الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

من أعلام القيروان :، ابو اسحاق ابراهيم بن على الحصري القيروانى، صاحب زهر الآداب وثمر الألباب

Share

يعد القرن الرابع ومنتصف القرن الخامس من أزهى العصور التى عرفتها القيروان ، مركز الاشعاع الفكرى ، الذى ظل يتألق طيلة قرون عديدة ليخمد فجأة غب الزحف الهلالى الذى كان له أثره الكبير على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والادبية بوجه خاص

ذكر " العبدرى فى رحلته بعد ان زار القيروان فى القرن السابع هجرى : " لما دخلت القيروان بذلت وسعى فى البحث عمن فيها من أهل العلم فلم أجد فيها من يعتبر سوى هذا الفقيه المحدث الراوية المعروف بالدباغ " .

إلا أن الذي لا ريب فيه أن قرون الازدهار التى عرفتها القيروان ، شهدت نهضة شعرية لا يستهان بها كما شهدت نهضة فى جانب النثر من الاهمية بمكان . وهو ما يعنينا فى هذا البحث بالدرجة الاولى ، والنثر الفنى على وجه الخصوص . ولعل من أبرز ممثليه ابراهيم بن على بن ابراهيم بن تميم الأنصارى المكنى بأبى اسحاق وقد شهر بالحصرى ، نسبة الى قرية صغيرة  اسمها " الحصر " اختصت بصناعة الحصر ، كما يذهب الى ذلك الاستاذ المرحوم  حسن حسنى عبد الوهاب

حياته وخصائص عصره :

وعائلة الحصرى قرشية الأصل ، فهرية الانتساب ، وقد ساهم أسلافه مساهمة فعالة فى حركة الفتح الاسلامى بافريقية والمغرب بصفة عامة . وبالرغم من ان كتب تاريخ الأدب تكاد لا تذكر شيئا عن مذهب هذه الأسرة ، فاننا نرجح ان الأسرة الحصرية كانت متمسكة بالمذهب السنى . ويظهر أن

مقتل عقبة بن نافع جعل هذه العائلة تتجه اتجاها " فكريا " وتنعزل تماما عن الحياة السياسية ؛ اذ لا نجد لهم ذكرا في القيادة السياسية ، فى مختلف الدول التى تعاقبت على افريقية من أغلبية وفاطمية وصنهاجية . . ومن هنا لم يكن غريبا أن نجد ابراهيم بن على الحصرى ، كاتبا وشاعرا وابن خالته ابا الحسن الحصرى الضرير شاعرا أيضا . . إلا أن وجه الغرابة يتمثل فى أنه بالرغم من تألق نجميهما فى الميدان الأدبي ، فاننا لا نجد أسماءهم مثل أدباء ذلك العصر ، تردد فى قصور الصنهاجيين ، مما يجعلنا نميل الى ان العائلة الحصرية لم تكن راضية لا على الدولة الشيعية ولا على الدولة الصنهاجية . ومن ثم فاننا نتساءل : هل كانت العائلة الحصرية اذن سنية مناهضة للحكم الشيعى ؟ .

ومهما كان الأمر فاننا نكاد لا نعرف شيئا عن نشأة الحصرى ، ولعل هذا هو فى الأصل مرد اختلاف النقاد فى سنة مولده ووفاته . فيذهب زكى مبارك  وحسن حسنى عبد الوهاب وقبلهما ابن بسام فى الذخيرة الى انه توفى سنة  453 أى بعد تخريب القيروان بخمس سنوات ، واذا صح ذلك فاننا نتساءل لماذا لم يرد ذكر له بعد هذه الفاجعة مع أن كتب التاريخ تذكر الكثير وتطنب فى وصف حالة الأدب والأدباء ومنهم ابن شرف وابن رشيق ؟

