هناك فى ذلك المكان الوهمى على تلك الربوة الصغيرة القائمة فى الفضاء المتسع الذى لا يحد أطرافه سوى دائرة الافق الفسيحة . بنية خيالية يغمرها الهدوء وتحف بها الروعة ويشمل جنبانها السكون ، الأمن صوت ضعيف ينبعث من الكوة التى انفرج عنها حائط البنية . فكانت كالفم الغاغر فكيه لالتهام كل من يدنو منها . فاذا ما اقتربت متفهما ما يحمله اليك ذلك الصوت الضعيف من حديث لعله يكون صالحا لأن تتخذ منه مادة للكتابة بدالك فى نبراته المستعصية ما يدلك على أن قائله قد أمعن فى الشيخوخة والهرم . فاذا ما دفعك حب الفضول أو التطلع لأدخال رأسك فى الكوة لترى من ذا عساه ان يكون المتكلم رأيت غرفة متسعة ، ولكنها لا يجمع من الأنث سوى شملة من صوف ومقاعد من ادم ومائدة من خشب عليها آنية من خزف . وبضعة كتب قد صفت على منضدة موضوعة فى احد أركان الغرفة . ووجدت فى الغرفة سريراً من قضبان قد استوى عليه شيخ تدلك هيئته على انه ناهز الثمانين - وبلغتها له لحية بيضاء مستديرة كانها هالة نورانية . أحاطت بوجه لولا ما ينبعث من عينيه من بريق لظننته قمراً كاسفا يعنوه رأس ضخم لا يميزه عن قنة حراء سوى لمة بيضاء مبعثرة أشبه ما تكون بنبت " القبا " يحمل كل ذلك عنق هزيل يتشكى بارتعاشه عن نوئه بحمله نتأ هذا العنق من بين ملابس فضفاضة تستر فى ثناياها بقية جسم اذوته الايام وقد جلست أمامه امرأة وقور تلتفع بملاءة بيضاء ناصعة . لا يبين منها غير وجه عليه لألاء من نور وفى جبهتها أثر السجود علامة التقوى وشعار
الصلاح . يمثل لك مرآها ما يجب ان تكون عليه المرأة الحجازية من تعقر ورزانة وحشمة ووقار - وهكذا هى المرأة المحاربة كما يراها المخلصون من المصلحين - ولذلك يودون لو انها تلقى دروس الحشمة والحياء على بنات جنسها فى الأقطار الاسلامية التى دهمتها المدنية الغربية بفجائعها يتوسط هذا الشيخ اثمانى وتلك المرأة الوقور فتى وسيم الملامح بهي الطلعة عليه مخايل النجابة والنشاط فى لباس ينسجم وعروبته ويلتئم وحجازيته وبجانبه فتاة ذات لون أزهر وقد مسمهر وطرف احور وقد وقفت مطرقة فكانت فى ذيها المحتشم كالألف المنتصبة أو كالغصن المستقيم . فاذا ما ارهفت سمعك الى ما يتفوه به الشيخ سمعته يقول فى صوت خافت وانفاس متقطعه :
اي بنى : لقد غازلت الحياة فهزأت بى وداعبت الزمن فسخر منى وتواجدت بالدنيا فوجدت على . وهويت الناس فهووابى . وانست الى الاحلام فازعجتنى وتعلقت بالامانى فاسقطتنى . وركننت الى النسب الرفيع فوجدته مصباحا انيقا ولكنه لا يصلح للاضاءة فى الظلام . واعتمدت على المال فوجدته سلاحا قويا لولا انه سريع الانثلام . واعجبت بجمال الجسم فتعشقته فما لبث ان ذوى . واغتررت بالشباب فما عتم حتى اطوى .
فعلمت ان الحياة ميدان جد وساحة جهاد ومزرعة لابد لها من حصاد . فاللاعب فيها لا يفلح . والماجن لا ينجح . والاهوج خسران . والمأفون لا يجنى غير الجرمان .
وانت - يا بنى - الآن قادم على حياة كلها كفاح ونضال فى ميدان الدنيا الفسيحة تحت نظر العالم الصاخب فى هذا الوجود المتطاحن فلابد لك من زاد يقيك . وخير ما ازودك به ان تنتفع بتجاريب ابيك فان التجارب تكشف الغطاء وترفع الالتباس وربما وقتك شرور كثير من الناس .
