وعادت بها الذاكرة ، الى أيام حلوة بعيدة ، تذكرت يوم عاد زوجها فى المساء فالفاها طريحة تعاني الام الوضع . . فجلس الى جانبها يساعدها ويشجعها ، وينفخ فى نفسها الواهية ، روحا من عزمه وشبابه ، حتى شاء الله فوضعت طفلا ما كادت تنتهى من وضعه ، حتى غشيتها نوبة وغرقت في سكرة الحمى ، تعانيها اياما ، حتى استفاقت وعادت الحياة تدب فها وزوجها الى جانبها يواسيها ويسهران معا على رعاية الطفل الجديد .
وشب الطفل وترعرع . محبوبا مدللا ، يجمع الى جمال طلعته . روحا خفيفة وخلقا رضيا ، وذاكرة قوية ، تستوعب الأشياء حال سماعها ورؤيتها ، وعلى رقة حال والده نشأ عزيزا مرموقا . صحيح الجسم ، مفتول الساعدين : قوى البنية
كان يساعداه فى اعماله بخرط الخشب ، ويهوي بقدومه الصغير على " القدد " فيحيلها الواحا بيضاء ، يتناولها والده ، فيصنع منها اشياء مختلفة خزائن كراسى " كرويت " كل شئ
كان ابوه فقيرا بعد غني . فقد مرت به اوقات كان الذهب فيها ، يدخل الى جيوبه كالسيل كان يبيع الخزانة بعشرة ) ليرات ( وينقلب الى بيته ، حاملا معه الوانا من الحاجيات ، يشترى كل شىء فى بذخ واسراف ، وكان يحب زوجه ويرعاها ، يغذق عليها النعم ، وينفق على بيته كل ما يتحصله من عمله يدر عليه ارباحا وافرة ، وكان لا يتمني على الله الا ان يرزقه مولودا تقر به عينه ويسعد به بقية ايامه .
كان زمان ومضى الزمان بركات وخير ، تمر أيامه هادئة وادعة ، تحمل بين طياتها البشر والرخاء تبدل كل ذلك وشيكا ، وشملت الكون ازمة هائلة ، تخنق العالم . وتجتاح الدنيا
وحقق الله امنيته فجاءه ) سعيد ( ففرح به ، فرحا ما فرحه اب بمولود وانثنى يحمد الله ويصلى له شاكرا يعمر قلبه الايمان والتقوي . .
كان " سعيد " زينة البيت ، وموضع رعاية من والديه ، وكان جديرا بهذا فهو يساعد اباه فى اعماله حين يعود من المدرسة كل مساء وفي الجمع وايام العطلة الصيفية ، لا كسائر الاولاد ينصرفون الى اللعب والاستهتار ، فكان ابوه سعيدا به ، فرحا بهذه النعمة يسبغها الله عليه ، يعودان سويا فى المساء يحمل الاب قدومه ومنشاره ، ويتأبط الابن حقيبته ، وباقي عدة ابيه ، فاذا وصلا الدار قابلتهما امه بفتر ثغرها عن ابتسامة مشرقة ، فتحمل عن ابنها اشياءه ويصعدان جميعا الى فوق
واستفاقت من ذكرياتها ، على همهمة تصدر من فراش المريض ، فدنت منه تتلمسه وتجس نبضه فاذا جسده يفور كالقازان . واذا عيناه تحدقان ، واهدابهما تختلج راقصه ما تستقر على شئ ويداه مريخيتان الى جانبه تهتز وتتخبط . . وجبينه كجمرة لا تستطيع يدها الاستقرار عليه ، كان كله كشعلة متقدة تعصف به الحمي عصفا ، وقد هربت انفاسه المبهورة عائدة الى حلقه . فرفعت يدها مذعورة
تككف الدمع الهامى ، ما يهددا ولا يرقأ وتغالب نشيجا يهزها ويكاد يفجر عروقها . وارسلت بصرها تفتش عن زجاجة الدواء ، وامسكت بها ودهنت من المريض ، فرفعت راسه بتؤدة وادنت الزجاجة من فمه ففتح عينيه وحدق فيها وحاول الكلام ، فارسل حلقه حشرجة ضعيفة ، فغالب نفسه ، ونطق جملة متقطعة مبتورة .
