ترك لنا شعراء الجنوب القدامى من الشعر الملحمى نصيبا وافرا وصفوا فيه معارك واصطدامات وقعت بين الجيش الفرنسى والمجاهدين التونسيين فى تواريخ مختلفة وأغلب هذه الوقائع حدثت أثناء الحرب العالمية الاولى وفيما بعدها .
والملاحظ أن الفرنسيين كانوا يطلقون على المجاهدين كلمة (( الفلاقة )) ، وتعنى قاطعى الطريق ومن الغريب أن سكان الجهة أخذوا هذه الكلمة أيضا لكنها تعنى عندهم المتمرد على الحكومة .
وهذا الرصيد من الشعر الملحمى الذى احتفظ لنا به الرواة يعتبر ذا مكانة سامية من الناحيتين الشعرية الفنية والتاريخية .
وإذا كان مجال الفكر لا يتسع لدراسة مطولة لهذه الملاحم والوقائع التي قيلت فيها فلا أقل من عرض بعضها مع شرح بسيط لمحتواها ولا لفاظها الغامضة .
ملحمة التوامة
ضو بن ضيف الله بطل هذه الملحمة : هو ضو بن حمد بن ضيف الله الشهيدي من أولاد شهيدة معتمدية تطاوين أحد أبطال ثورة الجنوب في الحرب العالمية الاولى .
واشتهر ابن ضيف الله في معارك الجنوب بالشجاعة ودقة الرماية وحضر عدة وقائع قابل فيها العدد العديد من الاعوان الفرنسيين وكان له النصر في كل موقعة .
من هذه الوقائع معركة رمثة ومعركة رمادة وكان شابا لا يتجاوز الثلاثين من عمره .
ومن وقائعة الشهيرة واقعة جبل نومر قرب الدويرات وكان فى هذه الواقعة ضمن خمسة من أبناء عمه أولاد شهيدة فاصطدموا بقوة فرنسية تعد حوالى الثلاثمائة وطوقتهم هذه القوة فمات ثلاثة من اخوانه وجرح هو جرحا بليغا بينما جرح رفيقه الوحيد الذي بقي معه سعد بن عون جرحا خفيفا واستطاع سعد تحت ظلام الليل أن ينجي صاحبه بن ضيف الله محمولا على ظهره ويتخلص به من التطويق .
يقول فى هذه الواقعة الشاعر مفتاح القعود من بنقردان :
قالوا نشدوهم بالكمشه نهزوهم للدوله
ثلاثمية لاذوا على خمسه مشوا منهم بالطوله
وفي هذه الواقعة أشيع نبأ موت ابن ضيف الله فقال أحد أعوان الفرنسيين ظانا أنه مات حقيقة .
فى خشم نومر مات بن ضيف الله رقى مزنا وما زال بيتعلى
ومن وقائع ابن ضيف الله الشهيرة واقعة التوامة وقد يسميها بعضهم واقعة أم الدود وكان ضو بن ضيف الله أغار
مع أحد رفاقه على نوق وخرجت قوة من ذهيبة للمراقبة والحراسة لتتلاقى مع قوة مثلها قادمة من مشهد صالح فعثرت قوة ذهببة على آثار ابن ضيف الله فى مكان يسمى عرف الطلحة في الصباح الباكر فارسلت فارسا منها لتنبيه القوة الثانية وتبعت أثره فالتحقت به في التوامة شرقي أم الدود ودارت بين الفريقين معركة هائلة ورغم عدم تكافؤ المتقابلين إذ أن القوة الفرنسية كانت تتركب من ستة وثلاثين فارسا مقابل اثنين من المجاهدين فإن إبن ضيف الله استطاع أن يصرع عددا من اللاحقين من بينهم : نصر العزلوك ، وخليفة زغدود ، وخليفة معيز ، من قوة المخزن ولم ينالوا منه شيئا وكان لدقة رمايته وسرعة يده الاثر الفعال في انتصاره على المهاجمين .
