يرى بعض القوم أن وحدة المغرب العربى فكرة تولدت عن الواقع الاستعمارى وانتهت بانتهائه او هي ضرب من ضروب التخمين والحدس الذي لا طائل وراءه أو حلم جميل ولكن رغم جماله يبقى حلما بسيطا سرعان ما يتبخر . ويرى آخرون ان المغرب العربي سيندمج فى وحدة اشمل تمتد من المحيط الى الخليج هى وحدة الامة العربية جمعاء وان تحقيقه يأتي ضمن هذه الوحدة المنشودة .
حقا فى وقت يتنازع فيه بعض البلدان المغربية على مشكل الصحراء يبدو الحديث عن المغرب العربى ضربا من الخيال . ولكن هذا التنازع يقيم الدليل على عقم طريق الهيمنة والتسيطر وفرض الحلول بالقوة لا بالتي هي احسن فى العلاقات بين بلدان المنطقة ويبين - اذا لزم البيان - ان السبيل الفضلى بين شعوب واعية وناضجة هي سبيل التفاوض وتحكيم العقل والنظرة البعيدة . وما من شك ان المشكل الصحراوي لو وضع فى اطاره الحقيقي الذي هو اطار المغرب العربى الكبير لوجد حله الطبيعى .
ان هذه النظرة المغربية للامور ليست خيالية بل هى تنبع من واقع حي ومن طبيعة الشعوب واواصر التعاون التى ربطت بينها عبر التاريخ . واذا اكتفينا بالتاريخ الحديث فلنذكر بوحدة الهدف ووحدة الصف التى جمعت الحركات الوطنية التحريرية فى تونس والجزائر والمغرب فى المراحل التى مر بها الكفاح الطويل ضد مستعمر واحد اراد ان يمسخ شخصيتنا ويفتت جهودنا ويفرق كلمتنا . فحدى حركاتنا الوطنية كانت تسمى نفسها " النجم الشمال الافريقي" واسس الطلبة المغاربة بالهجرة بباريس " جمعية الطلبة المسلمين من شمال افريقيا " منذ اكثر من اربعين عاما ونظم الحزب الحر الدستورى التونسي
مظاهرات فى تونس فى 1937 ضد عمليات القمع المتبعة فى الجزائر وكون زعماء الحركات التحريرية وفي مقدمتهم المجاهد الاكبر الرئيس الحبيب بورقيبة مكتب المغرب العربى بالقاهرة فى 1947 . ولما سقط فرحات حشاد في 1952 تحت العنف الاستعمارى انطلقت مظاهرات دامية في الدار البيضاء وسقط اخوانتا المغاربة فى الشوارع لانهم كانوا يعتبرون الزعيم التونسي زعيما لهم ورائدا من رواد وحدة المغرب العربى . وفى محنة الشعب الجزائرى الطويلة ضد النظام الاستعمارى كانت تونس وكان المغرب مجندين لخدمة القضية الجزائرية العادلة وجاءت ساقية سيدي يوسف فى 1956 واقعة تشهد بالتضامن من الجهاد اختلطت فيها الدماء التونسية والجزائرية وساعدت بفضل عبقرية بورقيبة على تدعيم الاستقلال بتونس وثورة الجزائر فى العالم .
ولكن التضامن المغربي لم يكن فقط تضامنا فى الرفض لهيمنة الاستعمار بل كان ولا يزال تضامنا إيجابيا لبناء مستقبل أفضل لشعوبنا . ففي أفريل 1958 والشقيقة الجزائر لم تزل تخوض معركتها ضد الاستعمار - اجتمعت الاحزاب الوطنية الثلاثة بطنجة لتنظيم وحدة البلدان المغربية فى تجمع فدرالى . ثم احدثت فى 1964 لجنة استشارية مغربية ما زالت قائمة الى الآن تتناول بالدرس امكانيات التعاون الاقتصادى وتصدر توصيات سياتي يوم بلا شك تؤخذ فيه بعين الاعتبار . وبالرغم من ان فكرة المغرب العربي مرت بنكسات فى فترة ما بعد الاستقلال يجب ان نبين ان بعض الخطوات قد قطعت في سبيل تحقيق تلك الفكرة فى الواقع الملموس وان شعلتها لا تزال تتقد فى القلوب وفي الاذهان . ويكفى للدلالة على ذلك ان نسوق مثلين بسيطين :
اولا : اثر قرار للحكومة الجزائرية ازداد عدد الزائرين الجزائريين بصفة باهرة لتونس الى حد انه بلغ فى ظرف سنتين تقريبا ربع عدد كامل السواح لهذا البلد . وقد سكن جلهم لا فى الفنادق مثل الاجانب بل في العائلات التونسية نظرا للقرابة الموجودة بيننا . هذا يعنى انه يكفى للاطار الموجه اى الحكومة ان تخلق المناخ الميسر للتعاون حتى يستجيب المواطنون بصفة تلقائية وطبيعية لتجسيم ذلك التعاون وادخاله حيز الواقع .
