الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 8الرجوع إلى "الفكر"

من اجل حوار حقيقى بين الشرق والغرب

Share

الى لسعيد بما اتاحته لى جمعية الصدقة التونسية الفرنسية من فرصة للمشاركة فى هذا الملتقى بمحضر عدد من جلة الضيوف الفرنسيين امثال الوزير ديجو " وعضو الاكاديمية " موريس دريون " ورئيس جامعة باريس " روبار مالى " وجملة من المسؤولين عن التربية والثقافة بفرنسا ، وكذلك بحضور وزراء ونخبة من الجامعيين ورجال الفكر التونسيين

ان ملتقاكم هذا ليكتسي اهمية عظيمة اذ يقوم شاهدا جديدا على التعاون التربوى والتبادلات الثقافية بين بلدينا ويطمح الى ان يكون دافعا الى التفكير العميق في آفاق التعاون وابعاده ومستقبله وفي المصاعب التى يواجهها وكذلك فى شروط النجاح لهذا الحوار الذى نواصله بين تونس وفرنسا وبصفة اعم بين الشرق والغرب

واني أود بادىء ذى بدء أن اؤكد . مثلما فعل السيد وزير خارجية نونس منذ حين على الاختيار الحضارى الذى صدع به الرئيس الحبيب بورقيبة وعلى المدلول الذى أضفاه على كفاح الشعب التونسي من اجل استرجاع سيادته والظفر بحريته ، ذلك الكفاح الذى افضى الى ايجاد الظروف الحقيقية الدائمة لارساء الصداقة التونسية الفرنسية ، وفعلا فلقد كانت العلاقات بين تونس وفرنسا طيلة ثلاثة ارباع القرن علاقات مسيطر يمسيطر عليه بحيث كانت الصداقة والسلم مستحبتين فى مثل تلك الظروف . ومع ذلك فقد كان بورقيبة صديقا لفرنسا ، فرنسا التى سنت حقوق الانسان لا تلك التى كانت تبرز وراء

وجه الحماية البشع . فبقدر ما كان معجبا بالثقافة الفرنسية كان برئ - ويسانده فى ذلك التونسيون - انه بدون استقلال وحرية وكرامة ، لا يمكن اقرار تعابش سلمى بين البلدين ، بله اقرار تعاون سليم بينهما . ولم يكن ثمة من يرى باستثناء عدد من المعمرين والمستعمرين تناقضا بين تمسك بورقيبة بقيم الثقافة الفرنسية وبين ارادته الجامحة والمنصرفة الى تحطيم الحماية وتحرير تونس من نير الاستعمار الفرنسي والعمل على احياء الثقافة القومية .

ومن هذا الموقف استخلص المتطرفون الذين ربما قرأوا تاريخ " تيت ليف " شكلا حديثا من اشكال " الخداع البونيقى " وبلغ انفعال المتفوقين " ) 1 ( أشده عندما كان بورقيبه فى احلك ساعات الكفاح يدعو بكل قواه الى تعاون صادق يزيه مع فرنسا .

وانفتحت الطريق فى وجه صداقة خالصة غداة الاستقلال الذي تم الظفر به سنه 1956 بعد كفاح وتضحيات استمرت خمسا وعشرين سنة كان نصيب بورقيبة منها عشر سنوات قضاها فى السجون فضلا عن السنوات الاربع التى قضاها فى " الغربة " بمحض اختياره ، ولم تسفه تونس المستقلة منذ أكثر من 21 عاما رهان بورقيبة ، اذ ان التعاون بين البلدان قائم كاححسن ما يكون التعاون .

الى ساقصر حديثي - ان سمحتم - فى مجال هذا التعاون على التربية والثقافة وساتناول ذلك بصراحة وصدق بوصفي رجل ثقافة وتعليم ، بل بوصفي مواطنا تونسيا.

ان التحليل الصحيح الصادق لشروط النجاح الدائم للتعاون التربوي بين البدين يفترض الاتفاق بخصوص الوسائل الملائمة للتوفيق بين مقومات الشخصية التونسية العربية الاسلامية وبين الثقافة الغربية التى تواجهها والتى لا يتعين عليها ان تتبنى اخلاقيتها وطريقة كينونتها ووجودها بل يحسن ان تتعايش معها فى تفاعل وتكافل . وهو يقتضى ايضا وبالخصوص فى النظام التربوى التونسى الاصيل تحديد مكانة اللغة الفرنسية ووظيفتها باعتبارها وسيلة اتصال بالمعاصرة واكتساب التقنيات والتكنولوجيا

ولقد كانت سياستنا التربوية ، طوال سنوات الاستقلال العشرين عبارة عن مجهود متواصل للبحث عن توازن صحيح وناجع بين حرصنا على الاحتفاظ بذاتيتنا وبين طموحنا الى معانقة عصرنا بتحديد محتوى تربوى يساعد على تكوين احبال تونسية بحفى ، متفتحة على العالم الخارجي ، تتميز بالاستعداد النفسانى والقدرة الفكرية على انعاش ثقافتنا القومية واحيائها بعد ان حنطتها قرون الانحطاط وكبلها الاستعمار

وانها لمهمة دقيقة ومفاوضة شاقة حتمها بالخصوص هذا " الارث " التربوى الذى خلفته الحماية إذ نظمت أو ابقت بسابق اضمار على ثلاثة انظمة مدرسية الزيتونية والصادقية ، والليسي الفرنسى ( فافرزت بذلك انماطا ثلاثة من العقليات على الاقل ، بغض النظر عن الاميين الذين كانوا كثيرين ، فشروط المعادلة كانت ولعلها ما زالت الى اليوم ، غير مفهومة بنفس الصورة من قبل كل البيداغوجيين وكل المثقفين وحتى كل السياسيين . ذلك أن المنطق التعليمى الوصول والآخذ باسباب التقنية يمتزج بالمنطق التقليدى المحافظ . وهكذا الاولوية فيما يده لطلب النحاعة ومقتضيات البناء الاقتصادى على حساب تاكيد الذات القومية التى لم يحدد بوضوح اطارها التاريخي والايديولوجى وبذلك بصطدم مفهوم للتعرب سلبى الى حد الوسوسة بميل عنيف وساذج إلى كل ما هو اوروبي (  Europocentrisme naif   ) اى بتقليد لعادات الغير لا يخلو من خنوع ، ويتحذلق بدفع بالكثير الى الترطن بالفرنسية طلبا الى الظهور بمنظر العصريين المتحررين المتطورين

فما هى الاصالة التونسية اذن ؟ هل معناها الانغلاق داخل غل مانوى شرق - غرب، عروبة - فرنسية ، رجعية - تقدم ... ام يجب ادراك المشاكل بصورة واعية وجعلنا تنعكس على المستقبل ؟ أفلا يقتضى واجب المسؤول ان يختار من روية ، وان بعد الحلول المواتسة والصحيحة وان يتخد القرارات الملائمة ؟

فنحن بصدد تحديد هذه السياسية التربوية المتوازنة ووضعها حيز التنفيذ ، اذ التحليل والفعل متكاملان وان هذه السياسة كفيلة بان تتيح لنا تجسيم هذا الاختيار الحضاري الذي قمنا به على صعيد وجودى وادرجناه فى سياق مصيرى الذي يتعين تعميقه وصقله باستمرار على الصعيد الثقافي

ان الامر لا يتعلق بمشكل اللغة فقط ، ولو انه فى حد ذاته مشكل شانك

ومعقد ، بل هو يتعلق خاصه بمشكل محتوى الثقافة ، والمراجع الحضارية ومفهوم مصير تونس ومنزلة التونسى باعتباره عربيا مسلما وباعتباره انسانا .

