 1930 وتنتهي بيوم 12 فيفري من نفس السنة، بينما هي فى هذا الكتب الذي بين ايدينا تنتهى بيوم 6 فيفري، فهل نفهم من هذا أن المذكرات
ناقصة ، ؟ خاصة والدار التونسية للنشر لم تشر الى مصدر المذكرات، فهل اخذتها من ابراهيم بو رقعة الذى يقول عنه الاستاذ كرو: "ويحتفظ بالنسخة الاصلية لهذه اليوميات صديق الشابى الاستاذ ابراهيم بو رقعة الذى نشر جانبا منها ٠٠"؟ ام لم تستطع الدار التونسية للنشر الحصول على النسخة الاصلية منه فاكتفت بالمسودات من الورثة، إن كانت لهذه المذكرات مسودات او نسخة أخرى؟
على أى حال فقد كان على الدار التونسية للنشر ان تشير الى مصدر هذه المذكرات وان تنشر منها نموذجا بخط صاحبها فى أول الكتاب كما فعلت عند نشر ديوان الشابى، وكما فعلت "دار المغرب العربى" لما نشرت رسائل الشابى. وهذا أمر هام لا يعزب عن المشرفين على هذه الدار.
بعد هذه الكلمة العامة أتناول بعض المذكرات او بعض فقرات منها بشئ من البحث والتحليل والمقارنة:
فى مذكرة بتاريخ "الاثنين 13 جانفى 1930 يقول الشابى: "ذهبت أنا والأخ زين العابدين السنوسى والأخ مصطفى خريف مساء اليوم الى النادى الأدبي لالقاء محاضرتى عن كتاب "الأدب العربى فى المغرب الأقصى" الذى طلب مني النادى أن ابسط لهم رأيى فيه. ولكننا لم نجد أحدا".
وقد أثارت هذه الكلمة - التى دونها الشابى فى تلك المذكرة - كثيرا من الأدباء وأثرت فيهم أيما تأثير إذ أن الشابي ذهب ليلقى محاضرة فلم يجد أحدا فى النادى الأدبي، وهو أمر مؤسف حقا. ولكن الشابى نفسه يكتب بعد اسبوع واحد من كتابة تلك الكلمة قائلا - بتاريخ 20 جانفى 1930": "وهكذا كانت خاتمة العام الماضي محزنة كابية. ثم جاءت السنة الحالية فاقترح الأخ عثمان الكعاك ان تكون طريقة النادى إنما هى اثارة المواضيع لدراستها ومن كانت له دراسة عرضها على النادى لتلقى مساممرة عامة ايام الجمع . وقررت الأغلبية هذا ولكن يمضي على هذا الاتفاق شهر ونصف قام خلالها كل منى والأخ عثمان الكعاك بمحاضرة: واحدة منهما تعرضت لنقد كتاب "الأدب العربى فى المغرب الاقصى" والاخرى تعرضت لطريقة البحث فى الثقافة الشرقية عند المستشرقين وعند المسلمين فى الوقت الحاضر. وقد اغضبت كل منهما طائفة من الناس" (ص 65).
واذن فالشابي قد ألقى هذه المحاضرة حول كتاب "الأدب العربى فى المغرب الأقصى" وقد اغضبت هذه المحاضرة طائفة من الناس على حد تعبيره ... ومتى وقع ذلك؟ بعد اسبوع واحد من قوله انه ذهب مع السنوسى وخريف الى النادى الأدبي فلم نجد أحدا هناك!
فهل ألقى الشابي حقا هذه المحاضرة ام لا؟ واذا كان ألقاها فمتى تم ذلك؟ وكيف اغضبت طائفة من الناس؟ ولماذا لم يشر فى مذكرة اخرى الى انه القى هذه المحاضرة ان كان قد ألقاها؟
وأترك هاتين الحملتين المتناقضتين وانتقل الى مذكرة اخرى بتاريخ "الثلاثاء 21 حانفي 1930، يعلق فيها على رسالة وصلته من صديقه محمد الحليوى ... وقد أرفقها بمقال كتبه فى انتقاد بعض الاراء التى وردت فى كتاب "الخيال الشعرى عند العرب" وقد فوض الحليوى الى الشابى أمر نشرها او اهمالها لأنه كان حريصا "على مودة يشفق أن تذروها عواصف النقد".
وقد نقل الشابى فقرة من تلك الرسالة وعلق عليها، ولكننا إذا رجعنا إلى الفقرة فى كتاب " رسائل الشابى " الذى نشره الحليوى، أدر كنا ان ابا القاسم لم ينسخ تلك الفقرة نسخا امينا حرفيا بل بدل وغير وحور وزاد فيها ايضا ... والى القارىء تلك الفقرة كما جاءت فى "رسائل الشابى" (ص 41): وعلى كل فها انذا فوضت امرها اليك فما شئت فاصنع بها.
لو تدرى يا خي كم تنازعت مع نفسى فى شأن هذا النقد لعذرتني عن التأخير والتوانى فى إتمامه حتى اليوم. فقد كنت حريصا جد الحرص على صداقتك ضنينا بها ضن البخيل بماله وكنت أخاف أن تصدر منى كلمة أو رأى يكون سببا فى سوء التفاهم بيننا ذلك أن شيطان النقد كثيرا ما زرع بذور الشقاق بين الأحباء.
