الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 5الرجوع إلى "المنهل"

منارتان للعلم فى المغرب، جامعتا الزيتونة والقرويين

Share

جامعتا الزيتونة في ( تونس ) والقرويين في ( المغرب ) انهما منار النهضة والثقافة والوعى والحركة الوطنية فى المغرب العربي كله .

ولقد وصف احد مارشالات فرنسا جامع القرويين بقوله : " ايها البيت المظلم " . . تخرج من الجامعتين كل الاعلام الذين قادوا حركات الاصلاح والثورة ، وهما منتدى كل حركات اليقظة ، حيث كانت تعقد حلقات العلم ، ولطالما نكل الاستعمار برجال القرويين وطوقهم بالدبابات والجيوش ، ورماهم من تحت ابواب المسجد الضخم برصاص الرشاشات والبنادق ،

وفي صحن القرويين تعلم سلفستر الثاني الذي كان أول من حمل لواء ترجمة التراث العربي الاسلامي فبدأ بذلك نهضة الغرب وقد تأثر بمبادئ الفقه والتشريع الاسلامى فحمل الى ايطاليا فكرة تطوير القانون الرومانى ، وكذلك ( بات الانكليزي ) الذي نقل من خزائنها عديدا من المخطوطات الرياضية ، ورديراف شتسبر ونقل كتاب كتاب التلخيص لابن البناء وكذلك حيرارداف كربوونا وميخائيل سكوت ( كتاب الهيئة ومؤلفات ابن رشد ) وليونار دفربوناتش ( علم الجبر والمقابلة ) .

كذلك كانت جامعتا الزيتونة والقرويين من ابرز مراكز الثقافة فى المغرب العربي : الزيتونة فى ( تونس ) والقرويين في فاس ( المغرب ) . . ولا شك ان الصفوة الكبرى من اعلام الفكر والحركات الوطنية وحملة الاقلام وكتاب الصحف والدعاة والباحثين قد تعلموا فى احد هذين المعهدين ، فمتعلمة طرابلس وبرقة كانوا يقصدون الزيتونة ، وكان متعلما الجزائر يقصدون القرويين ويقصدون الزيتونة ايضا ، هذا بالاضافة

الى من كان يقصد منهم الى الشرق والى الازهر بالذات او المجاورة في مكة . .

وجامع القرويين في فاس اقدم الجامعات الاسلامية فى المغرب بل في العالم الاسلامي كله ، فقد أسس ٢٤٥ ه ٨٥٩ ميلادية قبل الازهر بمائة واربعة عشر عاما فقد تأسس الازهر عام ٣٥٩ ه تولى هذان الجامعان دراسة علوم الاسلام واللغة العربية وما يتصل بها من تفسير وحديث وفقه وعقائد ونحو وصرف ومعان على النحو المعروف فى الازهر الشريف.

وجدد جامع القرويين سنتى ٣٢٢ ه ( ٩٣٤ ) م ، ٥٣١ ه ( ١١٣٧ ) م وظل منذ انشائه " دار علم وفقه " لم تنقطع الدراسة فيه ، ولم يفقد مكانته حتى بعد ان اصبحت مراكش عاصمة المغرب الاقصى ، ويمكن تقدير مدى اثر هذه الجامعة الاسلامية اذا عرفنا ان جامعة بولونيا بايطاليا اسست ١١١٩ ، وان جامعة اكسفورد اسست ١٢٢٩ ، وجامعة السربون بفرنسا قامت بعد ذلك . فهو بذلك اقدم كلية فى العالم كله .

وقد قدمت للعالم الاسلامى عديدا من اعلام الثقافة والفكر في اللغة والعلوم والفقه والادب والرياضيات والطلب منهم ابو عبد الله بن غازى ( الفقيه ) وابو عمر السلالجى ( المتكلم ) وأبو رشيد السبتي ( المحدث ) والجاحظ ابو العلاء العراقي ( الفلكى ) المتوفى ٧٢٣ وابن زاكور ( الشاعر ) وابن البناء المراكشي ( الرياضي ) والطبيب ابو القاسم الوزير ومحمد بن سليمان الوزاني مخترع كرة الدوائر الفلكية المتوفى ١٠٩٥ وعبد الله اليفرتي الجبوتي المتوفى ٨٥٦ .