الكا . . نكي .. نا . . ايف ...ـا
ونزلت القطرات فى حالقه فغص بمرارتها ، واستجمع جاشه وغمغم ما...ء
فاسرعت ترفع الكأس الى فمه فعب منه حتى الثمالة ، ثم رفع رأسه وتكلم وئيدا كطفل يتمرن على النطق :
ما أمر الكينة . . ان هؤلاء الاطباء يزعجون المرضى بهذه العقاقير . . يصفونها لهم اشكالا حمراء ، خضراء ، بيضاء ، سوداء ويسهبون فى مدحها ، حتى ليخالها المريض ، آية الشفاء ، وقطرات الحياة ، كلها مرة يا أماه يعافها الفم قبل ان تصل الى الجوف والاطباء يؤكدون ان فيها الشفاء ، فلا يزور واحدهم مريضا ، الا كال له من الكينا والاسبرين والسلفات مايملا به جوفه والجوف كمعمل كيماوى يختار فى توزيع كل هذا وهضمه فليلفظه اكثر المرات والشفاء بيد الله لافي الكينا ، ولا السلفات : ولكنها اسباب ومعايش : والدنيا تزخر بكل شئ
وخنقته عبرة طفرت من عينيه . وهدا صوته قليلا قليلا حتى خفت ، وتلاشى : فرمي برأسه فوق الوسادة الممزقة فى يخاذل ثم جذب الغطاء وهدا .
كانت أمه ترمقه - وهو يتحدث ويجهد نفسه فى الحديث - بين واكفة ، وقلب خافق ، حتى اذا انتهى ، وجذب غطاءه ، انحنت عليه تزمله جيدا ، ثم انتحت عنه قليلا ، ووضعت رأسها بين ركبتيها ، واستسلمت لذكرياتها وكان
المصباح قد خبا نوره ، واحترقت فتيلته ، ثم انطفا اخيرا لا تشعر به المسكينة ! ! وتسلسلت الذكريات !
تذكرت ماضيها : يمر على مخيلتها حلقات . . وتذكرت بالأكثر الحلقة الاخيرة المحزنة فى يوم عاد زوجها من عمله محموما ، يقاوم رعشة تغالب جسمه المفتول ، وتهزه هزا . . وسعيد خلفه ، يحمل العدة كلها ، لانه كان قد اصر على ذلك رغم ممانعة شديدة من ابيه !
ولازم الرجل فراشه اياما . لا يكاد يبل ، حتى ينتكس ، ثم اشتدت به الحمى فلاقى ربه فى اليوم التاسع ، وودع وراءه زوجة ثكلى ملتاعة ، وابنا صغيرا ، ما تكاد احشاؤه تنطوي على شئ
مات الرجل وترك ابنه ، صبيا لا يزال يذهب الى مدرسته كل مساء حاملا حقيبته مع نفر من اترابه لا يتخطى واحدهم العاشرة !
تذكرت كل ذلك ، ومر بطيفها خيال الاطفال عائدين من مدرستهم ، وعلى رأسهم ) سعيد ( يهتفون في اصوات متباينة صاخبة ، تهدأ حينا ، وتعلو حينا ، ناشزة غير منسجمة ، تهتز لها الحارة وترتج ، ويدوي صداها ، يخترق النوافذ والآذان !
يا بلاد ! يا بلاد ! وتتجاوب اصوات الباقين : افت ذخرى . . وعتادى
ثم ينصرفون متفرقين ، كل منهم الى بيته ، يقضي شؤون اهله ، او ينصرف الى لعبه ومجونه ، اما سعيد فكان يذهب فورا الى حانوت ابيه
وامتلا ذهنها المكدود ، بالحادثات تمر سراعا كالفيلم - فضاق صدرها ، وامسكت برأسها يكاد ينفجر . . وحل بها التعب ، والسهر ، والنضال ، فدهمتها سنة من النوم ، كانت تغالبها منذ حين . وكانت الريح قد هدأت الا قليلا ، وتعمل الحارة سكون لا تقطعه حركة او نامة ، فاستسلمت الى اغفاءة فى جلستها تلك ،
فرات فى منامها ، احلاما شتى محزنة ، وسارة بعيدة وقريبة ، صورا من الماضي والحاضر والمستقبل المجهول ، ثم استيقظت مع الفجر ، يرسل خيوطه واحدا واحدا تطارد الظلام فيتناثر في الفضاء ويتلاشى كتائب كتائب هاربا مذعورا . .