فبربك دعنى - أيها الأخ - اتمتع بصداقتك وانعم بودك ودعني أعجب بأدبك عن بعد دون ان ندخل جمهور القراء فى ما بيننا واقنع منى بأن أكون شريكك في جل آرائك ولا تلمني اذا رأيتني أعدل فى آخر وقت عن الكلمة الثانية التى وعدت بها فى آخر المقال"
ولكننا إذا قارناها بما هو مثبت فى (مذكرات) الشابى وجدنا تبديلا وتغيرا فى كثير من الكلمات، ويستطيع القارىء ان يتبين ذلك بالمقارنة والرجوع الى الفقرة فى كلا الكتابين فقوله: "فها أنذا" صارت: "فها أنا" و "ما شئت فاصنع بها" صارت: "فما شئت فعلت بها" و "هذا النقد" صارت : "هذا الانتقاد" و "ضن البخيل بماله" صارت: " ضن البخيل بالدينار" و "أخاف ان تصدر منى" صارت: "... أن تبدو منى ..." و "ذلك أن شيطان النقد كثيرا ما زرع بذور الشقاق بين الأحباء" تحولت الى: "...لأن شيطان النقد لا وظيفة له فى الدنيا الا زرع بذور الشقاق بين الأحباء" وأضاف الشابي هذه الجملة من عنده دون ان يكون لها وجود فى الرسالة : "وأنا من الذين يحرمون هذا النوع من النقد بين الاصدقاء المتحابين" كما تحولت كلمة "وانعم بودك" الى : "واتبادل ودك" و "واقنع مني بأن أكون شريكك .." الى "واقنع منى بأنى شريكك". وهذا الذى نجده فى هذه الفقرة من اختلاف اما أن يكون ناتجا عن سهو من الشابى وعدم اعتناء ندقة النقل أو ان يكون ناتجا عن تعديل من الحليووى فى رسالته، واذا صح ذلك فاننا نستطيع ان نقول إن الحليوى قد عدل جميع أو جل رسائله
التى أرسل بها الى الشابى، ولكن هذا حدس لا يرقى الى مرتبة اليقين. ولست أدرى - بالمناسبة لماذا لم يجب الشابى على هذه الرسالة التى وجهها له الحليوى ، إذ لم يكاتب الحليوى إلا فى مارس بعد رسالة اخرى منه بتاريخ 21 فيفرى "اى بعد شهرين من رسالته السابقة". والحال ان هذا المذكرة التى نحن بصددها تكاد تكون ردا على رسالة الحليوى تلك.
والشابي الذي ذهب فى العاشرة من صباح ذلك اليوم الى ادارة البريد واستلم رسالة محمد الحليوى بعد دفع معلوم عنها لأنها اثقل مما ينبغى ان تكون (ص 67) وقرأ الرسالة والمقال الذى ارسله الحليوى مع الرسالة حول "الخيال الشعرى عند العرب" ذلك المقال الذي يتكون من 13 صفحة "انظر كتاب مع الشابى من صفحة 6 الى صفحة 18" .... ولا شك أن الشابي قرأ المقال اكثر من مرة لأنه يتناول كتابه بالنقد والتحليل ... اقول بعد كل هذا - أو قبل كل هذا - لست ادرى - كتب الشابي قصيدة من اشهر قصائده هى: "النبى المجهول" فهى فى الديوان (ص 153) مكتوبة بنفس التاريخ الذي كتبت فيه تلك المذكرة، والغريب أنه لا يوجد فى حوادث ذلك اليوم ما يوحى بأن الشابى يمكن ان يكتب تلك القصيدة الثائرة . ثم انه لم بشر فى تلك المذكرة الى أنه كتب تلك القصيدة فهل لم يعطها أهمية؟، أم هل نشك فى صحة تاريخ القصيدة؟
وفى اعتقادى أن الشابى لم يكتب قصيدة "النبى المجهول" فى يوم واحد بل بدأها أو أنهاها فى ذلك اليوم، وهذا وجه تاريخها بذلك التاريخ.
والملاحظ فى هذه المذكرات أن الشابى يستعمل التاريخ الميلادي فى حين انه فى " رسائله " الى الحليوى باستثناء الرسائل الأخيرة - وفى ديوانه بستعمل التاريخ الهجرى ، وهذه مسألة تجدر ملاحظتها.
وملاحظاتى حول هذه (المذكرات) كثيرة اخشى ان آتي على صبركم قبل أن آتي عليها . لذلك سأكتفى فى النهاية بملاحظة حول صورة الغلاف التي رسمها حاتم المكى، ولست ادرى لماذا اختارت "الدار التونسية للنشر" هذا الرسام ليضع لها رسوم كتب الشابى ولم تشرك غيره فى هذا العمل؟. ففي ديوان الشابى رسمان له بالاضافة الى رسم الشاعر.
وألاحظ ايضا على صفحة الغلاف التى رسمها حاتم المكي وجود هذا التاريخ "جانفى 24 الثلاثاء 1930" وهذا التركيب غير صحيح. اذ يجب ان يكون هكذا: "الثلاثاء 24 جانفى 1930" واذا بحثنا فى هذه المذكرات عن يومية بهذا التاريخ لم نجد الا مذكرة بتاريخ "الثلاثاء 2 جانفى 1930". ثم ان يوم 24
جانفى لا يكون يوم ثلاثاء بل يكون يوم جمعة، فلماذا هذا الاهمال من الرسام أو من المشرفين على طبع المذكرات؟
و (مذكرات) الشابي بعد كل هذا - ورغم كل هذا - جديرة بدراسه نتناول المحتوى وتبحث المضمون فأرجو أن تتاح لى الفرصة لاتناولها من هذه الناحية، إذ أن هذه المذكرات تكشف عن بعض جوانب من ادب الشابى وتنير بعض الطريق أمام دارسي أدبه.