ثانيا : بناء انبوب الغاز العابر لتونس يعطى لذلك البلد فرصة ثمينة لتكثيف حركته الصناعية بالاعتماد على مدخرات وافرة من الطاقة من البلد المجاور ويشكل قاعدة جديدة للتدعيم المتبادل بين الشعبين الشقيقين .
ان سكان المناطق المتاخمة يعلمون اكثر من سواهم الى اى حد من التفاعل والتآصر والتآلف تبلغ بهم علاقات الجوار جاعلة الحدود التى تفصلهم مفتعلة وغير حاجزة . فعلاقات المصاهرة تنمو كل يوم والصداقات والمصالح المتبادلة تتطور وتزدهر . ولو خلق الاطار المناسب وبعث المناخ التاسيسي المشجع لكان لهذه الحركة بين السكان والاراء والسلع دفع قوى يجعلها تنطلق على نسق سريع . ولكننا في المغرب العربي اشبه شئ بافراد عائلة لم يساعدها الحظ على ان تتجمع ، فنشعر بالحنين والشوق لبعضنا البعض وتهزنا الآمال العريضة فى الالتقاء وجمع الشمل ، ولكن العمل اليومي يلهينا عن بعضنا البعض فنسعى الى تعويض هذه الحالة بالخطب والتصريحات التى ترمي الى ارضاء رغبتنا العميقة في الوحدة مع انها كلام طالما اعوزته العزيمة الصلبة والنية الراسخة على الانجاز المدققق والتنظيم المحكم والعمل الدؤوب لتحقيق تلك الرغبة العميقة .
على ان ما تطلبه شعوبنا وبالخصوص اجيالنا الصاعدة ليس بالعسير . انها تطلب من مسؤولينا ان يكونوا فى نظرتهم للمغرب العربى واقعيين وعمليين مثلما عهدناهم في نظرتهم وممارستهم لشؤون بلادهم . فشعوبنا تطلب منا عندما نشترى سلعا وخدمات من الخارج ان نعطي الاولوية للمغرب وعندما نبيع سلعا وخدمات الى الخارج ان نعطى الاولوية للمغرب وعندما نتفاوض مع الخارج ان نقرب آراءنا وننسق مواقفنا ونوحد صفوفنا وعندما نستثمر ان نفكر على المستوى المغرب وعندما تنقل اذاعاتنا وصحفنا الاخبار ان نعطى المغرب العربى التغطية اللائقة به وعندما نربى ونكون ابناءنا ان نغرس فيهم محبة المغرب العربى وان نلقنهم مثلنا العليا المشتركة ومقومات شخصيتنا الفذة وان نشجع تبادل الآراء والتجاوب وان ندعم التعاون التكنولوجيى بين نخبتنا الفنية في جميع الميادين وان نمكن شبابنا وشغالينا وقوانا الحية من التعارف والمناقشة النزيهة والاستعداد لبناء مستقبل مشترك .
قد يرى بعضهم ان الاختلاف فى الانظمة العامة او التيارات الايديلوجية او المواقف التكتيكية تبعدنا عن التعاون وان الوحدة الحق لن تكون فى هذه الحال . ولكن هذه النظرة هي فى الحقيقة التى عرقلت مسيرتنا المشتركة وهى اكبر عائق للتعاون الوثيق بيننا لان التدخل فى الشؤون الداخلية لكل بلد لا يقبله المسؤولون ولا الشعب فى ذلك البلد حتى ولو كان تدخلا اخويا . فافراد العائلة الواحدة قد يختلفون في المواهب وفي الطبائع وفي الاتجاهات ولكن تجمع بينهم الغاية المشتركة ومصلحة العائلة نفسها . اذ ان تنوعنا خلاق ما دام
منسجما ومتضامنا . بل بالاحرى قد نجد فى هذا التنوع مراكز دعم لوحدتنا وتكاملا لمقوماتها وتلاقحا لطاقاتها . وبناء المغرب الكبير لن يكون الا من اطراف متساوية وواعية ومسؤولة وهذا البناء عملية طويلة النفس شاقة وهامة يجب ان يساهم فيها كل واحد منا باحسن ما اوتى من مواهب ومن طاقة بذل . ولذا يجب ان يساهم بكامل الحرية وان يتزود بكثير من الصبر والتسامح .