وان من الناس من لا ينفكون يتحدثون عن المعاصرة والتقدم والعلوم والتقنيات وعام 2000 انهم لا يدركون الا الجانب العلمى بل العلموى ، وحجتهم الدامغة هى النجاعة والنمو المادى . انهم ينسون ان أى سلوك واية معرفة وأي فعل لابد ان يقتضى الخضوع الى نسق من القيم قائم الذات والى رؤية كونية خاصة ومراجع ليديولوجيه معينة ، وانه لا يكفى ان يكون لنا تكوين علمي وان نتحدث عدة لغات للاضطلاع باصالتنا والاسهام فى تغيير العالم والنهوض بالانسان ان الاقتصادوية ) Economisme ) والتقنوية ( Technophilie ) لا يشرحان كل شئ وهما لا يستطيعان بمفردهما مصالحة الانسان مع نفسه

ويتضح اليوم اكثر فاكثر انه لا توجد حضارة واحدة ، بل حضارات ، كما انه لا توجد ثقافة واحدة مهيمنة بل ثقافات ، فكل الناس - باستثناء العنصريين والاستعمار يبنبن الذين لم يتعظوا بالاحداث - متفقون على ان الحضارة العالمية انما هى حصيلة اسهامات متعددة مختلفة تأتي من كل الشعوب ومن كل الثقافات . ولذا يتعين ان يتم تنظيم المبادلات الثقافية على أساس التعامل بالمثل : ان جدليه الاخذ والعطاء يجب ان تقود خطانا منذ الان ، فلكل شعب ذاتيته الخاصة وعبقريته القومية وان التعاون هو ايضا اثراء متبادل يفترض احترام الغير والتواضع والتسامح والاستعداد النفسانى والفكرى من قبل كل ترد وكل شعب للتعرف الى طرافة ما اسهم به الاخر وتقبله ان وجب الامر

يخفى اليوم على احد ان عهد " الغربوية " ( Occidto - centrisme ) ان جاز هذا التعبير ، قد ولى وانقضى ، وخوفا من ان يكون كل شعب نسخة طبق الاصل لغيره او فرعا ذاويا ثانويا فانه ينبغي له ان يقد ثقافته على قدر قياسه مع التفتح على الاخرين حتى لا يختنق بالانطواء على ذاته وينبغى لكل شعب ان يواصل البحث عن شخصيته ، وان يعمل على البقاء وفيا للارض التى انبتته واذا قدر للشعوب بان لا تأخذ بناصية تاريخها وان لا تنشد كمال ذاتيتها فانها تسهل انتشار الثقافات " الاخطبوطية " او الامبر بالية التى توحى بها القوى الاقتصادية او العسكرية دائما بالقيام برسالة تمدينية او " انسانية " جديدة على مستوى العالم

وفى هذا السياق يجدر ان نؤكد النزعة العدوانية واخطار التسطح التى تنشرها على رؤوس الاغلبية الساحقة من الشعوب - لا الشعوب المتخلفة فحسب

- هذه الاجهزة السمعية البصرية ووسائل الاتصال الجماهيري التى تفرضها التقنيات العصرية والتي " تطرق الضمائر وتطوقها لصالح قوى تجارية وسلطات مادية لا هم لها الا تجميع الثروات على حساب اكثر الناس ضعفا وسذاجة . ولقد لفتت الجلسة العامة لليونسكو سنة 1972 انتباه المسؤولين الى الاسقاطات الخفية المتعذر ادراكها والمنزلة من الوسائل التكنولوجية والبرامج المنعوتة بالثقافة والمذاعة " من فوق رؤوس الشعوب " - بأتم معانى الكلمة -  والتي توشك ان تضر بطرافتها وان تستلب شخصية الامم

ونحن لا تدعي - درء لهذا الخطر - انه بوسعنا ان نبسط المظلات الواقية فى كل مكان ، بل انه ينبغى لنا ، إذا ما اتفقنا على تحليل هذه الظاهرة ، ايجاد البيداغوجية القادرة على تكوين شباننا بطريقة تمكنه من الاحتفاظ بذاتيته والامتزاج بالكثرة مع اجتناب عدوى هذه الاسقاطات " الثقافية " التى تصر على جرنا إلى جناتها جرا . ان مثل الروح كمثل الجسد ، إذا تحصن قاوم الجراثيم التى تسكنه وقدر على احتوائها اما اذا كان واهيا غافلا " مشوشا " من جراء عوامل اجنبية عنه ، فانه يضمحل ، وفي ذلك انبثاث المرض الثقافي واستشراؤه ثم الموت

هذا المشكل مطروح على كافة البلدان . ولقد استمعت شخصيا بمناسبة انعقاد الحلبية العامة للبونسكو التى اشرت اليها آنفا ، الى ممثلين لاقطار اوروبية كبرى " نشيطة " - بل " غازية " فى علاقاتها الثقافية مع العالم الثالث - يعبرون بدورهم عن شديد مخاوفهم ازاء إمكانية " اغتصابهم " فى سلامة ذاتيتهم القومية عن طريق هذه الحملات " الثقافية " التى تعدها الدولتان العظيمتان اللتان تسيطران على التكنولوجيا وتراقبان الفضاء ، طالما ان كلا منا متخلف بالنسبة الى غيره ! ومهما يكن من امر ، فانه يحق للاقطار النامية ان تضاعف من جهودها وتبصرها للمحافظة على ثقافتها وان تفكر بجد فى محتويات الانظمة التربوية المقدمة لشبابها

وهكذا فاننا جميعا ، سواء انتميا الى الضفة الشمالية او الضفة الجنوبية للبحر المتوسط ، نجابه معا نفس المشاكل وتتهددنا نفس الظواهر