ومما يتميز به ان الطلبة من جميع انحاء اوربة وردوه وتعلموا به ، وانه ضم اعلاما من فرنسا وايطاليا والاندلس ، ومن ابرزهم البابا سلفستر أول من ادخل الى اوربا الاعداد الغربية التى لا تزال مستعملة فى المغرب الى الآن ، وتعرف بحروف الغبار ( ١ ) كما استقبلت جامعة القرويين طلابا من مصر وطرابلس وتونس والجزائر ودرست فيها مختلف العلوم ، ويرجع المؤرخون سر استمرار القرويين فى دراسة علومه من طب وفلك وتشريع حتى الموسيقى وبقائه عدة قرون يؤدى رسالته التى لم تتخلف عنها ولم يتوقف قط . . كما حدث للازهر مثلا - يرجع ذلك الى عدم احتلال العثمانيين للمغرب . فالمغرب هو القطر العربى الوحيد الذى لم تستطع تركيا احتلاله .

وقد تجددت جامعة القرؤين عام ١٢٣٢ ه ١٨١٦ م وذلك بتأسيس مجلس للنظر فى شؤونها ووضع برنامج للدراسة فيها . ويسبق هذا التاريخ نهضة الازهر والزيتونة .

غير ان مشاركة بعض الشخصيات الغربية على حد تعبير السيد كنون ( ٢ ) فى وضع هذا التنظيم كان عاملا من عوامل استرابة الناس به حتى من كان يحب

الاصلاح ويميل الى التجديد ، وهكذا بقى على ما كان عليه ، وحدث ان السلطة كانت تستخدم بعض الشخصيات البارزة من العلماء في مختلف المصالح ، والبعض الآخر كان ينتثر عقده بالموت ، فلم يشعر الناس الا وجامع القرويين يكاد ينعق فيه البوم والغراب لخلوه من اهل الكفاية والخير ، غير انه لم يلبث ان اعيد تنظيمه وتجديده ١٢٥٠ ه ١٨٤٠ م

اما الزيتونة فقد قدمت الى العالم الاسلامي عشرات من اعلام الفكر فى مقدمتهم مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون ، وعبد الحميد بن باديس ، والظاهر بن عاشور وسالم ابو حاجب ، ومحمد السنوسي ومحمد بيرم ، وعبد العزيز الثعالبي

كما حملت لواء الدعوة الاصلاحية التى دعا اليها خير الدين ، وشاركت في جمعية العروة الوثقى التى أسسها جمال الدين الافغانى ،

وعند ما بدأ محمد عبده الى اصلاح مناهج الازهر اخذت الزيتونة بنفس المنهج .

وقد وصف الفاضل ابن عاشور نهضة الزيتونة فى الثلاثينات حيث سرت فى جامع الزيتونة حركة عارمة بتأثير النهضة الجديدة ، فشاع في الطلبة والاساتذة الانتقاد على خلو مناهج التعليم الزيتوني من تلك العلوم ، والتشنيع بالقصوريين فى معارف طلبته ومداركهم ، وامتلأت اعمدة الصحف بهذه الدعوة .

وكان من نتيجة ذلك ان بدأت حركة اصلاح التنظيم الزيتوني - ١٣١٥ - ماي ١٨٩٨ - وتعددت خطوات الاصلاح ، وتوالت مرة بعد اخرى .

وقد واجه المعهدان ازمة ضخمة فى فجر العصر الحديث حينما بدأ النفوذ الاجنبي يزحف على العالم الاسلامي وعلى المغرب العربى بعد احتلال الجزائر ١٨٣٠ . .

فمن المعهدين خرجت كل قوى العمل فى ميدان المقاومة الفكرية ، وقد كانت الزيتونة - على تعبير احد الكتاب الفرنسيين ( جريدة السعادة ٨ يوليو ١٩٤٦ ) - تمثل لديهم فى كل وقت من حياتهم القطب الروحى للمسلمين الا ان شعاعه يتجاوز حدود افريقية ويغير ارجاء الجزائر وطرابلس الغرب ، حيث ان هذين القطرين يوفدان كل سنة افواجا من الطلبة . .