وفي هذه الواقعة نظم الشاعر المرحوم محمد بورخيص الدغاري من معتمدية تطاوين ملحمته الشهيرة التى يقول فيها
عقد المخزن 1 ناض بكله 2 وما ندري قداش 3
ولحقوا ضنوة 4 بن ضيف الله وصدروا منه عطاش
عقد المخزن والطوشامه 5 وعساسين البير
وقف يلقى الجرة 6 قدامه جياشه 7 وبعير
وطق الضامن بالنجامة وكبسوا حلق الدير 8
ناض 9 العقد وناض غمامه 10 ودار 11 اللغط 12 زرير 13
هوضه 14 عل هوكه 15 حوامه 16 في جوبه 17 وسرير 18
تلاقوا في بنت الرزامه 19 وصار نهار كبير
وبن الهوش 20 كبر غرامه ووين نغق 21 الطير
وثمه كثح طويل القامة 22 وخدم المنقاش 23
هز اللي كاتب في زمامه 24 والاخر ما هزاش
عقد المخزن والقومية 25 لحقوا قطارين 26
والتموا 27 قداش انفيه 28 جملوا الطاشمتين
ولحقوهم وهية ضحويه 29 سته وثلاثين
قدا عرف الطلحه 30 ووديه 31 وين القافلتين
وفي مزازات 32 المرزوزيه 30 طاحوا بمولى 33 الدين
شهيدى واللم 34 شهيديه وارد م الاصلين
ولحقتهم جرده وسريه 35 وهومه 36 تراسين 37
ونصبوا نوبه عصمليه 38 ما بين الصفين
تتفرج بنت العوفيه 19 تحكر سود العين
ثمه فرقوا فلوس الديه 39 وولوا مقهورين
بملاجاة الروح الحيه نطحوا نطح كباش
واللي وعده فى الحربيه 40 لقاها حاضر باش 41
ال أجله فى الحربي وزراره 42 .. منين 43 ناض البارود
بين السابق والقطاره في سافي المجرود 44
غاد ي 45 م الازرق وقفاره قبلة أم الدود
لاحذاهم حفه 46 لاقاره 47 لا قصبة جلود 48
كان الموزر 50 تسرج ناره نيشانه محرود 51
تحكم عنهم حكم وزاره منين ناض التلمود 52
تتفرج بنت الخواره 19 كان املاك شهود
وقف نصر العزلوك نهاره 53 والثاني زغدود
زاد خليفه العقد خياره يفعل يوم الذود
رخى صرعه 54 وخش الكباره 55 عنهم ما ولاش
يحكولي عليه القطاره وعيني ما راتاش 56
يحكولي ناس ال حضروله أنا نسمع سمعان
سي ضو منافق 54 ع الدوله شاطر في الضربان
ساق بعاير وانطاعوله من واسع الالقان 58
ناض العياط وفزعوله 59 من قرع الصيعان
لز الموزر ع البزوله وحرد النيشان
طالب 60 واسياده برموله 61 جوه فلان فلان
مشوم 62 عرقوبك وقبوله ها امات الحيران 63
العون غادي موش لهاذ وله 64 رموهم في النيران
ما هزوا من رجال فحوله ونزالي وطماش 65
وزاروا زيارتهم مقبوله جت على الشواش
أنت غده واسماك الشومه 67 واللي قطرك 68 مات
بيوت ياسر منك مهدومه ووديان خليات
وما خليتي من ميتومه 69 ذريه وبنات
وما درت فى نواجع غومه 70 في الوقت اللي فات
ديما تطرا عليك خصومه يبدا خوذ وهات
يا سامع رأس الملزومة غيري ما تلقاش
وما يتنبأ نبي في قومه في قرن اربعطاش
فالشاعر بورخيص ينظم ملحمته هذه فى قالب قصصي وصفي رائع فهو بعد أن يختصر لنا نبأ الملحمة فى طالع القصيد ذاكرا أن أعوان المخزن إلتحقوا بإبن ضيف الله وانهزموا عنه ، يصف لنا الواقعة كيف ابتدأت بالعثور على آثار ابن ضيف الله وتتبع هذه الآثار حتى اصطدموا به فى مكان سماه ووصفه جغرافيا ثم ذكر لنا عدد اللاحقين والمدافعين ووصف المعركة ونتائجها وعرج على ذكر بعض الموتى مثنيا على الذين أظهروا شجاعة واستماتة من الطرفين بدون تحيز ولو أنه مجد ابن ضيف الله أكثر من اللاحقين لانه يستحق التمجيد بتمكنه مع رفيق واحد من التغلب على ستة وثلاثين فارسا وفى أثناء القصيد أظهر الشاعر شيئا من التورك والسخرية الخفية من اللاحقين لهزيمتهم على كثرتهم وظهر ذلك في قوله : أن ابن ضيف الله ورفيقه قد أديا زيارة إلى الوطن وكانت هذه الزيارة سعيدة مقبولة ولو أن مصيبتها وقعت على الشواش أي الشاوش العزلوك والشاوش زغدود .
ثم إلتفت الشاعر في آخر القصيد إلى مخاطبة الإبل فقال : إنها كانت دائما وأبدا مثارا للخصومات والمعارك بين ناهبيها وحماتها وكانت سببا في اخلاء بيوت واقفار أمكنة فكم من أحياء اضمحلت من أجلها مثل حي الشيخ غومة المحمودي الذي محي من الوجود بسبب الإبل وفي خاتمة القصيد يفتخر الشاعر بشعره فيقول : لا يوجد مثله فى الشعراء ولكن - من سوء الحظ - أن لا يتنبأ نبيء في قومه في هذا القرن .