على أن كتب التاريخ وان غفلت عن التعرض لنشأة الحصرى وثقافته ، فاننا لا نجد صعوبة فى الوقوف على ثقافته ، فان كتابات هذا الرجل مرآة صادقة لثقافته وعلمه . ولا نبالغ حين نقول ان الحصرى عاش عصره الثقافي ومثله أصدق تمثيل ، وكان بحق موسوعة أدبية . . ذكر ابن رشيق ان : " شبان القيروان كانوا  يجتمعون عنده ويأخذون عنه وهو رأس عندهم وشرف لديهم " وذكر ابن رشيق أيضا فى كتابه المفقود " الأنموذج " ان الحصري : " كان شاعرا نقادا ، عالما بتنزيل الكلام ، وتفصيل النظام ، يحب المجانسة والمطابقة ، ويرغب فى الاستعارة تشبها يأبى تمام فى أشعاره ، وتتبعا لآثاره ، وعنده من الطبع ما لو أرسله على سجيته لجرى مجرى الماء ورق رقة الهواء وسارت تآليفه وانهالت عليه الصلات من الجهات "

وفي هذا التنويه بمكانة الحصرى الادبية ما يلقى بعض الاضواء على الطابع الخاص أو الخصائص التى امتازت بها الحياة الادبية بافريقية فى القرن الرابع وليس من باب المبالغة حين نقول ان هذا الطابع الخاص لا يكاد يخرج عن الطابع المعروف فى المشرق فى العصر الذى نؤرخ له .  

وقد لخص الدكتور زكى مبارك هذه الجوانب في أدب ذلك العصر فقال :

" اظهر ميزة فى ذلك العصر - يعنى القرن الرابع - هى اجادة الوصف  فقد اهتم كتابه اهتماما عظيما بوصف ما وقعت عليه أعينهم أو جرى  فى خواطرهم ، ولم يكن الوصف عندهم مما يأتي عفوا عند المناسبات الطارئة كما كان الحال فى أوائل العصر الاسلامى لا ، بل تعمدوا استقصاء الموضوعات الوصفية : فاطالوا الحديث عن الأزهار ، والرياض ، والنبات ، والنسيم والرياح ، والليل ، والنجوم ، والجداول ، والغدران ، والأنهار ، والبحار والاحواض ، والقصور ، ومنازل اللهو ، ومجالس الشراب . . الخ

واطنبوا فى وصف المعانى الوجدانية ، كما اطنبوا فى وصف المرئيات ، فتكلموا عن اهواء النفوس ونزعاتها ، فوصفوا الحقد ، والبغض ، والكرم والنبل . . .

وقد اشاع كتاب القرن الرابع نظرية ) الفن للفن ( وان لم يدركوا  ما لهذه  النظرية من الأوضاع والتقاليد ، فقد عودوا القراء تذوق الكتابة البديعية وحببوا اليهم النثر المصنوع ، فأصبح المتأدبون يتأملون مواقع الألفاظ وقرار التراكيب وصارت فنون البديع من تورية وجناس وطباق أصولا فنية يجد القارىء لذة ومتعة حين يراها وقعت موقعا حسنا وأصابت الغرض الذي وضعت له ، ولو كان غرضا لفظيا لا يتوقف عليه تمام المعنى المقصود  ٠٠٠٠

ويعتبر القرن الرابع بالنسبه للمشارقة ، ومنتصف القرن الخامس بالقياس للمغاربة  عصرا ذهبيا ، بيد أنه حمل من جهة اخرى بذور الضعف الادبى اعنى ان كثيرا من الظواهر الفنية الطريفة انقلبت الى ظاهرة جمدت الفن الأدبي من ذلك مثلا فن المقامات والموضوعات الوصفية .