فينبغي اذن ان ينهض كل منا بحضارته ويخصب الفوارق القائمة بيننا وفى نفس الوقت يجب ان نتعاون ، اى ان ناخذ ونعطي وان نتكامل وان يثرى بعضنا الاخر ، وان نناضل معا ضد كل شكل من اشكال التلوث الثقافي ، وان نتمسك

بما نشترك فيه ، اى برؤية موحدة للانسان ، ووعى مماثل لمصيره ، وبفلسفة انسية

والواقع ان التعاون القائم بين تونس وفرنسا يعد صيغة من صيغ التعاون بين الغرب والشرق ومظهرا من مظاهر الحوار بين الشمال والجنوب ، اذ يتعلق الامر بجبهة ثقافية مشتركة للوقوف فى وجه الاخطار التى تتهدد حرية الانسان وكرامته وكمال ذاته فى كل مكان

وليس ادل على ذلك مما يعانيه تصورنا للتعاون الثقافي السليم ، من مقاومة الماسكين بزمام الاميريالية الثقافية الذين يعملون ما وسعهم العمل ، باسم الشمول او التقدمية او الحداثة ، على بيع بضاعتهم الثقافية التافهة وفرض ايديولوجياتهم على الشعوب ، شعوب العالم الثالث بالخصوص ، وابقائهم بهذه الصورة فى منزلة المستهلك

واود من ناحية اخرى ، وفى نفس هذا السياق ، ان اتحدث قليلا عن لغتنا القومية

ان لغتنا القومية هى العربية هذا امر لا ينازعنا فيه احد ولا يمكن أن نقبل فيه النقاش مع احد . وينبغى لنا كما اكده منذ لحظات السيد الوزير " ديجو " نفسه ان نعلم ابناءنا بفرنسا لغتهم العربية حتى لا يتعرضوا الى الانتزاع الثقافي والاستلاب . ولكن احرى بنا ان نعلمها لابنائنا بتونس بوصفها اللغة الام ، اى ان نعلم كل الواد بالعربية حتى يتمكن الشبان التونسبون من اتقانها والاعتزاز بها . فيتيسر بفضلها وعن طريقها ظهور الكوامن الخلاقة في مجموع المجتمع التونسى ، على غرار كل الشعوب التى تمتلك لغة قومية . وارى شخصيا - وارجو ان اكون مخطئا فى هذا التأكيد اننا لم ندرك هذا الهدف . ان الشبان التونسيين اليوم يقرؤون ويكتبون العربية ، لاجدال فى ذلك ، بل ان عددا منهم يقرؤونها ويكتبونها بصورة مرضية ، ولكن كثيرا منهم عاجزون عن الخلق بواسطتها ، كما ان عددا من بينهم يترطن فى حياته اليومية " بفر نسبة - عربية " تنم عن فساد ذوق ، فلنصدع بها جلية اذن : ان اللغة الفرنسية هي اليوم مسيطرة واسعة الحضور رغم انها على هامش الثقافة القومية التى هى أساسا عربية اسلامية ومتوسطية ، وبإمكان هذه الظاهرة ان تكون ايجابية طالما لم تخنق اصالتنا ولم تتعرض لغتنا القومية بسببها الى المنافسة والاستصغار

ولكن اذا تجسم هذا الحضور - كما يخشى او ٠٠ يؤمل البعض - فى نهاية يضع عشريات فى انتقال السكان تدريجيا وبدون شعور الى اللغة الفرنسية عن طريق ظاهرة التغطيس ) submersion ) كما يسميها الاخصائيون ، التى قد تكون شبهة بما جرى فى بلاد الغال ( La Gaule منذ الفى عام  واذا نزلت العربية الى مستوى لغة فلكلورية قد تجاوزها الزمن ، واذا احست الاجيال الصاعدة بان اللغة الفرنسية اصبحت منافسة للغة القومية التى هى وطننا العقلى والوحداني أو هي كما يقول عنها " هدفير " مسكن الكيان " والتى بها يتفاهم العرب من المحيط الى الخليج وبأسبابها يتواصلون ، اذ ذاك يظهر شعور بالحرمان والكبت وبنطلق من أعماق الجماهير احساس اساسه الدفاع الذاتى ويتراءى فى الافق رد فعل قوامه كره الاجانب وبذلك نكون قد سرنا نحو الهاوية من حيث اردنا المبالغة فى تأكيد " التفتح اللغوى "

واجتنابا لهذه القطيعة المتمثلة فى الانتكاسات التى يعطينا عنها التاريخ اكثر من مثال سخرت جهودى - فى موضع المسؤولية الذى انا فيه - مع عدد كبير من البيداغوجيين والمثقفين قصد تعزيز لغتنا وانجاز التعريب التدريجى للعلوم الانسانية فى مراحل التعليم - الابتدائى والثانوى والعالى - مع العمل على تحسين مستوى اللغة الفرنسية باعتبارها لغة اجنبية ووصفها اداة ناجعة فى ايدى الاجيال الصاعدة تساعدهم على معانقة عصرهم

واود ان اطمئن بعض المتخوفين وأوضح ان التعريب ليس مرادفا للتقهقر من حيث المحتوى مثلما ان الخصوصية ليست بالضرورة محافظه وتقوقع . ان بعضهم ، عن جهل او عن سوء نية ، لا يحجم عن التعبير عن خشيته من الرجوع الى القرون الوسطى والجمود والتحجر كلما سمع بتعريب الفلسفة او التاريخ وانا لا ارد هنا على المنبتين والمستلبين ثقافيا ، بل اريد ان اهدىء من روع ذوى النية الحسنة الذين يلاقون صعوبات فى تهدئة مخاوفهم من ان يتسم التعليم بطابع " القروسية " نتيجة للتعريب

ان اللغة العربية التى يتكلمها اكثر من مائة واربعين مليون عربى ، والتى تنقل تراثا حضاريا عربيا اسلاميا يمتد على مدى 14 قرنا ، والتى اعترفت بها كلغة رسمية وكلغة عمل منظمة الامم المتحدة واهم المنظمات الدولية هى قادرة مثل كل اللغات الحية على التعبير عن كل المفاهيم والدقائق وعلى تبليغ كل المعارف ، إذا ما قدر مستعملوها على اتقانها وارادوا ذلك . انها تنتعش وتثرى وتماشى العصر بفضل ما يبلغه الناطقون بها من مستوى ثقافى وملكات خلاقة وبفضل قدرتهم على جعلها لغتهم الناقلة للعلوم والمعارف

ذلك انه عندما يدرس استاذ تونسى فى سنة 1977 مادة التاريخ او الفلسفة بالعربية ، فانه لا يعتمد فى تعليمه هذا على الكتب التى اصفرت على مدى العصور ، بل انه يحرص على نقل المعارف وافكار عصره بأكثر ما يمكن من الايجابية ، على غرار زملائه بأروبا وبأمريكا أو بآسيا ، الذين يباشرون التعليم بلغاتهم القومية . ولكى تطمئن القلوب فى هذا المجال فان مجرد الاطلاع على البرامج الرسمية الجديدة لوزارة التربية القومية يكون كافيا شافيا ، ثم ان الاساتذة التونسيين الذين يتولون اليوم تدريس الفلسفة او التاريخ ، هم ولاتك الذين كانوا يدرسون هاتين المادتين بالفرنسية

ان اللغة الفرنسية التى يتواصل تدريسها فى المرحلة الثانية من مدارسنا الابتدائية وفى معاهدنا الثانوية ، وبالطبع في معاهدنا العليا ينبغي ان تمكننا من ان نكون دائما فى حالة تفاعل واتصال مع العالم الخارجى ، فهي اداة مساعدة روسيلة احتكاك بالواقع المعاصر وبمشاكل عصرنا .