فلسوف ترى فى الحياة عجابا : خيراً فى صورة شروشراً فى صورة خير وحملا فى رداء ذئب وذئبا فى رداء حمل . وانسانا فى شكل وحش ووحشا فى شكل انسان
تعددت - يا بنى - فى هذا الزمن المذاهب حتى اتخذت اداة لنيل المآرب فالتبست الحقائق وكثر ادعياء العلم . وامعن الناس فى تغرير الناس بزخرف القول وروائع البيان مستبيحين لا نفسهم ذلك باسم الدعاوة لتكثير الاشياع وتضخيم الاتباع ولم يتحرجوا عن ان يرتد وابرداء النفاق ويتخذوا من قشور الاخلاق الفاضلة اقنعة يظهرون بها لتأليف القلوب حولهم وايناس النفوس مهم اكتسابا للسمعة الحسنة فى زعمهم وهم انما يبطنون غير ما يظهرون ويسرون غير ما يعلنون وربما اتخدع بهم كثير ممن يغترون بالمظهر ولا يلتفتون الى الجوهر . وقد يبوء هؤلاء وهؤلاء فى عاقبة امرهم واخرى ايامهم بالفشل الذريع . والوبال المريع. ويكونون من الاضلين فى هذه الحياة لدنيا الذين يحسبون انهم يحسنون صنعا وهم فى الأخرة من الاخرين
واخشى ما اخشاه عليك ان تؤتى من قبل دينك فتفقد دنياك وآخرتك فانك ستجد قوما من الافاكين يدعون العلم ويتمشدقون بحرية الفكر . ويدعون الى التحلل من القيود . والتعدى على الحدود التى حددها الله لعباده . والتى ما استقامت الحياة ولن تستقيم بدونها . فيك ان تتأثر باقوالهم او تستهويك الريفهم .
فهؤلاء - يا بنى - انما هم عبيد الشهوة وعشاق اللذة اشتعلت الشهوة فى اجسامهم حتى اذهبت عقولهم . واستنفذت اللذة قواهم حتى وهى تفكيرهم وأصيبوا بالخلط فاختلطت عقولهم وتشنجت أعصابهم . فراحوا يقلقون الناس بهراء يظنونه قولا مقبولا ، وتهويش يتوهمونه برهانا معقولا . وهو ان دل على شئ فانما يدل على الضعف والسخف يريدون بذلك جر الخليقة الى البوهيمية الشوهاء والاباحية العمياء والضلالة النكراء . حيث تغشى العقول غشاوة تمنعها من التفكير الصحيح فتخلو الصدور من الايمان والقيوب من الرحمة والرؤوس من النخوة . ويختفى الخير من الحياة . وتحل الوحشية القاسية محل
الانسانية السامية ويطل الشر على الدنيا ويرتفع السلام ويفشو الاجرام. ويصل البشر الى حالة يتقزز منها الشيطان قبل الانسان . فاذا ابيت الا الاصغاء لما يقولون . والانكباب على دراسة ما يكتبون ويذيعون . فاجعل من نفسك هى نفسك رقيباً ومن عقلك ورويتك عليك حسيبا .
أما إذا اطلقت لنفسك العنان لما عسادان يستهويك من كلامهم ولم تتذرع بما يمنعك ويقيك من الانزلاق فى مهاويهم تلك التى يخيل اليك إذا قدر لك الانزلاق فيها - ولا قدر - انك تعوم فى لجج الجمال أو انك تطير فى جو من نور . وما أنت فى نظر الحقيقة الا كالفراشة يعبث بها المصباح ويداعبها بشواظه الفاتر . فترف حوله حتى إذا ما وقعت فيه علمت انها انما كانت ترف حول النار لاحول النور
فاياك - يا بنى - ان تفتن فى دينك أو تعبث بمعتقدك فلا تركن إلى عقيدة . غير عقيدة الأسلام ولا تسترشد بغير القرآن ولا تتخذ أما ما غير محمد صلى الله عليه وسلم
فرفع الفتى رأسه وحملق بعينيه الواسعتين فى وجه الشيخ وقال أراك يا ابت تمعن فى الخشية على ابنك من الخروج عن حظيرة الفطناء وساحة العقلاء او يدور بخلدك ان اترك دينى او ان استخف بمعتقدي او تظن ان حجازيا يعتز بحجازيته يستبدل بغير الاسلام دينا . وبغير الحنيفية السمحة معتقدا حال كونه يعلم ان الحجاز ما كان ليصل الى ما وصل اليه من المجد والحرمة المستديمة الا حينما حمل لواء التوحيد . وما كان لحجازي - فى الغابرين - ان يجلس من الامم مجلس - الحكم - فيحكم عدلا . ويقضى فصلا حتى اذا ما قيس بغيره لا يوجد له عدل ولا يعادله مثل لولا ما نور الله به قلوب الحجازيين من تعاليم الدين الذى ارتضاهم لان يكونوا حماته ودعاته وانصاره ورعاته . أو يحسن بمن انفصل عنهم وانحدر منهم ان يميل الي اقاويل الامم المختلفة ويدع دينا جاء به مذل قيصر وقاهر كسرى ومنقذ العرب من ضلالتهم . فاذاهم نور الأرض وشعلة الحياة وزينة هذا الوجود .