وإذا كان لهذا العهد من حياة الأدب هذا الطابع ، فما نصيب الحصري منه ؟

لقد وضع الحصرى عدة مؤلفات ، شعرا ونثرا ، الا ان معظمها قد ضاع والذى وصلنا منها هو كتابه " زهر الآداب وثمر الألباب " وبعض الاشعار جمعها ح . ح . عبد الوهاب فى كتابه المنتخب المدرسي

وما دمنا قد التزمنا بالحديث عن النثر ، فاننا سنقتصر في هذا البحث على كتاب زهر الآداب . فما هو هذا الكتاب ؟

زهر الآداب :

يلاحظ ان زهر الآداب جاء من حيث المادة والمنهج ، صورة للمدرسة الجاحظية القديمة فهو من حيث الطريقة يشبه كتاب البيان والتبيين للجاحظ : جمع فيه : " كثيرا من النصوص الأدبية شعرا ونثرا ونشر بينها كثيرا من  الأخبار والنوادر التى لا يخلو بعضها من غرابة ) 1 (

ويشير الحصري إلى ان " السبب الذي دعانى الى تأليفه ، وندبني الى تصنيفه ما رأيته من رغبة أبي الفضل العباس بن سليمان - أطال الله مدته وآدام نعمته فى الأدب ، وانفاق عمره في الطلب وماله فى الكتب ، وان اجتهاده فى ذلك حمله عل ان ارتحل الى المشرق بسببها وأغمض فى طلبها ، باذلا في ذلك ماله مستعذبا فيه تعبه ، الى أن أورد من كلام بلغاء عصره ، وفصحاء  دهره طرائف طريفة ، وغرائب غريبة وسألني أن أجمع له من مختارها كتابا يكتفى به عن جملتها ، وأضيف الى ذلك من كلام المتقدمين ما قاربه وقارنه وشابهه وماثله ، فسارعت الى مراده ، وأعنته على اجتهاده ، وألفت له هذا الكتاب ، ليستغنى  به عن جميع كتب الآداب . . ) 2 ( .

ثم يشير الى مصادر كتابه " اذ كان موشحا من بدائع البديع * ، ولآلئ السكالى ، وشهى الخوارزمى * ، وغرائب الصاحب * ، ونفيس قابوس  وشذور أبي منصور * بكلام يمتزج بأجزاء النفس لطافة  وبالهواء رقة وبالماء عذوبة . . . ) 3

ومعنى هذا ان الحصرى لم يقف عند الجمع والانتقاء بل تجاوزه الى اعطاء رأيه ونقده أحيانا ، بأسلوبه الخاص وفهمه المستقل

الا ان منهجه فى اختيار النصوص يختلف عن منهج الكتاب الذين ينتقون النصوص الطويلة والاحاديث الغريبة ، ويشير الى ان كتابه جمع فيه بين عيون الشعر وعيون النثر وان هذه المادة " يتصرف الناظر فيه من نثره الى شعره ومطبوعه الى مصنوعه ومحاورته الى مفاخرته ومناقلته  الى مساجلته وخطابه المبهت الى جوابه المسكت . . . ) 4 ( .

وهذا يعنى ان الحصرى اعتمد فى اختياره للأثر الأدبي على ما كان بالدرجة الأولى بليغ اللفظ فصيحه . ثم يلمع الى الطابع الفني لمادة كتابه التى تصرف فيها فيقول :

" ومن تشبيهاته المصيبة الى اختراعاته الغريبة ، وأوصافه الباهرة الى أمثاله السائرة ، وجده المعجب الى هزله المطرب وجزله الرائع الى رقيقه البارع . . . ) 5 ( .