كيف يمكن تحقيق هذه الاهداف فى برامجنا ؟ كيف نكون الشاب بطريقة تمكنه من اتقان العربية وممارسة الخلق فى نطاقها مع التضلع في اللغة الفرنسية . باعتبارها لغة وظيفة ؟ ذلك هو المشكل وذلك هو ايضا التحدى البيداغوجى الذى فرضناه على انفسنا والذى نامل ان نكسيه بمساعدة كافة المدرسين التونسيين وكذلك باعانة اصدقائنا من غير التونسين . ولئن كان هذا الهدف صعب المنال ، فانه ليس خارجا عن طوقنا .

بيد أنه ينبغى ان نكون صرحاء وألا نتجاهل العراقيل ، فهناك اتجاهان يقفان عرضة أمام نظرنا هذه وطريقة عملنا ، ومن الضرورى التعرف اليهما للتخلص من تأثير التفكير التبسيطى الساذج الذي ينبعان منه

هناك اولا السلفيون أولئك الذين ينظرون الى عالم اليوم من خلال مرآة الماضي المشوهة ويبلغ بهم الامر الى الدعوة الى الانطواء على الذات باسم الرجوع الى المنابع . ومن البديهى ان هؤلاء الناس لا يستطيعون مواجهة الحاضر فضلا عن مواجهة المستقبل . ثم هناك ادعياء التعصر الذين يندهشون اعجابا امام كل ما يأتي من الضفة الشمالية للبحر المتوسط ، فيقتصرون على محاكاة الاجانب وينزعون شخصيتهم عن طيبة خاطر ليظهروا بمظهر المتطورين ، شأنهم شان الاجلاف الذين يسعون الى الظهور بمظهر المتنبلين . وهؤلاء هم الذين يؤكدون بوثوق كبير ان العربية لغة ميتة كاللاطينية وان الفرنسية هى وحدها التى تضمن

المعمرين السابقين والاستعماريين الذين لم يهضموا استقلال تونس والاقطار التى استرجعت سيادتها حديثا ويتكهنون بنهاية الثقافة الفرنسية فى هذه البلدان كلما وضعت سياسة التعريب اى سياسة التأصيل التربوى موضع التنفيذ .

ان هذا يذكرني بسلوك غلاة الاستعماريين قبل الاستقلال الذين اشرت اليهم فى مستهل حديثي ، وسلوك اصدقائهم " التونسيين " الذين باعوا انفسهم للشطان وهي يتنافسون فى الانبطاح . لقد كان بورقيه فى نظرهم عدوا لفرنسا ، اذ هو بكافح من اجل استقلال بلاده ، ذلك الاستقلال الذى كان بالنسبة اليه ، شرطا ضروريا لاقامة روابط صداقة وتعاون دائماين بين البلدين . كان هؤلاء الغلاة يعدون من بين الاصدقاء ، كل التونسيين الذين يحنون ظهورهم امامهم ، عن جبن او انتهازية ، ويتسابقون للحصول من اسيادهم على شهادة رضا بخصوص ولائهم " للوطن الام " . ولقد بين تاريخ تونس المستقلة من هم اصدقاء فرنسا الحقيقيون وأقام الدليل من جديد على أن حب الوطن هو وحده الذي يخول لنا إرساء أسس المحبة الحق التى يمكن ان نكنها لامم صديقة اخرى . اما " الحركى " ) 1 ( الذين هم فى خدمة المستعمر ، أولئك الذين لا يتعزون عن أفول الازمنة الاستعمارية ، فانهم ما زالوا يشكلون عبثا ثقبلا برريك اسيادهم ويحرجهم . واذا كان لمقاومة التعريب فى اقطار المغرب العربي " حركيوها " - وهذه ظاهرة يمكن فهمها باعتبار ان كل جسم بشرى او احتماعي يحمل معه طفيلياته - فانه من المؤسف ان نلاحظ ان الذين يحنون إلى عهد الحماية مازالوا يخلطون بين التعريب وانقراض الفرنسية بين الاصالة والتاخر ، فلا عجب اذن ان يعتبروا هؤلاء الانصار الحقيقيين يتعاون ثقافى تونسي فرنسى سليم ودائم اعداء للثقافة الفرنسية وحتى لفرنسيا ذاتها . وسبتكفل الزمن بفتح بصيرة كل الذين لا يرون الا اللحظة التى هم فيها .

ونحن فيما يخصنا ، لا نزال نعتقد ان تلقين كافة المواد بالعربية اثر الانتهاء من عملية التعريب التدريجي المنظم بقدر ما هو واقعى ، لا يتضارب مع دعم اللغة الفرنسية فى مدارسنا كلغة حية

نحن نعتقد ولا نزال على اعتقادنا ان اللغة العربية اداة وظيفية لاكتساب المعرفة واعمال العقل والتعبير عن مكنوناته وتبليغ ثمار الفكر العميق وهي الى ذلك اداة لنقل العواطف والمشاعر والاحلام والحماس البشرى . واذا كانت اللغة العربية طوال عصور افول العالم العربى وعهود الاستعمار الذى جمد لتقافات القومية قد نقلت الاتباعية والجمود الفكرى ، واذا كانت في زمن ما قد اكتظت فعلا بالمحسنات البديعية والتحذلق والتفيهق شأنها شأن كثير من اللغات الاخرى ، فانه من قبيل الخطا والاجحاف ان ننسى انها نقلت ايضا طوال قرون عديدة ، العقلانية وانها كانت لغة علمية رصينة دقيقة ومعبرة . لذا فان الامر يتوقف علينا ، نحن الاساتذة والمربين والعلماء والمبدعين والسياسيين والاقتصاديين والموظفين والمتصرفين . . لنعطيها ، بل لنعيد لها وظيفتها البيداغوجية ، ونرتفع بها الى مستوى الاداة العصرية الوظيفية القادرة على العمل والخلق ولنشحنها ايضا بالمثل العليا ، اى ان نوكل اليها مهمة الافصاح عن مشروع مجتمع جديد