ولا شك ان آفاق بناء المغرب العربى مفتوحة فى الميدانين الاقتصادى والثقافى فعلى الصعيد التجارى يمكن تكثيف حجم المبادلات بين بلدان المغرب اذا توفقنا الى اقامة وحدة فمرفية بينها بصفة تدريجية تضمن خلق تراب قمرقى موحد تتحرر فيها حركة السلع والخدمات على مراحل . وتمتاز الوحدة الفمرفية على منطقة التبادل الحر بطابعين ، أولها أنها أرقى فى سبيل الاندماج الاقتصادى وثانيها أنها تمكن من اقامة جدار فمرفى نتفق عليه معا حول بلدان المغرب ازاء السلع والخدمات الاجنبية التى قد تغزو السوق المغربية . وهى خطوة هامة نحو تنظيم سوق مغربية مشتركة ستقام لما نحرر حركة وسائل الانتاج من يد عاملة وراس مال بين البلدان المغربية الى جانب تحرير المنتجات نفسها . واذا نجحت هذه التجربة قد نتشجع ونكون وحدة اقتصادية شاملة بتنسيق السياسات الاقتصادية الاحمالية التى تتبعها دولنا فنجمع اقتصاديا بلدانا ستعد فى نهاية القرن العشرين اكثر من 70 مليون نسمة لها دخل فردى سيكون من اعلى المداخيل فى افريقيا ونتمكن بذلك من أن نبعث صناعات ضخمة ورائدة تقدر على المنافسة العالمية وتستطيع ان تتحكم في التكنولوجيا العصرية مثل ما هو الحال الآن في البرازيل والبابان او في التكتلات العملاقة التى تكون حولنا كالمجموعة الاوروبية . ونصل الى فترة الاندماج الاقتصادى التام عندما تصير السياسات التى تهم الميزانية والنقد والاستثمار موحدة .
ومما سيعين على تحقيق هذه الانجازات وجود عوامل انسجام قوية في الميدان الثقافي اذ اننا معشر المغاربة نتكلم نفس اللغة وندين بنفس الدين الحنيف ونتبع نفس العادات ونتوق لنفس المثل العليا . لذلك وجب تخصيب هذه العوامل الثقافية باتخاذ برامج تربوية منسقة وتشجيع تبادل التجارب والاراء والبحوث ووضع مواردنا التقنية وكوادرنا الفنية فى خدمة محتمع المستقبل الذي نريد ان نبنيه معا وتكوين اجيالنا الصاعدة تكوينا ذا آفاق مغربية حتى نصل الى تصنيف طريقة فى الحياة مغربية الطابع فذة الاسلوب
اصيلة المحتوى .
لاشك ان ارساء قواعد مغرب عربى موحد يشكل خطوة هامة فى سبيل وحدة العالم العربي . فهذا العالم الذى يمتد من الخليج الى المحيط يحتوى على اجزاء لها خاصيات معينة يسهل توحيدها كمرحلة نحو الوحدة العربية الشاملة مثل المغرب العربى ومجموعة مصر والسودان وبلدان القرن الافريقي ومجموعة بلدان آسيا الصغرى كفسلطين والاردن والشام والعراق ومجموعة الخليج .
ان الزيارات الاخيرة التى قام بها السيد محمد مزالى الوزير الاول الى المغرب والجزائر على التوالى - وكانت اولى زياراته كوزير اول خارج تونس - اعانت فكرة المغرب العربي الكبير عونا حقيقيا حيث خلقت جوا مناسبا للتعاون وساهمت في رفع الشكوك والالتباسات واعطت التضامن المغربى دفعا جديدا .
ففي مواصلة هذا الحوار الخلاق واعداد البرامج المضبوطة للتعاون وتتبع تطبيقها عن كثب وبعث تيار شعبى يخدم المصلحة المشتركة سنتبين هل ان سنة 1980 ستختلف عن 1958 وهل ان العشرين سنة ونيف التى مرت اقامت الدليل على ان المغاربة بلغوا سن الرشد الذي يمكنهم من الثقة بانفسهم والثقة ببعضهم البعض ؟ ! حتى يسيروا بخطى ثابتة نحو المصير المشترك والرقى الحضاري والمناعة .