ومن هنا يظهر ان اختيار النصوص اعتمد فيها الحصرى على ما كان ثريا منها بالتشبيهات الصائبة والاختراع والابداع من حيث المعنى ، وما كان منها يؤدى او يعطى قيمة وصفية بارعة بديعة . وان " الغرض عنده من هذا هو بالضبط ما كان عند الجاحظ منه فهو يعتقد - كما كان الجاحظ يعتقد - ان هذا المنهج الذي تختلط فيه ألوان الأدب بالأخبار والملح والغرائب هو أنفع وأيسر تناولا لعموم القراء حتى لا يدب الى نفوسهم الملل من الاسترسال فى نفس واحد بين ثنايا موضوع واحد ٠٠٠

وقد لاحظ الحصرى نفسه هذه الطريقة الجاحظية المتبعة فى كتابه فقال :

" اذ كان الخروج من جد إلى هزل ، ومن حزن الى سهل ، أنفي للكلل ، وأبعد من الملل وقد قال اسماعيل بن القاسم ) هو أبو العتاهية ( :

لا يصلح النفس اذ كانت مدابرة إلا التنقل من حال الى حال ) 7 (

ولعل الشبه بين كتاب الجاحظ وزهر الآداب يتجلى أكثر في طريقة التأليف ، فالحصرى كالجاحظ ألغي فكرة التبويب من كتابه ولم يتبع منهجا منظما أو تبويبا  دقيقا ، ، ولم يرتب موضوعاته " وقد نزعت فيما جمعت عن ترتيب البيوت  وعن ابعاد الشكل عن شكله وافراد الشئ من مثله . . . ) ( . أى ان  الحصرى كان يوزع الموضوعات المتشابهة فى أمكنة متفرقة من كتابه ، وانه بناء

على هذه الطريقة الغى فكرة التبويب والفصول ، على أنه يشير الى عمل له قد توخاه أحيانا بقوله : " فجعلت بعضه مسلسلا وتركت بعضه مرسلا ليحصل محرر النقد ، مقدر السرد ، وقد آخذ بطرفى التأليف ، واشتمل على حاشيتى التصنيف ، وقد يعز المعنى ، فأحق الشكل بنظائره ، وأعلق الاول بآخره ، وتبقى منه بقية أفرقها فى سائره . . . ( .

أى انه رغم كلامه المتقدم قد يراعى أحيانا الوحدة الموضوعية فى النصوص فيسوق الأمثال والشواهد منضافة الى قرائنها ، ولكنه قد يعمل فى بعضها على ابعاد الشكل عن شكله فلا يكون الحديث مسلسلا بل يكون مرسلا . وليس هذا فى الحقيقة عيبا ، لمن تفهم غاية الكاتب الجاحظية الحريصة على أن  لا يمل الدارس أو القارىء ، وكان يسعى من كل ذلك كما يظهر ليسلم كتابه  " من التطويل الممل والتقصير المخل ) 10 ( .

ثم يعقب على هذه المنهجية بقوله : " وتظهر فى التجميع افادة الاجتماع ، وفى التفريق لذاذة الامتاع فيكمل منه ما يونق القلوب والأسماع . . . ) 11 ( .

وهنا اشارة واضحة الى النزعة التعليمية التى كان يقصدها المؤلف ، اذ الكتاب لا يخلو من قارئ يقرأه وطالب يدرسه وسامع يستمع اليه ؛ والمؤلف حريص على امتاع كل الأصناف .

ثم يعود الحصرى ثانية إلى طبيعة المادة التى اختارها فيشير الى انه ابتعد عن الكلام الأدبي المبتذل نتيجة لكثرة تردده على الألسن ونفور واعراض العقول عنه ، بيد انه رغم ذلك لم يستطع ان يتخلص من المشهور المبتذل ، ولكنه جهد جهده فى ذلك مقتصرا منه على ما كان بارع عبارة ، وناصع استعارة وعذوبة مورد ، وسهولة مقصد ، وحسن تفصيل ، واصابة تمثيل ، وتطابق انحاء ، وتجانس أجزاء ، وتمكن ترتيب ولطافة تهذيب ، مع صحة طبع وجودة ايضاح ، يثقفه تثقيف القداح ، ويصوره أفضل تصوير ، ويقدره أكمل  تقدير ، فهو مشرق فى جوانب السمع لا يخلقه عوده على المستعيد  :