ولقد ظل جامع الزيتونة خلال حياته الطويلة مرآة لانعكاس الحالة السياسية والاجتماعية فى البلاد .

ولقد كان النفوذ الاجنبى حفيا بان يهاجم هاتين الجامعتين الاسلاميتين ويقاوم منهجهما محاولا تغييره - وكذلك فعل بالازهر - باعتبار انهما مصدر المقاومة الفعلية لنفوذه غير ان المصلحين كانوا ايضا حريصين على تعديل انظمة هذه الجامعات الاسلامية حتى لا تواجه النقد ، وحتى تستطيع ان تساير التطور وتجرى مع التيار . .

وفي مراجعة لتاريخ القرويين يتبين ان ان الاستعمار عند ما فرض الحماية على المغرب كان حفيا بأن يواجه هذا المرفأ العلمي الخطير ، ويجرده من مزاياه ، وذلك بالغاء العلوم الهامة ، والاكتفاء بالقشور . فتحولت كلية القرويين الى شبه مدرسة للاعراب والنحو لا تستغرق فى العام اكثر من شهرين ولم تفلح اليقظة المغربية فى مقاومة هذا الجمود ، وتطبيق الاصلاحات التى كانت تحد معارضة شديدة . .

ومما اثر في هذا الصدد قول ليوطى ( شبيه كرومر في مصر ) لاحد اعوانه : " إذا تم لفرنسا القضاء على القرويين فقد ضمنت لنفسها الخلود فى المغرب "

ذلك ان طلبة القرويين وخريجيه كانوا هم عنصر المقاومة الهام في مواجهة الاستعمار ومخاصمة اهدافه ومعارضة اساليبه التغريبية للفكر العربي الاسلامي .

وقد اشار الى هذا المعنى ( عبد الهادى التازي ) فى التعريف بجامعة القرويين بعنوان " احد عشر فرنا في جامعة القرويين " حين قال : لقد تعرض رجال القرويين منذ اواخر القرن الثامن عشر على الخصوص لحملة هوجاء وجهها ضدهم بعض كتاب الافرنج ممن وردوا على المغرب فى " بعثات خاصة ؟ لقد نعتوهم بانهم " يعادون كل تطور " وطعنوا في معارفهم و تفاءتهم ، ولعل من يعرف " مركز القرويين " ايامئذ ، والحظوة التى تنعم بها سواء من لدن رجال السلطة او الشعب يدرك سر التوجه الى " هؤلاء " على الخصوص ، وسر " الرثاء " على مقبرة الفكر بفاس !

ولقد بسطت الحماية نفوذها على المغرب ( ١٩١٢ ) وكان عليها ان تطمئن الى ما يجرى داخل القرويين من تهجم على " المدينة " المحرمة " كما دعاها الجنرال موانيي لاسيما وقد اعرب المولى يوسف - رحمه الله - عن رغبته فى ان يتطور التعليم الى حال افضل . . ان الحماية لابد ان يكون لها وجود فى القرويين ايضا ، وهكذا لاولى مرة فى التاريخ تفصل الإدارة عن نظر القاضي ويتكون مجلس بحضور المسيو مرسيه والقبطان ميلي ( ١٧ مايو ١٩١٤-٢١ جمادى الثانية ١٣٣٢ ) ينص على ان اطوار التعليم بالقرويين ثلاثة : ( الابتدائى والثانوى والنهائى ) وهذا يشتمل على قسمين للتخصص الدينى والادبى

واشار عبد الهادى التازى الى ان تقدم

القرويين كان بالفعل امرا متعذرا بل وغير مرغوب فيه ، فان صرخة الاحتجاج ضد السياسة البربرية قد نفذت من زوايا هذه الجامعة وبذلك تعرض " علماء الشباب " للحرمان من اعتلاء الكراسي العلمية ١٩٣٢ . فضلا عن ان حركة المطالبة بالاستقلال ١٩٤٤ كان الدور الأكبر فيها للقرويين فزج بأبرز المنتسبين اليه فى غياهب السجون .

وكان مشروع الجنرال جوان ١٩٥١ لاصلاح القرويين للانتقام من رجال القرويين لمناهضتهم للاستعمار .