اننا نريد ان تتفهموا موقفنا : ان اللغة العربية ليست فى نظرنا مجرد صدى لاحساسنا بتاريخنا ولا مجرد تعبير خاص عن كينونتنا الجماعية ، انها ايضا وبدون شك اداة عمل ناجعة او أننا آلينا على انفسنا ان نظفر بذواتنا من خلالها فى الزمان والمكان وان نسيطر عليها وان نطهرها من انساقها السطحية المتكلفة وان نعيد اليها مهمتها العلمية المضادة للجهالة ، حتى نكون على حقيقتنا وحتى نحافظ ونصون ذاتيتنا الثقافية

ولكننا لا نفتا نفكر ايضا ، وفى الاعادة افادة ، ان اللغة الفرنسية مساعد ضرورى ، وانه لا غنى لنا عنها فى الوصول مباشرة الى الببليوغرافات وفي تسهيل الاتصال بالخارج وفى تنويع مصادر الاعلام . وفي هذا السياق فان اللغة الانكليزية ايضا ينبغى ان تدرس وان تقرأ من قبل تلاميذنا واطاراتنا

كل هذا يجب ان يحثنا على تحسس الصداقة الفرنسية على صعيد الثقافة كصداقة بين ثقافتين متماثلتين فى القيمة متكاملتين تحققان فيما بينهما نوعا من التراشح المخصب وليس ثمة خارج هذا الاختيار الا الماضي المخنق المعقم او ابتلاع الاقوى للاضعف ، مع ما يتضمنه ذلك من عواقب سيئة تنذر بانتفاضات وارتجاعات مفاجئة . وعبثا يحاول السحرة الماكرون - محليين كانوا أم مستوردين - الاستيلاء على لغتنا القومية وعلى ذاتيتنا الثقافية فالواقع يسفه مسعاهم ، وان حكم التاريخ سيكون صارما .

ان كل تعايش لا يتم على اساس العدالة ، والوفاق الحر واحترام ذاتية الآخر انما يحمل فى باطنه بذور انحلاله وسرطان انقراضه وكذلك الشان بالنسبة لكل تعاون ثقافى لا يقرأ حسابا لتاريخ الشعوب الذين تشبعوا بالنزعة الانسانية واعتقد ان الفلاسفة الفرنسيين والبيداغوجيين الحقيقيين وكذلك رجال الثقافة الاحرار يفرنسا واوروبا يبذلون الجهد الكفيل باعانتنا على ان نكون على حقيقتنا وعلى ان نطالب بحقنا فى الاحتفاظ بما يفرق بيننا وبين الاخرين وفي انماء خصوصيتنا اذ بدون ذلك نكون نسخا مطابقه للاصل مقلدين للتافه من الامور وعلى وشك ان نموت اختناقا من جراء هذا " الاحتضان " الثقافي مهما كان مثاليا " واخويا . وبدون ذلك ايضا يتعذر علينا ان نكون اطرافا اكفاء إذ لا يكون عندنا ما نقول وما نعطي وما نبلغ . ان حجة النجاعة مثل حجة والسلطة ، لم تكن ابدا مشروعة ، خاصة عندما نتحدث عن الثقافة وغاية ما في الامر انها اضاعت الامل خلال القرون ، واطلقت العنان للمهانة

ان الدفاع عن ثقافتنا القومية بابعادها العربية الاسلامية ، والحوار الصادق البناء الذي ننادى به مع الثقافة الفرنسية وبوجه اعم مع الثقافة الغربية - وكذلك مع الثقافات الاخرى - علاوة على مظهره المساعد المثرى بالنسبة الينا ، يمكن ان يفيد الغرب ايضا رغما عن الفوارق الاقتصادية والتكنولوجية

اني لشديد الانتباه لما ينشر باوروبا وخاصة للدراسات الخاصة بمشاكل الحضارة . ولقد قرات عددا من المؤلفات والفصول للسيدين موريس دريون وروبير مالى " اللذين استشهد بهما لحضورهما معنا . ولاحظت ما يعبران عنه في مؤلفاتهما من حيرة بل ومن شعور بالضيق . ولقد خص " ريمون ارون " هذه الظاهرة بصفحات رائعة . كما ان " مالرو " لم ينفك يحلل حتى الممات ما سماه بازمة الحضارة الغربية ، وان من بين الاستفهامات الممضة التى انطوى عليها كتابه الاخير ) الانسان العابر والادب ( ما يتعلق بمعرفة هل ان الغرب المصنع ما زال قادرا على افراز حكمة جديدة .

وبعد مرور خمسة وعشرين قرنا على موت افلاطون يتساءل اليوم عدد كبير من كبار المفكرين بلهجة واخزة إلى ابعد حدود الوخز ، عن السعادة ومعنى الجهد . انهم يتساءلون عما إذا كان النمو الاقتصادى يضمن بمفرده نشر السعادة والسلام بين البشر

وبدون ان ندعى كما يفعل عدد من الغربيين انفسهم ان العالم الغربى مقلوب راسا على عقب ، فضلا عن كوننا لا نستطيع ارجاعه الى نصابه ، فانه ليس من قبيل الادعاء ان نؤكد ان الشرق وان العالم العربي الاسلامى وان تونس بوسعها ان تساهم رفقة الشعوب الغربية فى تحريك العزائم ، وتأتى بما يشهد بطراوتها وان توجد لغة جديدة بامكانها ان تفضى الى حوار حقيقي بين الثقافات وتيسر تآلف الافكار

اذا كنا جميعا بفضل قيمنا الروحية المشتركة واحساسنا الموحد بمعنى المغامرة الانسانية على اقتناع بان حضارتنا ، خلافا لتأكيدات " لانك " وغيره من المفكرين والاطباء النفسانيين العديدين ، ليست ضربا من ضروب الاسر ففي اى اطار وبأية لغة وكيف نرد الفعل ونناضل من اجل ان لا يكون الجسم سجنا والعمل عبودية والمجتمع اداة استلاب ؟ كيف نحرر الانسان ونتيجة لكل فرد ان " يرتاح الى نفسه " ، ان يعيش حياته ، ان يتفتح ، ان يتجاوب مع الاخرين فى كوكبنا الذى يعتبره بعضهم " صخرة قردة " عظيمة ؟ كيف نخلص المواطنين من " مسالك الخردة المصهورة " التى اصبحت عليها شوارع المدن الكبيرة ؛ وهل من امل فى خلاص العمال مما قدر لهم من مد وجزر بين مكان الشغل وحافلات النقل والنوم ؟ اية ثورة ثقافية ينبغى القيام بها لمكافحة الالية التى فرضها التصنيع حتى لا يؤول العمل الى " استفراغ الدماغ " والقضاء بل الانسان ؟ كيف العمل لمكافحة نزعة القطيع فى الاقتداء بالموضات والنزول بالثقافة الى مستوى الأشياء ، ومكافحة العنف والمخدرات والانتحار وهي ظواهر تشهد اليوم انتشارا مقلقا فى الاقطار الثرية على الاخص ؟ كيف نتجنب خطر تقليص الفكر ، وخطر حضارة مضادة يكون فيها شطط العقلانية القاسية والايجابية المؤدية إلى التشاكل - غامرا اكثر فاكثر لنشيد الرقة والفن والايمان والحرية والحساسية والخيال والحب القادرة كلها على خلق المستقبل واختراعه واعادة استنباط الحياة . . .