  وهو المشيع بالمسامع ان مضى ،    وهو المضاعف حسنه ان كرر ) 12 ( "

ومهما كان من شئ فاذا نحن نظرنا الى الكتاب بمنظار نقدى حديث وحاولنا تقييم منهجه تقييما عصريا لوجدنا انه يكاد لا يمثل شيئا تقريبا ؛ على انه بالنظر الى طريقة التعليم فى ذلك العهد والمناهج المتوخاة فى التدريس ، ونشر

الثقافة ، من عقد الاجتماع فى المساجد أو فى بعض الدور ، أو من عقد المجالس كما كان يفعل المؤلف اذ " كان شبان القيروان يجتمعون عنده ويأخذون عنه . . " فانه من هذه الناحية يمكن اعتباره من أنجح الكتب التعليمية واسلمها لان الطالب يقبل على النهل منه دون كلل ولا أدنى ملل ، ويرتبط بطبيعة مادته بيسر دون عناء .

غير أن المتأمل فى الكتاب يلاحظ ان فيه شيئا من منهجية التأليف ، والدليل على ذلك اهتمام الكاتب بجعل مقدمة لكتابه تبدأ بهذه الجملة : " الحمد لله الذى اختص الانسان بفضيلة البيان ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين المرسل بالنور المبين والكتاب المستبين الذي تحدى الخلق ان يأتوا بمثله  فعجزوا عنه وأقروا بفضله وعلى آله وسلم تسليما كثيرا " .

وينتهى بخاتمه لطيفة نستشف منها تشيعه لآل البيت : " وقال ابن الأعرابي أمدح بيت قاله المحدثون قول أبي نواس :

أخذت بحبل من حبال محمد     أمنت به من طارق الحدثان "

وحسن التقديم ، والختام ، يشكل جانبا من منهجية التأليف ، ثم نلمس هذه المنهجية مرة أخرى فى هذا التمهيد الذى يبدأ من صفحة 8 بحديثه عن " الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم بين يدى رسول الله " وتعرضه بعد ذلك لبعض الأدباء والخطباء والبلغاء ، ويتحدث أيضا عن بعض الأمثال العربية مثل حديثه عما " قيل فى معنى الأوابد " ، وما " يستملح مما قيل فى حسن الحديث " وفى هذا السياق ينطلق فى تفسير الحديث وضبط الفاظه " على هذا النسق : " قال أبو القاسم عبد الرحمن بن اسحاق الزجاجي : حدثنا يوسف ابن يعقوب قال : أخبرنى جدى قراءة عليه ، عن أبي داود ، عن محمد بن عبيد الله ، عن أبي اسحاق ، عن البراء يرفعه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ان من الشعر لحكما وان من البيان لسحرا " ، قال أبو القاسم هكذا روينا الخبر ، وراجعت فيه الشيخ ، فقال : نعم ، هو " ان من الشعر لحكما " ) بضم الحاء وتسكين الكاف ( ، قال : ووجهه عندى اذا روى هكذا ان من الشعر ما يلزم المقول فيه كلزوم الحكم للمحكوم عليه اصابة للمعنى وقصدا للصواب وفى هذا يقول أبو تمام :

ولولا سبيل سنها الشعر ما دري    بغاة العلى من أين تؤتى المكارم

يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة      ويرضى بما يقضى به وهو ظالم ) 13 (