ولم يستطع " القرويين " ان يخط طريقه الى الاصلاح والنهوض الا عام ١٩٥٧ ولكن ذلك لا يمنع من ان يمتزج تاريخه ، خلال اليقظة الحديثة بتاريخ البطولة والكفاح والنضال من أجل الحرية ، كما امتزج تاريخ الازهر فى مصر ولا شك كان من ابرز خريجى القرويين علال الفاسي وعبد الله كنون ومحمد الفاسي وعبد الهادى التازى .

وفي مجال الزيتونة جرت اصلاحات كثيرة من اجل دفع هذه الجامعة الاسلامية الى الامام وانشئت المدرسة الصادقية التى قصد بها إلى انشاء دار العلوم في مصر ١٢٢١ ه ١٨٧٤ م لتواجه نفس الحاحة وكان المعلمون فى تلك المدرسة والمتعلمون فيها من الزيتونة اصلا ، مع اضافة العلوم الحديثة واللغات الاجنبية .

كما جرى تعديل التعليم الزيتوني واعادة تخطيط مناهجه فى ظل النهضة التى حمل لواءها خير الدين التونسي قبل الاحتلال الفرنسى لتونس ١٨٨١ وتجددت محاولات الاصلاح . .

وكانت الزيتونة - كالازهر والقرويين - مصدر الحركات الوطنية كلها ، ولها الدور الاوفى فى عمليات المقاومة ، وابرزها حركة التجنيس التى حاولها الاستعمار الفرنسي فقد كان للزيتونة ورجالها دور كبير فى مقاومتها .

وفي خلال مشرق النهضة ، كان اعلام الفكر في دراسات الادب وكتابات الصحة هم من خريجى الزيتونة .

وكان للزيتونة اثرها في الفكر العربي في الجزائر ، وكل اعلام الجزائر تعلموا بها .

وفي المشرق جاء سفراء الوطنية والعلم من تونس وبهر الناس خلال خمس عشرة سنة رجل طوف بالعالم الاسلامي كله وأقام بالعراق فترة وكان مركزه الاول القاهرة هو ( عبد العزيز الثعالبي ) ابرز خريجي الزيتونة . .

وقد واجه الاصلاح الزيتوني هجوما من بعض الزيتونيين انفسهم على اثر الخطوات التى اتخذت عام ١٩٥٤ بظهور مشروع اصلاح التعليم الزيتوني .

فقد كتب عبد الله شريط احد خريجى الزيتونة الذي يرى ان كل الاصلاح الذي جرت المحاولات من أجل تنفيذه انما كان منصبا على تنظيم اوقات التدريس وادخال نظام المكتبة والمقيمين وتسجيل اسماء الطلاب ، أما المواد الدراسية والكتب المقررة واسلوب التدريس ومبادؤه فلم تتغير الا قليلا ، وان التعلم الزيتوني في جوهره ومواده لا يختلف كثيرا عما كان قبلا . . وقال : " اننا لا نتعلم في الزيتونة الا الخلاف والمعارك بين الشراح والمنشئين من اجل حرف جر او فى شرح الفروق الهائلة

بين الماء الطاهر والماء الطهور . .

واضاف ما يؤكد ايمانه بان علوم الزيتونة الرئيسية قادرة ، لا على تهيئة جيل ينسجم مع الحياة ولا يتناقض معها فحسب - بل على ان تنشئ مجتمعا ثقافيا يصلح اخطاء هذه الحياة ويقضي على نقائسها . . والعائق فى نظره هو طريقة التدريس

ويمكن القول بأن جامعتي الزيتونة والقرويين كانتا من العوامل الهامة في مجال الثقافة والفكر واليقظة الوطنية فى المغرب

كله ، ومنهما خرجت ألوية المقاومة لكل اعمال فرنسا ومحاولاتها في التجنيس والظهير البربرى والادماج والابادة . .

وكان لهما دورهما الواضح في الحفاظ على اللغة العربية فى تونس والمغرب ، وربما كان خلو الجزائر من جامع قديم قوى الجذور قد حال دون مقاومة عوامل السيطرة الثقافية والفكرية الفرنسية فى هذا الجزء من الوطن العربي.

اشترك في نشرتنا البريدية