ان الامر يتعلق بمشاكل حقيقية ارتبطت بطبيعة الانسان او فرضها ضرب من النمو . ولسنا فى تونس وفي العالم العربى عنها بمنجى ولكننا قادرون اذا وحدنا الصفوف على ان نتصالح مع انفسنا وان نواصل التقدم بالتنقيص من مصادر الضرر وبالعمل من اجل اقرار السلام والسعادة فى العالم

بيد انه ، ولا غنى لنا عن التكرار ، لا يمكن القيام باى عمل جدى اذا ما استمرت ، ولو بشكل محتشم متستر ، الهيمنة الثقافية او حتى نية الهيمنة الثقافية . ولا نجاة لنا بدون اعتراف متبادل بفوارقنا الثقافية .

وخوفا من الظهور يمظهر من يمنع الصداقة من ان تتمتن اذ لا صداقة صحيحة دائمة الا يرسوخها وانطلاقها من ارادة الجماهير الشعبية ، فانى لا اتردد مؤكدا بان المصاعب ما تزال مائلة مع الاسف ومعرقلة لقيام الحوار الغربى الشرقى وان جهلا بين الغرب والشرق ما يزال موجودا لاسباب تاريخية يدركها الجامعيون وكبار المثقفين حق الادراك ، فهناك التباسات خطيرة لم تتم ازالتها بعد بحيث يبدو الحوار الذى يتشدق به بعضهم سطحيا . ان " البترودولارات تدفع كثيرا نحو الحوار في بعض العواصم . ولكن الوجدان منعدم فى كل ذلك والنية ليست لوجه الله دائما

ان العديد من " المهذيبن " الذين يتنافسون فى الافصاح عن تفهم - جاء متأخرا . - للعروبة والاسلام ، قصد استرجاع بكارتهم التاريخية يثيرون الحذر قبل اى شئ آخر . وحتى ذوو العزائم الطيبة ، اعنى المسؤولين السياسيين او الثقافيين الصادق يقف امامهم هذا والحجاب " التاريخي وهذا التكييف الثقافي اللذان صنعتهما القرون العديدة وراحا يفسدان تصور كل طرف للطرف الاخر . ان الاحكام المسبتة تحول دون الحكم الصحيح

فلقد مضى عدد من المستشرقين والمؤرخين والموسوعيين منذ قرون يصورون العرب والمسلمين فى صورة مشوهة ويعطون عنهم فكرة مبتورة مجحفة ، فاثروا بذلك فى كثير من الاجيال فى الغرب ، وجعلوا هذا الاحتقار مشروعا واباحوا الاستعمار وحروب " التهدئة وبرروا كل الاعمال التى اضطلع بها المبشرون والمأجورون والمعمرون من اجل " اسعاد " الاهالي رغما عنهم . ذلك ان صلف اليقين بتفوق الرجل الابيض مريح للضمير

وأسوق لكم على سبيل المثال بعض ما كانت تقوله الموسوعات الالمانية عن بلادى

فقد القى مؤخرا بتونس السيد " رينر ريمنشنيدر " ، وهو مؤرخ المانى محاضرة رائعة من حيث الصراحة والشجاعة بعنوان " شؤون وملذات . تونس فى الموسوعات الالمانية الصادرة من القرن الثامن عشر الى القرن العشرين "

انكم تعلمون جيد العلم ، وانتم من انتم علما ومعرفة ، ان الموسوعات ليست جرائد تعتمد الاثارة او مجرد خزانات للمعارف ، بل هى على غرار موسوعة دالمبير " و " ديدرو وسيلة لتكوين الاراء يستقى منها الطلبة والباحثون

المعارف بكامل الثقة اذ تعتبر بمثابة كتب علمية ومراجع ثابتة . وفى هذه الموسوعات الالمانية تقرأ فصولا عن العرب والتونسيين والبربر تتناول بالحديث مدينة تونس دون الاشارة الى البلاد التونسية اذ لا وجود عند هؤلاء لامة ولا لسكان متجانسين ونجد فيها تمييزا بين البربر والعرب والاتراك واليهود الذين يمثلون تكتلات وفسيفساء من الاجناس ، وحذار ان يتبادر للاذهان انه يوجد شعب واحد منصهر العناصر ! . .

وفيما يلى امثلة من الاحكام على مختلف العناصر المتساكنة بتونس فى القرن الثامن عشر مأخوذة من موسوعة " بروكهوس " الصادرة سنة 1818 ) الجرء 1- ص 8 -59 ) فصل " البربر " تقول : البربر متوحشون ، اشداء ، ذوو هيبة ورشاقة ، يتمتعون بقوة بدنية كبرى ويتحملون الجوع وكل اشكال الحرمان بسهولة . ولكنهم يكرمون الضيف ويتجول المسافر فى امان طالما كان تحت حمايتهم ، وهم لايطيعون ملوكهم الا نظريا لفرط تمسكهم بحريتهم ويحاربون الجنود المكلفين بجمع الضرائب