ويدخل في حديث يفضى به الى احاديث أخرى على طريقة الاستطراد ، وهذا شائع في كافة أجزاء كتابه . ثم يعود للرسول ثانية ابتداء من صفحه 28 رجعت الى ما قطعت مما هو أحق وأولى وأجل وأعلى ، وهو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الكريم النجر ، العظيم الأجر ، الذي هو النهاية فى البيان ، والغاية في البرهان ، المشتمل على جوامع الكلم ، وبدائع الحكم . . ويذكر بعض الصحابة بما يناسبهم من الأخبار ثم ينهى هذا التمهيد بهذا الكلام : " قد علقت بذيل ما أوردته ، وألحقت بطرف ما جردته من كلام سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأخيار الطيبين الطاهرين ، قطعة من كلماء الخلفاء الراشدين ، قدمتها أمام كل كلام لتقدمهم على الخلق وأخذهم بقصب السبق ، وهو كما قال بعض المتكلمين يصف قوما من الزهاد الواعظين ، جلوا بكلامهم الأبصار العليلة وشحذوا بمواعظم الأذهان الكليلة ، ونبهوا القلوب من رقدتها ونقلوها عن سوء عادتها ، فشفوا من داء القسوة وغباوة الغفلة ، ودووا من العي الفاضح ونهجوا لنا طريق الواضح . وآثرت أن ألحق بعد ذلك جملة من سليم كلام سائر الصحابة والتابعين ، رضي الله عنهم أجمعين ، وأدرج في درج كلامهم وأثناء نثرهم ونظمهم ، ما التف عليه والتفت اليه ، وتعلق بأغصانه وتشبث  بأفنانه كما تقدم ، وأخرج الى صفات البلاغات ، وآخذ بعد ذلك فى نظم عقود الآداب ورقم برود الألباب :

من كل معنى يكاد الميت يفهمه   حسنا ويعبده القرطاس  والقلم ) 14 (

ومما تجدر الاشارة اليه فى هذا التمهيد ، ان هناك ما يشبه الاستدراك عما قرره في المقدمة فألحقه فى هذا الموضوع ، وابتداء من صفحة 54 يبتدئ الكتاب وفي خصوص مادة الكتاب الشعرية والنثرية فانها تمثل قسمين : قسم يمثل الأدب المشرقي شعرا ونثرا ، وقسم يمثل الأدب المغربي ، غير ان هذا الأخير من القلة بحيث لم نر إلا بعض نصوص مختارة لابن هانئ وعلى بن الأيادى التونسي ، ومن هنا نتساءل عن مدى تصوير زهر الآداب للبيئة القيروانية وهل هذا الانتاج يعتبر مغربيا أم مشرقيا ؟ والغالب على الظن ان انصراف المؤلف عن الأدب المغربي يعطينا فكرة عن الاتجاه لدى أدباء القيروان فى أيام المؤلف ، كما يعطينا فكرة عن تلهف المغاربة علميا وفنيا على كل ما يجد فى البلاد المشرقية . وقد يكون الحصرى مثل ابن عبد ربه المتوفى سنة 328 ه - والذي " ألف كتابه لأهل المغرب حتى يطلعهم على آثار المشارقة ويجعلها فى متناولهم ، مهملا آثار أهل المغرب لاعتقاده أنها فى متناول الجميع ) 15 ( .

قيم زهر الآداب :

ومهما كان الأمر فان هذه المادة تحمل قيما مختلفة مثل :

القيمة الاجتماعية : وغالبا ما يذكرها تحت عنوان " ألفاظ لأهل العصر " فيذكر كثيرا من الآداب الاجتماعية التى كان يحمدها الناس لعهده ، فيذكر ما يجمل فى معاملة الملوك ويتحدث عن فضل الليل وعن البرد والثلج وواجب النساخ وما الى ذلك مما يتصل بما على المرء من الواجبات وما له من الحقوق ) 16 ( .

والملاحظ ان هذه الاستعمالات لم ينسبها لأحد ، ومعنى هذا اما أنها كانت شائعة فى عصره كمحفوظات لغوية ، يتداولها الناس ، ويكون حالها كحال ألف ليلة وليلة واما ان الحصرى وضعها بنفسه ويكون حاله كحال التوحيدى فى " الامتاع والمؤانسة " الا ان المرجح ان هذه الاستعمالات هى من وضع المؤلف نفسه والدليل على ذلك أسلوب السجع الذي " جاءت به مما يكاد يكون صورة طبق الأصل من أسلوبه الواضح كل الوضوح فى مقدمة الكتاب وخاتمته .

