الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "المنهل"

منهل القصص, حقيقة وخيال، دموع العيد

Share

دمعات حارة ، تتساقط كاللالي ، على وجنتين كانتا الى قريب ممتلان بالحمرة ولوعة تعتلج فتصعد انات ، فتمتزج بالدموع المهراقة . . وضلوع تنطوى على الم ممض ينبعث زفرات صارخة تتلاقى فى الفم المصكوك مذعورة ، وثورة فى ذلك القلب الخافق تتزايد ، ووجيب ! والمرأة تنتفض كريشة ، داهمتها العواصف والريح يصرصر عاتيا يضرب النوافذ والجدران ، يثور هائلا ، ثم يهدأ هداة . خفيفة كأنه يتوثب للهجوم ، ثم يثور مجنونا ، والليله باردة قائمة سوداء لا بدر ولا نجوم

فى منزل بعيد منعزل ، يجثم في آخر حارة فقيرة مظلمة ، وفي حجر واطئة باردة الجدران ، مبعثرة الأغث ، عضو عليها الدهر ، وتركها تغالب ثورات الزمن وقد تهشمت نوافذها الا واحدة صمدت في وجه الرياح : وبهت لونها من وهج الشمس وحرارتها . . مصباح ضئيل ، تلعب النسمة به ، فيظهر نوره حينا ويختفى حينا ، ويرسل شعاعه الضعيف من ثغرات فى الحجرة مفتوحات .

كانت تجلس فى هذه الحجرة - امراة نحيلة اختلط جمالها بغضون الايام وانطفا من عينيها بريق كان يلمع ويتالق ، وتدلت على جبينها شعرات دب اليها البياض ، وهزل منها جسم فى الماضى فتيا ممتلئا . . تغالب عواطفها الثائر كما يغالب المصباح الموضوع امامها ثورة الريح وعبثه ، كأنه يأبي إلا البقاء لينير لهذه المسكينة غياهب العتمة الحالكة .

وبجانب المرأة سرير تحطمت رجله الرابعة ، كالحيوان الاعرج ، عليه لحاف اختلطت القاذورات التى عليه بدموع تسيل . . فيه اخراق من عمل " العث " الذي اتخذ منه مسكنا ، وأبى الا ان يفتح له فيه نوافذ وثغرات !

وعلى هذا السرير ، جثة تضطرب بين الحياة والموت . . تغالب الاخير وتتشبت بالأولى تهتز حينا وترتعش ، ويرتفع عن مستوى اللحاف ، وتنقبض وتنكمش حينا منطوية مفجوعة وتنحط حتى تلتصق باللحاف ، كأنها يخشى شيئا تخاله يهوى عليها . والرعشة تلعب بهذا الحطام ، والحمى تغالبه وتصهره صهرا ، وهو بعد فتى ، فى صيعة العمر ، وفجر الشباب .

وتمضى فترة صامتة . . والسكون الثقيل يرقد على الحارة المظلمة ، ويشتد فى هذا المنزل الثاني الحقير لا يقطعه سوي حفير الريح ، وتخبيط النوافذ تقاوم هجماته ، ويرتفع الرأس قليلا ، ويختلج من تحت اللحاف صوت لايكاد يسمع ينادى متوسلا مكتوما :

أمي ! أمي أكاد اموت

وتضطرب المرأة الجالسة بقرب السرير ، وترفع يديها الموضوعتين بجانبها فى تخاذل ، وتنحني على المريض في لهفة وحنان ،

مالك يا بني ؟ لا تخف ، الموت أشفق من ان يثكلني فيك ، احوج ما اكون اليك ، فى وقت لا يعرف فيه الاب أبناءه وينكر فيه الاخ أخاه

الا تزال تشعر بالحمى

قالها فى مرارة مكبوتة ، ويداها تحسسان على رأسه ، فنململ المريض فى فراشه ، وانقلب الى الجانب الثاني ، وفتح عينيه وغمغم : الحمى ، الحمى قاتل الله الحمي ، ان جسمى يدوب ، واحس باللهب يطلع وجهي وجبيني ، ويحرق اضلعي فى طريقها الى رأسي ليستقر فى المخ ، ويمهد للموت طريقا فينتزع هذه الروح الوالهة المخزونه ، لا يحزنها شئ الا فراقك يا أماه ، الا تعرفين هذه الحمى ؟ أ اعرفها ، انها تحمي ) التفويئد ( كما يسميها الاطباء وهي نتيجة الهم والقهر ، ولا ينجو منها الا القليل .

ودنت المرأة ، والتصقت بالنائم ، وانحنت عليه تمسح جبينه بشفتين ملتهبتين وراسه بيد خشونة مرتجفة ، وفي اليد الاخري امسكت زجاجة فيها سائل احمر " كانكينا " وهمست في اذنه الا تشرب جرعة اخرى من الدواء ، فقد حان الوقت ؟

ويتعامل الراقد ، ويتحامل على نفسه ، متباطئا ، ويرفع راسه الثقيل بأوار الحمي ويدني فمه منها فتصب فيه قطرات ثم يرتمي ثانية على فخذها المتراخي بجانبه في تذمر ونحيب. ويمد يده يمسك بيد امه الباردة ويضعها على فمه ، وينهال عليها لثما متداركا ، يختلط بدقات قلبه المتسارعة ، اشبه بدقات ساعة مسحورة

وتمد يدها الأخرى ، تتحس جبينه ، وتتفقد جسمه ، فاذا لان قد برد فتضع راسه برفق فوق الوسادة وتدثره ، وتحثو بجانبه ترفع طرفها الى الله فى ضراعة وخشوع ، ان ينقذ وحيدها ،

تم تستغرق فى دعواتها ذاهلة ، فلا تلبث ان تهاجمها افكار سوداء ، تختلظ متباينه ، قاسية ، لينة فتستلم لها ، وتغوص في لجاتها فتتوارد عليها الذكريات :

( يتبع (

اشترك في نشرتنا البريدية