أما العرب فهم " الشعب الاكثر عددا من بين شعوب افريقيا الشمالية ، وينقسمون هم ايضا الى صنفين : المغاربة سكان المدن ، والبدو وهم من الرحل الساكنين تحت الخيام . وهؤلاء هي احفاد المسلمين ، فارعو القامة ، اشداء ذوو قسمات وسيمة حية وعيون واسعة سود ، وابصار حادة ، وانوف معقوفة شيئا ما وأسنان منتظمة بيض كالعاج ولحى كئة وشعور سوداء " وتلاحظ الموسوعة انهم يبغضون النصارى ولكنهم اقل مكرا وغشا من البربر أما المغاربة " فتصفهم بانهم " حساد لا يؤمن لهم جانب قليلو المعاشرة ، منافقون قساة ، لا يعرفون حبا ولا صداقة ، بالإضافة الى انهم كسالى عاطلون الى درجة انهم يجلسون طوال ايام ، الى الحائط متربعين وهم ينظرون الى المارة فى صمت كامل " . ويضيف فصل الموسوعة " لم يعد من اثر لتلك الثقافة الفكرية التى سموا اليها فى ظل حكم افضل فى اسبانيا خلال القرون الوسطى . وهم يتطيرون الى اقصى حد ، وان مجرد امتلاك كتاب يعد فى نظرهم جريمة . ان المغربي " لا يضحك مطلقا فهو جدى ومكبوت على ما يبدو ، يمسح على لحيته ولا تبدر عنه علامة فضول او حياة ، واكبر متعة لديه هي الذهاب الى الحمام وترشف القهوة والاستماع الى الحكايات "

ثم نأتى الى الصنفين الاخرين ، اليهود والاتراك " الذين هم حسب موسوعة بروكهوس ، لصوص من اسوء الانواع وخلاصة الاجرام الدولى قد حولوا البلد

الى مسرح للجريمة والبؤس وجعلوا منه وكرا حقيقيا للقتلة . وقد تسببوا فى ما اصاب الحضارة من أفول عام اذ نظموا اللصوصية والاتجار بالبشر وقد باؤوا بكراهية السكان الاصليين الذين يعانون من جبروتهم "

تلك اذن بضعة أحكام استقيناها من هذه الموسوعات التى تنعت بالعلمية ، التى اثرت في كثير من احبال المدرسين والمثقفين الاوروبيين . وبما انه ينبغي ان نشرب الكاس حتى الثمالة ، لنذكر ايضا ان موسوعة " زدلر " ) ج 45 - سنة ٧٤٦ فصل . تونس ( قد اصدرت بخصوص المرأة التونسية احكاما لا يقبلها العقل ولا يمكن حملها حتى على سبيل الفكاهة . تظهر موسوعة " زدلر " اذن مدينة تونس " مركبرة للشهوات وتصف عادات النساء الموسرات عند استحمامهن فى البحر وكذلك الشوارع التى تعبق فيها العطور المنعشة عندما يعرض صحاب الحوانبت منتوحاتهم فى المساء . يضاف الى ذلك اريح اكليل الجبل الاصماغ و نباتات عطرة اخرى تحرق فى كل المواقد فتطهر كالبخور ، الهواء العفن المغني المنبعث من القنال الذى يخترق مدينة تونس " . وتمتدح موسوعة زدلر كثيرا خصائص " اللازيس " (lasis) ما وهو منشط جنسى يثير شهوة الرجال ، وتؤكد انه " من اجل ذلك تطعمهم نساء تونس اياه فى الكثير من الاحبان ثم تشرح مفعول هذا المنشط كما يلى : " انه طعام يعد فى تونس اسمه الازي يمكن ان نسميه ايضا " لاش " ) حشيش ؟ ( عن الكلمة الالمانية ( Lachen ) بمعنى ضحك اذ ان الذى يتناوله باخذ فى الضحك بصورة غير  عادية وينهمك في المزاح ، ويثير ذلك فيه شهية للاكل بحيث انه ياكل اكثر مما ياكله ثلاثة اشخاص مجتمعين وفوق ذلك فان " الحشش " يحرك الجنس لذلك تقدمه النساء للرجال

ولكن موسوعة " زدلر " تنبه قراءها : " المرأة في تونس مصابة الى حد كبير بالامراض التناسلية " ويعلق الاستاذ " رينر ريمنشنيدر " على ذلك بقوله : لا ينبغي استنقاص اهمية مفعول هذا الخبر على القارىء فى عصر لم تظهر فيه البنيسيلين بعد ، وتحتل فيه علامة الفة ومداها وسلسلة الفصول عن مختلف الامراض التناسلية واعراضها والاجراءات الوقائية ووسائل العلاج وطرقه اكثر من 100 صفحة فى موسوعة " زدلر " (  46-1745ج )

تلك أمثلة بسيطة وانها لكثيرة بلا ريب فى عديد من البلدان الاخرى وهى تشرح انماطا من السلوك لم تزل قائمة الى اليوم ، اذ يفتتن الكثير بما هو غريب عنه وبالرشاقة الفلكورية لدى الاهالى ، كما يلحون فى ابراز طيبتهم

وتلقائيتهم وحتى كرمهم ، ثم يمرون الى الامور الجدية اذ انهم راسخون فى عاداتهم الفكرية وفى شعورهم المريح بتفوقهم وبصفاء الضمير

استخلص شخصيا من هذا ما يلى : ان مهمتنا التربوية وان نضالنا من اجل ثقافة انسانية الاتجاه وان عملنا من اجل اقرار الصداقة والسلام بين البشر لا تبلغ الهدف ما لم نتفق جميعا فى تحليل الاحداث والاحكام المسبقة والاوليات التى تميز العلاقات الحالية بين الشرق والغرب وما لم تكن لنا العزيمة الراسخة لتغيير الوضع باجتثاث اسبابه العميقة . ومن جملة الاعمال الواحب القيام بها اضع فى المقام الاول مراجعة برامج التعليم ليس فى العالم الثالث فقط بل بالخصوص فى الاقطار الغربية ، وخاصة برامج التاريخ الذي يتعين اعادة كتابته وينبغى ايضا مراجعة الموسوعات وازالة ما فيها من طعوم العنصرية والجهل وهذا عمل عظيم يتطلب طول النفس من اجل ارساء صداقة دائمة بين البشر على قواعد قوية .

وهناك ايضا خطر اود شخصيا الاشارة اليه وهو يتراءى لى من خلال عدد الفصول يكتبها مثقفون اكفاء يعترفون اليوم بضرورة فتح حوار بين الشمال والجنوب ويؤمنون فى صدق بتكامل الثقافات ولكن خضوعهم لضرب من التاريخ وتكيفهم به جعلاهم يتصورون انه لا بد لهم ان ينسبوا الى كل حضارة سمة واختصاصا مميزا . وهكذا يميز " هنرى دى لا باستيد " اربع حضارات عالمية كبرى ، واشد من ذلك سوءا انه يعين لكل منها قيمة خاصة : الفكر لاوروبا . والكلمة للعالم العربى ، والرمز للصين والبابان والايقاع لافريقيا ( انظر جريدة " لوموند " 7 نوفمبر 1975 . ألا ان كل هذا مغاير للحقيقة وخطير

فالناس متساوون ولهم نفس القدرة على اكتساب نفس القيم وعلى الانصهار فيها .