القيمة الأدبية فيبدئ الحصرى ويعيد فى الكلام عن البلاغة والبلغاء والشعر والشعراء والانشاء والمنشئين وكذلك كان أهل عصره يهتمون بدرر النثر والشعر ) 17 ( الا ان هذه القيمة يعتريها نقص فادح ، فقد أهمل الحصري - كما قدمنا - الانتاج المغربي ؛ ثم ان النثر الذى يمثل ركائز داخل الكتاب هو فن  المقامة والرسالة وبعض الخطب القصيرة ، والأمثال السائرة ، ومما يؤخذ على الحصرى اقتصاره فى فن المقامات على مقامات الهمذانى الذى كان يعتبره قمة  الطرافة وذروة الابداع . . وبالنسبة للرسائل فقد عنى بعدد كبير من مشاهير  الكتاب مثل السكالى ، والصاحب بن عباد ، وقابوس ، والثعالبي

القيمة التاريخية : فقد حوى الكتاب معلومات تاريخية هامة مثل حديثه عن المصيبة فى أبناء النبوة " قد نعى سليل من سلالة النبوة وفرع من شجرة الرسالة ، وعضو من أعضاء الرسول ، وجزء من أجزاء الوصى والبتول (

القيمة الوصفية : قدم لنا صاحب زهر الآداب شواهد كثيرة فى مواطن متفرقة من كتابه عن الأوصاف التى عنى بها كتاب ذلك العصر . . . . من ذلك قولهم في وصف الماء : ماء كالزجاج الأزرق ، غدير كعين الشمس . . وقولهم

فى وصف النثر : نثر كنثر الورد ، نثر كالسحر أو أدق ، ونظم كالماء أو أرق ) 19 ( . . الخ " .

القيمة النقدية : وقد كشف لنا زهر الآداب عن الحصرى الناقد ، نظريا وتطبيقيا . ولا غرابة أن يبرع الحصرى فى النقد . ذكر ابن رشيق فى كتابه المفقود " الأنموذج " ان الحصرى وضع مشروع كتاب يتناول الشعراء المغاربة وجعلهم طبقات حسب السن . قال ابن رشيق : " وكنت أصغر القوم سنا  فصنعت :

رفقا أبا اسحاق بالعالم            حصلت في أضيق من خاتم

لو كان فضل السبق مندوحة      فضل ابليس على آدم "

قال : " فلما بلغه البيتان أمسك عن تأليفه واعتذر عنه ومات وقد سد عليه باب الفكرة فيه ولم يصنع شيئا " .

واستنتج ح . ح . عبد الوهاب من هذه الحادثة ان ابن رشيق احتال بذلك ليكون له فضل السبق فى هذا العمل فتم له ذلك ووضع كتابه " الأنموذج "

ولعل فى الموازنات التى أوردها الحصرى بين الشعراء ما يدعم براعته فى فن النقد . أما بالنسبة لآرائه النقدية فنجد له رأيا طريفا فى الأسلوب والمعنى يقوم على ان الفن الأدبي موهبة وثقافة ، فلا أدب بدون موهبة كما لا أدب بدون  ثقافة كما لا أدب من غير صناعة يؤازرها طبع قوى ، فاذا كان الطبع قويا واللغة والأسلوب ضعيفين سقط الأثر الأدبي ، واذا كان جهد الأديب انصرف الى الجانب الشكلى وأهمل المعنى سقط الأثر الأدبي أيضا . والاتجاه القويم  عنده هو ان يكون الأدب مظهرا للطبع والصنعة معا ، وعبر عنه فى منزلة بين  المنزلتين .