ويتنسم عن نسمة لذيذة معسولة . . وانتشر شعاعه الفضى فغمر الغرفة بنوره ينفذ من خلال النوافذ والفجوات . والنسمة تهب علييلة فاترة ، تداعب الأجسام وتدغدغها فتغرق فى نشوة الكرى غافية سكرى .
ما الذ نسيم الفجر ، لا يشعر بلذته تلك ، الا من يقوم فيؤدي صلاة الصبح حاضرا !
ورفعت المرأة رأسها وقامت ، تقرب من سرير المريض في هدوء تحاذر ان تنبهه من غفلته . . فربما يكون نائما .
ووضعت يدها ببطء ، فوق رأسه الملفوف فى الغطاء . . فما احست بحركة فجفلت وارتعدت فظنت انها هداة الموت ، فانفجر صوتها فى بكاء مدو ، وصرخت صرخة هائلة شملت الحارة وبددت سكونها ، فتحرك الجسم الساكن ، ونفض غطاءه عنه ، ورفع راسه ، ولوح بيديه يشير اليها ان تكف . . فما صدقت عينيها وارتدت مذعورة تخالجها شتى الاحاسيس ، من فرح وهم وقلق وهدوء . . ثم استجمعت جاشها واقبلت عليه تتحس جبينه ، وتحس يديه ، فاذاهما باردتان وإذا وجه قد اشرق مضيئا بابتسامة عذبة ، وانفرجت شفتاه المطبقتان عن كلمة حلوة ، اخرقت سمعها ، وردت اليها الحياة فأنصتت اليها فى لهفة
انا بخير . . الحمد لله ، لقد نجوت ، لماذا تبكين ؟ هاك يدي ، خذيني غسلينى ، رشى جسدى بالماء ، واطردي عنه بقايا الحمى الملعونة ، فقد الله وتغلبت عليها وهزمتها .
هزها الفرح ، واذهلتها المفاجأة ، فظنت انها تحلم ، فقد تركته قبل قليل وجسمه كشعلة من نار ، وها هو ذا أمامها صحيحا ما كأن به شيئا .
حمدت الله ، واقتربت منه فاخذته الى جانب اخر من الغرفة ، فيضت عنه ثيابه ، وراحت تدلك جسده الناحل الذي عانى المرض اياما ، وقاوم فنك الحمى ليالي لم يغمض له فيها جفن ، ولم تذق هى فيها طعم الهناء . وامسكت وعاء الماء تصب منه على راسه ، وقد غمرتها سعادة جارفة ، فعادت عيناها تتالقان وتلمعان وعاد إلى نفسها الحزينة المغلقة ، وميض من الشباب المولي المهزوم ! !
وفيما هي كذلك ، دوت فرقعة هائلة ، تلتها اخرى ، وثالثه . . وتجاوب الافق صدى طلقات المدافع ، تقصف مدوبة بم . بم . بم فرفع سعيد عينيه اليها وهتف :
اليوم العيد لقد تذكرت ، وها هى ذي المدافع تعلن قدومه ، الحمد لله ، لك الشكر يا الهي فلقد انجيتني من آلام اضنت جسمى اياما وليالي ، كانت امرهما هذه الليلة السوداء . . وابقيت على هذا الحطام ليرعى اما لا يعلم كيف يقدم اليها العزاء ، ولا كيف يفيها حقها من الشكر والجزاء ، فقد تعبت من اجله كثيرا وعذبت نفسها فى سبيل راحته وهنائه
وتجاوبت الغرفة صدى قبلة حارة طاهرة يطبعها الابن على يد امه الممسكة بالاناء ينصب منه الماء فيغمره في موجة من اللذة فيبترد به من غلة تركت جسمه كالحطام . .
وارتدي ثوبه ، وقام يصلى لله ، ثم نهض إلى امه يقبل راسها وقدميها فى خشوع واخلاص . . ويلثم يديها ، فما راعه الا دمعات كبيرة ساخنة تسقط على خده ، وفي جزع ولهفة سألها :
تبكين ؟ ماذا بك ؟ قولى لى ؟ ! لا شئ ، لا شئ . انها دموع الفرح بنجانك ، دموع الفرح بقدوم العيد وشكرا لله الذي اعاده علينا ونحن سالمان :
فما كان منه الا ان سقط عند قدم بها يبللهما بدموع الشكر والاعتراف بالجميل