ان الشعر والموسيقى والفلسفة والعلم ليست وقفا على شعب دون آخر والتاريخ هو الذي يكيف الناس ويشرح التاخر الفني او العلمي لدى هذا الشعب او ذاك . فالتاكيد بان الفكر من خصائص الاوروبيين وان الافارقة ليسوا موهوبين الا فى " التام تام tam tam مجحف صادم . وهذا الاروبى " موريس بيجار " الخبير فى الايقاع والعارف . . للحكاية ، قد اتى بتكذيب دامغ لهذه التأكيدات التى لا تستند الى اصل

يقول " بيجار " ليس الطفل الغربي باقل استعدادا للرقص من طفل افريقي او هندى . ليس ثمة مواهب عرقية . يقال مثلا : " ان الايقاع يجرى فى دم الزنوج . انها للحماقة الكبرى ، فالايقاع ثقافة تكتسب ، ولقد قمت بتجربة فى هذا المحال خلال تربص مع جماعة من الهواة من بين الذكور والانات من مختلف الحرف ولم يمارسوا الرقص بتاتا . وكان من بينهم زنجى من الكنغو ولكنه ولد فى بلحبكا وتلقى تربيته كبلجيكى متوسط . ولقد ابدى هذا الزنجى خلوا من الايقاع لا يصدق . اذ كان اقل المشاركين استعدادا للرقص مما اثار استغراب الجميع : ماذا حرى ؟ هل مو مصاب بعاهة ؟ لم لا يرقص كبقية الزنوج ؟

وانها لفكرة عنصرية تلك التى تذهب الى الاعتقاد والقول بان الزنوج يمتازون بكذا والبيض بكذا . . هذا غير صحيح . وانا مقتنع واعلم جيد العلم بان الاجناس كلها متساوية وليس هناك الا فوارق ثقافية . فالزنجى الذى يعيش فى وسط زنجي يسمع فور ميلاده " التام تام " وحين يبلغ الرابعة او الخامسة من العمر يجرى الايقاع فى عروقه أما إذا سمع موسيقى إذاعة بلجيكا فانه يشبه عندما تكون فى الخامسة اى طفل بلجيكى . وبنفس الطريقة اذا تربى طفل ابيض فى اطار ايقاعي فان الايقاع يصبح جزءا من كيانه "

ان الاستعمار والعنصرية والامبريالالية الايدولوجية ، بالخصوص ، ليست غريبة عن استلاب الشعوب التى تنعت بالمتخلفة وعن تجمد مثقفيها . لكن الرجال هي الذين يصنعون التاريخ وهم الذين يحررون فى اخر الامر انفسهم ويحررون طاقات الخلق والابداع فيهم

تلك هي جملة من الخواطر اوحى الى بها موضوع هذا الملتقي . و آمل ان اكون قد اسهمت في شق الطريق نحو تعاون سليم بين بلدينا ، نحو فتح حوار حقيقي بين الشرق والغرب يقع تصوره فى اطار مصيرية التاريخ ، بعيدا عن كل الاعراض او الاعتبارات المصلحية العاجلة ، اذ ينبغى ان تكون لنا رؤية مستقبلية وفكرة واضحة عن العلاقات التى ينبغى ان تسير العالم وان لا تتردد في التشهير بكل الخلافات المبنية على سوء التفاهم وبذور الحقد والبغضاء ان رائدنا فى كل ما نقوم به من عمل يجب ان يقوم على الحفاظ على كرامة كلا منا والحرص على تساوينا في الاسهام بقسط متعادل فى تراث الانسانية المشترك .

كان العبور شهيا وكنت الجرىء أجىء متى شئت

هذا أوان الدخول إلى ساحة المعجزات

وهذا زمان الهبوط إلى الفوق والارتقاء إلى التنحت والإلتفات إلى

الخلف ، هل أضحك الآن منك عليك أيا امرأة أفرغتني وللمرة الألف

مافهمتنى ؟

2 - أدخن سقارة التشفى الأخيرة واجهش بالبكاء

زارني الحلم فأجهزت على مملكة العقم

وراسلت دمي الواقف كالجندى فى ساحة قلبي مستعدا للصهيل

وتمطت في عروقي الرغبات . النسمات

والسلحفاة تكون عادة سباقة بالوهم

لكن أربع المطر الزائر دب فى الخياشيم فكانت للسلحفاة

مسافات من العشق الجميل

في السلحفاة رأيت الأجنحة

في السلحفاة اكتشفت المذبحه

وتجيء ساعة الرجم

من الشارع والشارع يا مولاى مقهى للصعاليك

وأرض خصبة للفقراء

وأنا ألقيت صوتي في صحاري الغرباء

ونشرت كل أحزاني على حبل الغسيل

أيها السادة : كل الاشقياء هنؤوني بوفاتى

ميتا كنت وكانت جثتى لافتة فى الشارع الخلفى

والساعة فى الصف الأمامي

تدق

وتدق

وتدق

وأنا أغرق فى طمى العرق

بضجيجى المتبقى فى رفاتى

يا أخى ! هل اكتفى بالصمت ام اضحك حتى يخرج الإنسان فوارا من الموت

- الجليد ؟

ها أنا أنهض من موتى

وأرمى فى عميق الحزن صنارة صوتى

لاصطياد الضوء والحوت الذي يحيا ويجرى

خارج البحر ، واللحن الذي يظهر بالوجه الجديد

فأنا زيتونة يسرح فى أغصانها ماء ودم

وشعارى أن أقول للظلام : لا وللضوء : نعم

3-١+١ هي + وجهي = الحزن الأصيل

أختفى فيك أيا حمالة الهم وفيك يختفى حزن العصافير

ولا أدرى ، أيخشى سارق الورد صهيل الضوء

أم يرحل كالعادة فى حافظة النوء

صدى رعد يدق الجرح تلو الجرح كى نرقص بالرعب على جسر

المسامير ؟

وآه ! هذا ضجيج الفيضان يمتطى النار ويأتي

ويدور دورتين حول بيتي

ثم من حيث أتى يرجع بالخيبة لا يلوى على علة موتى

وأقول للغرانيق

هو الجوع تعشى بمصارينى

ولا أعلم بالضبط متى يبدأ تشييع الرماد ؟

وأقول لصبايا قريتى

منكن جاء الفرح الخائر ، والدمعة في أعينكن :

هرم أسكنه حين يقض مضجعي طيف السكاكين

فهل أغرب عنكن

وفيكن اختفى الحلم الجنيني ومنكن :

تدلى وجع المنجل في فصل الحصاد ؟

أختفى فيك أيا حمالة الهم وفيك يختفى حزنى الأصيل

فكلانا يعشق الدرب الطويل

وكلانا عاشق طعم الرحيل

وسوف نظل فى كل المحطات

قطارا دائم الحلم ، تناديه المسافات

اشترك في نشرتنا البريدية