وبالقياس لتطبيقاته النقدية فاننا نلاحظ انه يسير على منهج المتقدمين ، وهو لا يخرج عن هذا المنهج اذ وسيلته تتبع اقتباسات وسرقات الكتاب والشعراء ، وهذه الطريقة نستشف منها ثقافة الحصري واطلاعه الواسع ، حيث نراه يتبع أصل المعانى الشعرية والنثرية المقتبسة أو المسروقة ، ويقرر ان هناك معانى كثيرة مشتركة لا يمكن أن يتهم أحد فيها بالسرقة أو الاقتباس . ومن امثلة ذلك ما ذكره عن ابن بسام ، وعلى بن خليل ، فقد قال الأول :

لا أظلم الليل ولا ادعي       ان نجوم الليل ليست تغور  

ليلى كما شاءت ، فان لم تزر        طال ، وان زارت فليلى  قصير

وانما أغار ابن بسام على قول على بن خليل فلم يغير الا القافية

لا أظلم الليل ولا ادعي         ان نجوم الليل ليست تزول

ليلى كما شاءت قصير اذا   جادت ، وان ظنت فليلي طويل

القيمة الأخلاقية : ان الحصرى فى مادته النثرية كثيرا ما يعنيه موضوع الاخلاق ولعل مرد ذلك الى انه رجل محافظ ، متدين ، بحيث لا يستطيع أن يخفى ميله ونزعته التعليمية . ولعل هذا هو سبب اعراض الحصري عن نقل كثير من اشعار المجون والخلاعة مع ان عصره أتخم بهذا النوع أو هذا اللون وعلق زكى مبارك على هذا التحفظ الاخلاقي عند الحصرى فقال : ان حرص الحصرى على الاخلاق ضيع علينا ما أعرض عنه من الآثار الأدبية ، وكنا فى حاجة الى ان نعرف كل ما ترك الاولون " .

ثم هناك ناحية ذات دلالة عظيمة يذكرها النقاد فينوهون بها . وهذا أحدهم يلخصها : " وهي نسبة النصوص التى اختارها الى اصحابها وأحيانا إلى الكتب التى نقلها منها بدقة وأمانة قل وجودهما فى كتب غيره المماثلة لكتابه "

وبالجملة فان كتاب زهر الآداب يمثل عصر الاختصاص حيث نجده قد تجرد عما يعلق بالكتب الاخرى ) كالنوادر للقالى ، والكامل للمبرد ( من معلومات فى اللغة والرواية والنحو والصرف ، واتجه فيه مؤلفه اتجاها أدبيا صرفا .

ثم إنه من جهة اخرى يمثل نزعة سائدة فى ذلك العصر تعتمد على انتاج موسوعى فى فن واحد ، وقد نعته زكى مبارك بأنه فعلا - دائرة معارف -

ثم ان ذوق الحصرى فى هذا الكتاب ذوق رفيع يدل على خبرة وسداد نظرة ، وصدق عندما قال : " وآختيار المرء قطعة من عقله تدل على تخلفه أو فضله ومواضيعه ونصوصه كلها كانت تدل على فضله وعلى ذوقه الفنى  السليم .

وعلى الرغم من ان عصر الحصري عصر تمذهب وحزبية ، فقد سلم كتابه من هذه النزعة السياسية أو هذا التعصب الأعمى ، وقد انعكس ذلك حتى على  جانبه الأدبي فلا نجده يتعصب لمدرسة من المدارس الأدبية بل على العكس فقد

كان يستوعبها جميعا ولذلك كانت منتقياته وآختياراته على أساس الجودة ؛ وهذا يعكس بوضوح حياة الحصرى الخاصة ، حياة ملؤها النشاط ، والتشبع بالثقافة والعلوم ، حياة تكاد تكون حياة الزهاد ، همها الثقافة ، والأدب ، حياة  بعيدة عن السياسة ، شعارها : الجلوس على الربوة أسلم

اشترك في نشرتنا البريدية