فتحفز الشيخ لما سمع ووثب من مقعده كمن وخز بسله وكأن الدم قد ذر
فى عروقه وانتصب قائما وظهرت عليه علائم الاهتمام . وارتفع صوته الخافت وخرجت الكلمات من فمه مدوية متصلة . وكان شيئا نفخ فيه من روح الحياة وأفرغ فيه من حماس الخطباء . فهو يشير برأسه وبخبط بيده على المائدة . الموضوعة امامه ويقول :
ارجع - يا بنى - عما قلت فلقد اخطأت خطأ فاحشا وزللت عن طريق . الجادة النيرة وملت عن الصراط المستقيم . انا لا اريدك ان يكون تدينك بهذا الدين مبعثه التعصب للقومية العربية او التحمس للجنسية الحجازية . كما انى لا اريد منك ان يكون اعجابك بعظمة العظيم داعية لاعتناق دينه . ولا نجاحه فى خطته مغريا لك على اعتقاد معتقده . دون ان يقوم البرهان على حقه وباطله بن ولكن اريدك أن تعتقد الحق لانه الحق وتسلك النور لانه النور أوتد بالاسلام لانه الدين الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وكل دين عداه انما هو تحريف وتلفيق وتزوير وترقيع . وكل عقيدة تغايره ان هي الا تخريفات منمقة وأضاليل منسقه لا تلبث ان تذهب هباءاً تحت نور الحق الساطع والبرهان القاطع .
ان الاسلام - يا بنى - ضمن لمن دان به وعمل بهديه سعادتين سعادة - معجلة فى هذه الحياة الدنيا وسعادة مؤجلة فيما بعد الموت حيث الحياة السرمدية وقد رأينا كيف انجز الله وعده الذى وعد المسلمين به على لسان رسوله فكانت لهم العزة على أهل الارض . وجاوزت فتوحاتهم بلاد الفرس ومشارف الشام تلك . التى كان براها العرب فى جاهليتهم امنع عليهم من عقاب الجو وابعد عنهم من قاع البحر وصدقت نبوءة الرسول وتحقق خبر السماء .
وما كان لبشر مهما اوتى من الصفاء الروحي - كما يقول ادعياء الفلسفة - ان يتنبأ بالمغيبات فتأتى الحوادث كفلق الصبح مصداقا لنبوته فى الزمن الذي حدد وفى المكان الذى قال دون تبديل ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان ما لم يكن موحي اليه من رب السماء والأرض عالم الغيب والشهادة . وما دمنا قد
تحققنا صدق ما اخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل ما وعد به من النصر والظفر فى العاجلة - مما كان تحت اكناف الغيب - فى وقت الاخبار فماذا يصدنا عن التصديق بما اخبرنا به من امور الآخرة . ؟
أرأيت لو اتفقت مع انسان على عمل تقوم به وجعل لك اجراً عاجلا واضعافه آجلا ووفى معك غيره مرة حتى عرفت الصدق فى قوله والوفاء بوعده . افتشك بعدها فى كل ما يعدك به ان عاجلا او آجلا ؟ افيجحد بعد ذلك من كان عنده مسكة من عقل صحة ما وعدنا به بعد الموت من الحشر والنشر والحساب والعقاب والجنة والنار ؟ هذا الى جانب ما تطالعنا به الحياة من النقص فى احكامها والتى هى دليل صارخ على صحة ما اخبرنا به محمد صلى الله عليه وسلم من ضرورة وجود الدار الاخرى لتكميل ما منيا به فى هذه الحياة الفانية من عدم استكمال الامور كما يجب ان تكون عليه . اذ ليس مما تطمئن اليه الانفس ان يقال ان لاعدل يرجى من وراء هذه الحياة وان العدل كل العدل فى هذا الذي نراه يجري بين هذه الجماعات البشرية من استبداد الاقوياء بالضعفاء واستعباد الاغنياء للفقراء وغير ذلك مما تنطوى عليه المجتمعات فى مختلف الاقاليم من شرور ومفاسد يرتكبها الاشرار ويتحاشاها الاخيار . ثم يترك البشر بعد ذلك سدى دون ان يستوفى كل فرد جزاء ما قدمت يداه ان خيراً فخير وان شرا فشر . وما هى اذا حكمة وجود الانسان ؟ وما هى فائدة العقل المركب فيه دون غيره مما يشاركه فى الحيوانية ان لم يمتز عليها بتقدير الامور ومعرفة مصاير الاشياء ليترتب على اعماله الثواب والعقاب ؟
وما نزعت حكومات أوربا وأمريكا الى اتباع بعض النظم الاسلامية فى بعض احكامها الا بعد ان رأت ما فى هذه التعاليم من احكام يضمن للبشرية سعادتها وللانسانية أمنها ودعتها . فجرمت امريكا الخمر على رعاياها بعد أن رأت ما ينشأ من اباحتها من كثرة الجرائم التى لا تليق ان تصدر من أمة بلغت من الرقى شأوا يحسدها عليه الكثيرون . واباحت اوربا موارد العلم لكل ناهل بعد ان كان التعليم محظورا الا على فئات مخصوصة - كما يحدثنا بذلك تاريخهم القديم ( البقية على الصفحة ١٦ )

